هلا تركتها لغيرك ياصغير ؟!
9 رجب 1429
د. خالد رُوشه

يخطىء بعض المربين عندما يتصورون أن التربية الناجحة حتما لابد أن تؤدي إلى تربية فقيه شرعي أو خطيب مفوه أو محاضر مغوار ليس إلا , ويحصرون أهدافهم في تربية الأجيال التي تحت أيديهم حول تلك الأصناف الثلاثة , ومن ثم ينتقل ذلك التصور إلى الأفراد فتصير آمالهم منعقدة بناصية كونهم أحد هذه الأصناف الثلاثة , وهي مقامات يحتاج القائم بها إلى مواصفات خاصة سواء علمية أو نفسية أو إيمانية خصوصا لأنها تتعامل مباشرة مع الناس وتكون عرضة للعرض العام ..

ولاشك أن لهذه الأوصاف الثلاثة ( الفقيه – والخطيب , والمحاضر ) قيمتها الرفيعة - عند الله سبحانه وفي نفع الناس وتوجيه الأمة وصيانتها - إذا أخذت بحقها فتحلت بالإخلاص التام والعطاء الدائم والتجرد النبيل ..

إلا أن الحاصل في بعض الأحوال أن تحيد العملية التربوية عن مسارها السامي الشفاف إلى حالة من التزين والتجمل أمام الناس فيتربى الشخص على حب التصدر والإفتاء والرغبة في الألقاب وتنمو فيه شهوة خفية بحب الشهرة ..

الواجب إذن أن نضع هدفنا التربوي فيما يلائم ويناسب احتياجات أمتنا , ونربي أبناءنا على ذلك من شتى الجوانب , نعم نحتاج الفقهاء وهؤلاء يربون بشكل علمي منهجي ويصبرون على العلم الرصين ويتعلمون الفقه بأصوله و نحتاج الخطباء فيربون متخصصين في ذلك يحسنون مخاطبة الناس في شتى مناحي حياتهم , ولا يقتصرون على الترغيب والترهيب والصراخ والبكاء , ويحصلون قيمة كبيرة ومناسبة من العلوم التي بها يحسنون في توجيه الناس على اسس سليمة , وليس مجرد صوت قوي وتقليد لأحد المشاهير ..

إن الأمة تحتاج إلى جميع النابهين في شتى المجالات , وتفتقر إلى جميع إلى المتميزين في مختلف التخصصات , سواء تكنولوجية أو اجتماعية أو تربوية أو فكرية أو غيرها , ولن تقوم أمة إذا لازم أبناؤها كلهم كونهم خطباء أو محاضرين وفقط !!
 

هذا للأسف مع كونك  تلحظ رغبة بادية من الأفراد أن يكونوا متصدرين للفقه والفتوى أو للخطابة والمحاضرة أو للقيادة والتوجيه وهم بعد لم يتجاوزوا أول درجات السلم في ذلك الطريق ..

أذكر أني التقيت فضيلة الشيخ الدكتور ناصر العمر منذ ما يزيد عن 15 عاما في مكتبة مكة المكرمة فسألته عن خير السبل للمواظبة على التعلم والتفقه , فأخبرني أن أعقد نيتي لله أولا ثم ألازم ركاب العلماء الأتقياء الأثبات وأن ألزم الكتب الشرعية وأن أتعلم العلم المنهجي من شتى جوانبه , فقلت له كم ساعة في اليوم تراها كافية؟ فقال لا أرى أقل من ست ساعات تكفي لمن أراد الابتداء في سبيل أهل العلم .. ثم قال لي ..إذا ضعفت عن التعلم فإياك من التصدر ..

 وفي لقاء شاء الله أن ألتقي فيه ببعض العلماء الكرام وجمعني مع جمع منهم طعام فطور , وكان على المائدة فضيلة الدكتور أحمد طه ريان شيخ المالكية بمصر وفضيلة الدكتور حسين حامد رئيس مجمع فقهاء الشريعة وفضيلة الدكتور علي السالوس شيخ الشافعية المعروف , وكلهم – بارك الله في أعمارهم - قد جاوزوا الستين  , وأردت أن أطرح سؤالا للمناقشة والاستفادة بوجودهم , فظلوا ثلاثتهم يتقاذفون الإجابة على السؤال ويأبى كل واحد منهم أن يجيب إلا بعد أن يبدأ الآخر مكبرا به , وكارها أن يفتي في حضرته ..

عدت يومها إلى منزلي محاولا المقارنة بين كلمات هؤلاء العلماء ومواقفهم , وبين شباب لم يتعلم أصول التفقه ولازال يلحن في لغته العربية بشكل مؤلم , ولم يجالس العلماء ولم يتعلم تعلما منهجيا حتى في جامعات شرعية  , وإذا به يتجرأ على إفتاء الناس ويتجرأ على القول على الله بلا علم , رغبة منه في التصدر والشهرة , ولايجد من يمنعه بل يجد كل تشجيع وترحيب ..فأصابني الحزن والأسى .

واجبكم أيها المربون أن تأخذوا على يد كل مبتدىء أن يتقن ماهو في سبيله قبل أن يتصدر للناس فإنها مسئولية أمام الله ثم تحمل أمتنا مضارها ..

واجبكم أن تعرفوا ابناءكم وتلاميذكم أن مجالات النبوغ والنفع كثيرة متكاثرة , وقد يكون بعضها أوجب في وقت ما من غيره , وأن يأخذوا كل أمر من سبيله العلمي الصحيح , ولا نترك للمتعالمين الجهال سبيلا فتفسد منابرنا العلمية ومعاملنا العملية ..