كل الناس يتألمون في لحظة من لحظات حياتهم , وبينما يفارق الألم بعضهم في أوقات , تراه يلاصق آخرين لأيام وربما سنوات , ومن الناس من يسكنهم الألم أبدا , ومنهم من يرى حياته كلها ألما وعذابات .
ومنهم من سكن للألم وسكن الألم فيه حتى صارا كلا واحدا يتحرك ويحيا.
والألم قد يسبب القعود عن المعالي والركون إلى المقدور , وبالتهديد بالألم رجع كثير من السائرين عن دروبهم خوفا , وتنكب الحادون إلى طموحهم رعبا ووجلا
والضعفاء يسقطون مع أول وخزة للألم في طريقهم وينهارون مع أول هجماته عليهم فتراهم يعلنون الهزيمة لمجرد رؤية العدو.
وليس الألم كله شرا بل قد يكون الخير في الألم , إذ به يعود الغارب عن الصواب , ويؤوب به الغائب عن اللُغَاب , فكم من غافل ذكّره الألمُ فذكر , وكم من طاغ علمه الألمُ الأدب .
ومن حكمة الله سبحانه أن يكون من الألم عدلا , وحكمة , وصلاحا للدنيا , وتسييرا لنواميس الكون الرحيبة , فالشر ليس إليه سبحانه , إذ ينظر الكثيرون للألم كشر محض , ولكنه سبحانه قدّر أن يكفر بالألم عن ذنوب المذنبين , ويرفع به درجات الآيبين , فلكأنما لسان حال المتألم العالم ببواطن الحقيقة أن يقول : هلم إلي أيها الألم الصديق !
يقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولاهم ولاحزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه " أخرجه مسلم
فأحيانا تستعصي التوبة على المرء ويتجمد قلبه تجاه الاستغفار , وبينما هو يظن الهلكة , إذ يأتيه الألم فيرقق قلبه ويدمع عينه ويؤيبه إلى ربه .
والألم هو دواء من افتقد التواضع وشق عليه سياسة نفسه لمّا تتكبر , فإنما هي جرعة من ألم مركزة حتى يصير العزيز ذليلا , والمستكبر متواضعا , والمترفع خاشعا .
وأشد الألم أوله , وأشقه على النفس بداياته , ففي بداياته يسقط الضعفاء وينهار المكسورون , لذا كان أمر النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين أن يصبروا أشد الصبر عند النزلة الأولى فقال للمرآة التي تتألم بموت ولدها " إنما الصبر عند الصدمة الأولى " رواه مسلم , ويوم أن نصح الناصح الإمام أحمد في الصبر على ضرب السوط قال له : اصبر فإنما هي الضربة الأولى وبعدها يستوى كل شىء
وأخطر السقطات عند الألم أول لفظة , فمن تحكم فيها ولم يقل إلا خيرا فقد خطى أول خطوات الانتصار على الألم , ومن زل فيها فقد سقط في هوة سحيقة , لذا علم النبي صلى الله عليه وسلم أن نضبط اللسان عند المصائب والآلام ويوم أصابه مصاب ولده قال " إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول ما يغضب الرب " , بل علم أن من أصابه ألم فاسترجع وسأل الله العاقبة فيه أجره فيه وأبدله خيرا منه إذ يقول : "ما من عبدٍ تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها, إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيراً منها " أخرجه مسلم
واحتساب الألم هو العلاج الناجع الفتاك الذي لا يبقى للألم أثرا يذكر في الحقيقة وإن بدا أثره في بعض الظواهر , إنه الاحتساب , حيث يسأل المتألم ربه أن يثيبه بألمه ثوابا وأن يكفر عنه به ذنبه وأن يرفع به درجته وأن يغفر به ذلته ,فهو عندئذ يرى الألم بلون آخر وقد يتمني بعضهم أن يطول به ألمه ليزيد ثوابه وأجره , وآخرون فاقوا هؤلاء فاصطحبوا الرضا بقضاء ربهم واستقرت نفوسهم لمصابه ,
ومما يقتل الألم قلة الشكوى , والعاقل الحكيم لايشكو إلا للقادر العليم , ومن يقدر على ذلك إلا الله وحده؟ فيفعل مثلما فعل ابن سيرين ينصح ولده فيقول له يا بني لا تشكو للناس شيئا فوالله لقد ذهبت إحدى عيني منذ عشرين عاما ولم يعلم بها أحدا أبدا إلا أنت الآن لأعلّمك !
إنها مناجاة تحصل بين صاحب الألم وربه سبحانه , يشكو له فيها مما يجد , ويبث له ما يشعر , حيث الرحمة الغامرة , والسكينة العامرة , والثواب الجزيل .
-------------------------------------------
** بتصرف من مقال مطول بعنوان : ( ترويض الألم ) للكاتب