كيف ننظر إلى تاريخنا؟
18 ربيع الأول 1429
د. محمد العبدة

ليس هناك عاقل يدعو أمته إلى تناسي أو إهمال تاريخها؛ لأن الذي يفقد التاريخ يفقد ذاكرته، ويعيش بلا ماض ولا يتهيأ لمستقبل. هناك أمم تبحث لها عن تاريخ ليكون لها شخصية وهوية، بينما نرى بعض المتغربين عندنا يحاولون تحطيم تاريخنا بالبحث عن المثالب حتى لشخصيات عظيمة كخالد بن الوليد - رضي الله عنه - وصلاح الدين الأيوبي، وإذا كان هناك أخطاء وقعت وتقع دائماً فهذا تاريخ بشر يخطئون ويصيبون، وهذه الأخطاء لها أمثال في أرقى الأمم من غير المسلمين.
التاريخ ليس علماً كالفيزياء والرياضيات، ولذلك فمجال الدس والتحريف والتشويه فيه كبير، وهناك أناس يختبئون وراء (المعاصرة) والحداثة لاغتيال التاريخ والعدوان على التراث وعلى الكتب وعلى الأبطال. الذي يريد أن يجر التاريخ إلى اعتقاده الخاص أو فكره الخاص فإنه يستطيع على ذلك بالتأويل الفاسد واعتماد الروايات الضعيفة والمرذولة.
هناك فئات تسمي نفسها (ثورية) تعتبر القرامطة حركة احتجاج وثورة، بينما هم في الواقع مخربون باطنيون قتلوا المسلمين حول الكعبة، والذي يعتنق الفكر اليساري يعتبر أبا ذر - رضي الله عنه - اشتراكياً؛ وهذا تشويش وتأويل فاسد؛ فليس من الإنصاف أن تلبس شخصيات في التاريخ مذهبك الذي تفكر فيه في هذا العصر وهم لم يخطر على بالهم هذه الآراء الحديثة.
التاريخ السياسي والتاريخ الحضاري:
دأب كثير ممن يكتبون التاريخ أو ينظرون في التاريخ أن يولوا اهتمامهم إلى الجانب السياسي منه، فيسردون تعاقب الدول والتعريف بالخلفاء والملوك، وما جرى في أيامهم من حوادث سياسية أيضاً، والناظر لهذا الجانب سيرى قمماً وسفوحاً ومنحدرات، وسيرى فيه عدلاً ورحمة وكذلك إسرافاً وظلماً، وسيرى ملوكاً صالحين مجاهدين وآخرين أصحاب أهواء وترف وسفك للدماء، والذي يكتفي بهذه الصورة سيسأل نفسه: هل يعقل أن يكون تاريخ المسلمين كله على هذه الشاكلة؟
والحقيقة أن الذي يركز على الجانب السياسي دون الجانب الحضاري فإنه يُفقِد التاريخ الإسلامي جوهره ويعطل دوره، وهذا التركيز يومي بشكل غير مباشر إلى إعطاء الأهمية للجانب السياسي على الجانب الحضاري. وقد شبه بعض المؤرخين التاريخ بالنهر الجاري فيه دماء وأشلاء والناس ينظرون إلى النهر ولا ينظرون إلى ضفافه وما عليها من حضارات وقيم أخلاقية وعلاقات اجتماعية وعلم وعمارة.
الجانب الحضاري في التاريخ الإسلامي بارز جداً، بل نلاحظ ازدهار العلم حتى في أحلك الظروف السياسية، وفي فترات الضعف والتجزؤ، والسبب في ذلك هو أن العلم هنا مرتبط بالدين؛ فالعلماء بشتى أصناف العلم يقومون بواجبهم تديناً، لا يريدون جزاء من الدولة أو من الناس. سنجد في العصور المتأخرة نسبياً، أمثال: ابن تيمية وابن خلدون، وسنجد ابن النفيس (في الطب) وابن البيطار (علم النبات) وسنجد في القرن العاشر أمثال ابن ماجد (علوم البحر) وفي القرن الحادي عشر داود الأنطاكي (علم الصيدلة). فالتاريخ الإسلامي ليس تاريخاً سياسياً فقط، بل هو تاريخ علماء ورجال، آلاف العلماء والأدباء والمؤرخين سنجدهم في كتب الطبقات،
أمثلة من الجانب الحضاري:
1- المدارس سواء كانت في المراحل الأولى أو المتقدمة، كانت منتشرة في كل العالم الإسلامي، وكانت أهلية تنفق عليها الأوقاف الكثيرة التي يوقفها المحسنون على العلم وطلبة العلم وكانت تكفي لإعانة كل ما تتطلبه المدارس من نفقات وما يحتاجه الطلبة من سكن أو كتب.
2- الأوقاف المتنوعة والكثيرة، حتى إنها تجاوزت الإنسان ووصلت إلى أن يكون هناك وقف على الحيوانات العاجزة أو التي تركها أصحابها.
3- الطب المتقدم جداً، سواء من حيث البحوث والمؤلفات أو من حيث طرق المعالجة والمستشفيات الكبيرة التي تتكفل بالعلاج والدواء.
4- بناء المدن، وقد بني في تاريخ الحضارة الإسلامية أكثر من ثلاثمائة مدينة أكثرها باق حتى الآن، والذي بدأ بهذا المشروع هو الخليفة العبقري عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
5- المكتبات: العامة والخاصة، ومن الأمثلة التي قد يستغربها الإنسان أن مكتبة الأمير الحكم بن عبد الرحمن الناصر الأموي الأندلسي بلغت أربعمائة ألف مجلد، وكانت أكثر بيوت المسلمين في الأندلس فيها مكتبة صغيرة أو كبيرة، وعندما تملك الأسبان وخرج المسلمون من الأندلس أحرق الطاغية (فرديناند) في ساحة غرناطة حوالي مليونين من المخطوطات التي خلفها المسلمون؟!
6- المرأة والعلم: من يقرأ كتب الطبقات سيجد دائماً ذكر لعالمات شهيرات في الفقه أو الحديث أو الوعظ، وقد ذكرت كتب التاريخ أن في حي من أحياء قرطبة كان مئة وسبعون امرأة يكتبن المصاحف، هذا في حي واحد؛ فكيف بقرطبة كلها؟
7- الحضارة الإسلامية حضارة غير استعمارية(1) فلم تنهب خيرات الشعوب الأخرى وتكدسها لصالح فئة معينة، ولم تبن الآثار الضخمة كما يفعل الفراعنة والأكاسرة والقياصرة، الذين يستخدمون نظام (السخرة) للشعوب المظلومة التي تحت أيديهم؛ فالسخرة محظورة في شريعة الإسلام.
التاريخ السياسي والأمة:
مع التمزق السياسي في بعض الفترات إلا أن الأمة بقيت موحدة اجتماعياً وسياسياً، فكان من الطبيعي أن العالم أو أي مسلم يستطيع الانتقال إلى أي بلد يريده ويقيم فيه وله جميع الحقوق. فليس هناك حدود ولا جوازات ولا تأشيرات (وهذه من بدع الدولة القومية التي نشأت في الغرب) وليس هناك حواجز اجتماعية بسبب العرق أو اللون أو الأصل الطبقي، وفي ظل هذه الحضارة وصل المماليك إلى أعلى درجات السلطة، وقد حافظ الفرد في هذه الحضارة على القيم الإسلامية، وهذا مما ساعد مشاريع النهضة ومقاومة الاستعمار في العصر الحديث.
وإذا كان مبدأ الشورى قد عُطل بعد الخلفاء الراشدين لكنه بقي حراً في نطاق الفقه والاجتهاد، وبقيت وحدة الأمة وسيادة الشريعة واستقلال الفقه واستقلال الأمة عن السيطرة الأجنبية.
وإذا كان مبدأ الشورى قد عطل إلا أن الحكام كانوا مقيدين بالشريعة، وقد جاء في الحديث: «لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم تجتمع عليه الأمة، كلهم من قريش» وقد فسر المؤرخ ابن كثير هذا الحديث بأن هذا العدد متفرق في بني أمية وبني العباس. مثل معاوية وعبد الملك وهشام والمنصور والرشيد، يقول المؤرخ الأمريكي (ول ديورانت): «لايسعنا إلا أن نسلم بأن الخلفاء من أبي بكر إلى المأمون قد وضعوا النظم الصالحة الموفقة للحياة الإنسانية في رقعة واسعة من العالم».
مقارنة مع تاريخ الغرب:
إن الذين ينظرون إلى تاريخنا السياسي ويذكرون ما فيه من سلبيات، هؤلاء ينظرون إلى تاريخ الغرب مجملاً كالذي ينظر إلى الجبل من بعيد فلا يرى إلا القمم أو كالذي ينظر إلى القمر من بعيد، وهكذا يذكرون شخصيات مثل نابليون أو بسمارك، وتشرشل وأدباء ومكتشفين.. ونحن ننظر إلى تاريخنا من قريب بتفاصيله، فنرى الأخاديد والسهول والوديان والقمم. هؤلاء المعجبون بتاريخ الغرب لا يعلمون أن ألمانيا قبل مئة عام كانت مقسمة إلى (39) دولة ولا يعلمون عن حروب الثلاثين وحروب السبعين عاماً في أوروبا، هذا عدا عن الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية.
في أوروبا القرن السابع عشر كان فيلسوف السياسة (لوك) يقول: «للحاكم المدني سلطة مطلقة على كل أفعال الناس، وعليهم أن يطيعوا القوانين التي يسنها الحاكم حتى لو كانت خاطئة، ولا يحق لهم أن يضعوا موضع التساؤل عدالة أوامره..»(2).
الغرب لا يتدخل في الخصوصيات، في الحياة الخاصة للرئيس أو العالم، فالكُتَّاب يرسمون صوراً زاهية للقادة لما قدموه من خدمات، فيأتي تاريخهم وكأنه كله بطولات، ولكن بعد وفاتهم تظهر الفضائح سواء في مذكراتهم أو في ما يكتب عنهم. ونحن في تقويمنا للأعلام نهتم بعقيدتهم وأخلاقهم كما نهتم بأعمالهم.
لا أحد ينتقد الغرب إذا رجع إلى الماضي (أفلاطون، دانتي، توما الأكويني..) ولكن إذا رجعنا إلى تاريخنا نستنطقه ونحلله يقال عنا: ماضويين سلفيين... تقدسون الماضي ولا تعيشون الحاضر، فهل الرجوع إلى الماضي حلال على الغربيين حرام علينا؟
-------------------------
الهوامش:
(1) نستعمل هنا كلمة (استعمار) بالمصطلح المعاصر الذي توصف به الحضارة الأوربية، وليس الاستعمار بالمعنى القرآني.
(2) لوك: رسالة في التسامح/ 42.