عبودية الصائمين
2 رمضان 1429
لا يفهم الصلة بين العبد وربه إلا من عرف صفة العبد وفقره وحاجته، وعرف صفات الرب جل جلاله، تلك الصفات العلى.. إنها صلة غريبة فريدة لا نظير لها ولا مثال..، لذلك لهجت الصحف السماوية والأديان والشرائع بالعقائد والصفات قبل أن تحدد الصلات وتدعو إلى العبادات وتسن الفرائض وتحث على الطاعات.
وقد سبقت العقيدة في جميع الرسالات الأحكام والشرائع ودعا جميع الرسل إلى العلم بالله وصفاته وتوحيده وتقديسه وتنزيهه قبل أي شيء.. والقرآن الذي جاء مهيمنا على كل الكتب قد جلى هذا المعنى بأكبر قوة ووضوح.
والإنسان ذاك المخلوق البديع، مختلف عن غيره من المخلوقات فهو: ضعيف يحب القوة والغلبة، فقير يحب الغنى، خاضع للموت يحب البقاء، متعرض للأمراض ولوع بالصحة، كثير الحاجات بعيد الأمل، سؤوم ضجر، لا تشبعه عطية، ولا يملأ عينه إلا التراب، هذا الإنسان عليه أن يتأمل صفات ربه - تعالى -من قوة وقدرة وعلم وخبرة ورحمة ولطف وكرم وجود وبكل ما جاء من النعوت والأوصاف الثابتة الصحيحة التي جاءت في القرآن أو على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "فاعلم أن سر العبودية وغايتها وحكمتها، إنما يطلع عليها من عرف صفات الرب - سبحانه - ولم يعطلها، وعرف معنى الإلهية وحقيقتها، ومعنى كونه إلهًا، بل الإله الحق وكل إله سواه فباطل، بل أبطل الباطل، وأن حقيقة الإلهية لا تنبغي إلا له، وأن العبادة موجب إلهيته وأثرها ومقتضاها، وارتباطها بها كارتباط متعلق الصفات بالصفات، وكارتباط المعلوم بالعلم، والمقدور بالقدرة، والأصوات بالسمع، والإحسان بالرحمة، والعطاء بالجود... " مدارج السالكين
فاعلم أن سر العبودية وغايتها وحكمتها، إنما يطلع عليها من عرف صفات الرب - سبحانه - ولم يعطلها، وعرف معنى الإلهية وحقيقتها، ومعنى كونه إلهًا، بل الإله الحق وكل إله سواه فباطل، بل أبطل الباطل، وأن حقيقة الإلهية لا تنبغي إلا له، وأن العبادة موجب إلهيته وأثرها ومقتضاها
* * كل يسبح بحمده ويسجد له..
إذا تأمل العبد في ذلك احتاج أن يكون في خضوع دائم، وركوع وسجود لا انقطاع لهما، ومناجاة ودعاء لا نهاية لهما أمام ذاك الرب الكريم، لا إله إلا هو الذي أعطاه من كل ما سأل بلسان القال أو بلسان الحال "وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ".
والكون كله في خضوع دائم لذلك الرب القوي المتعال، فآلاف من السنين ظلت الشمس وهاجة وظل القمر سراجا، وانتصبت الجبال قائمة، ووقفت الأشجار على سوقها، وهبت الرياح لواقح، وصارت السحب مزنا وجرت الأنهار ريّا.. كل هذه المخلوقات في عبادة دائمة وخضوع كامل لأمر الله تعالى، فلا عصيان ولا ثورة، ولا تمرد ولا جموح، ولا سآمة ولا إضراب، ولا انقطاع ولا توقف، فهي في سجود دائم، قال الله - تعالى -: " ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء ".
إن الإنسان بشرفه واختصاصه وعقله وقلبه ونفسه وفكره وعلمه واختياره لأحق من هذه المخلوقات جميعا أن يكون في عبادة دائمة لا انقطاع لها وفي حمد وتسبيح لا يفتر عنه لسانه وفي إخضاع لجوارحه تام لا ينحرف عنه طرفة عين.
والعبد الذي ذلل جوارحه لطاعة ربه وسيرها للسير في مدارات مستحباته، وأشربها الرضا به ربا وبرسوله خاتما وبكتابه دستورا ليجد حلاوة الإيمان في كل سكنة وحركة وفي كل لمحة ونفحة.. ففي الصحيح " ذاق حلاوة الإيمان من رضي بالله ربا وبمحمد رسولا وبالقرآن كتابا منزلا "
وفي الحديث القدسي الثابت " وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه ".
ومن هنا حرص الصالحون دائما على تقوية تلك الصلة الشفافة بينهم وبين خالقهم.. وكانوا كثيرا ما يتألمون عند ذكر ذنوبهم وتقصيرهم في حق ربهم:
إذا تأمل العبد في ذلك احتاج أن يكون في خضوع دائم، وركوع وسجود لا انقطاع لهما، ومناجاة ودعاء لا نهاية لهما أمام ذاك الرب الكريم، لا إله إلا هو الذي أعطاه من كل ما سأل بلسان القال أو بلسان الحال "وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ".
كان شداد بن أوس إذا دخل الفراش يتقلب على فراشه لا يأتيه النوم، فيقول: اللهم إن النار أذهبت مني النوم فيقوم فيصلي حتى يصبح.
وقال نعيم بن حماد: كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب الرقاق يصير كأنه ثور منحور من البكاء، لا يجترئ أحدٌ منا أن يسأله عن شيء.
قال الفضيل بن عياض: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم مكبل كبلتك خطيئتك.
وقام تميم بن أوس الداري - رضي الله عنه - بآية يتلوها حتى أصبح: "أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ... " [الجاثـية: 21] الآية
وكان تحت عيني ابن مسعود مثل الشراك البالي من كثرة القيام والبكاء.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لقد رأيت أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فلم أر شيئًا يشبههم قط، كانوا يصبحون شعثًا غبرًا بين أعينهم كركب المعزى، فإذا صلوا مادوا كما تميد الشجر في يوم الريح، فكأني بالقوم باتوا غافلين.
* * عبودية الصيام وصلة المقربين:
وتغمرنا في أيام الصوم ثلاثة معان راقية: أولها: أن الصيام شرع لنا فيه من الأعمال الصالحة ما يكون سببا في تكفير ذنوبنا ورفعة درجاتنا. وثانيها: أن الله - تعالى -فيه يوفق إلى العمل الصالح ولولا معونة الله وتوفيقه لما تيسرت لنا الصالحات، وثالثها: أن الله أعد به - فضلا منه - الأجر المضاعف على الأعمال الذي يصل بالناس إلى يوم منتهاه العتق من العذاب..
وفي عبودية الصيام صار العابدون قسمين: أولهما من ترك طعامه وشرابه وشهوته لله - تعالى -يرجو عنده عوض ذلك في الجنة فهذا قد تاجر مع الله والله لا يضيع أجر العاملين " ففي الحديث: " إنك لن تدع شيئا اتقاء لله إلا أتاك الله خير منه "، وأما الطبقة الثانية: فهي طبقة من يصوم في الدنيا عما سوى مرضات الله فيحفظ الرأس وما حوى والبطن وما وعى ويذكر الموت والبلى ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه فتدبر في ذلك المعنى واستحضر الحديث الرباني له - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: " إن للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ". متفق عليه
بعض الناس إذا فعل بعض الطاعات والقربات في أيام معدودات اطمأن لعمله وركن إليه وارتاحت نفسه لطاعاته ورضي بما يقدم لله، بل تولد عنده شعور أنه أدى حق الله عليه، وقد يجره هذا الشعور إلى الإعجاب بعمله والسرور به والغرور به، نعم الصالحات تسعد أهل الإيمان، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو صالح، وقلب المؤمنين يفرح بالثواب.. ولكننا نحذر من الاغترار بالعمل،
* * عبودية منع الاغترار:
بعض الناس إذا فعل بعض الطاعات والقربات في أيام معدودات اطمأن لعمله وركن إليه وارتاحت نفسه لطاعاته ورضي بما يقدم لله، بل تولد عنده شعور أنه أدى حق الله عليه، وقد يجره هذا الشعور إلى الإعجاب بعمله والسرور به والغرور به، نعم الصالحات تسعد أهل الإيمان، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو صالح، وقلب المؤمنين يفرح بالثواب.. ولكننا نحذر من الاغترار بالعمل، أن تعجبك عبادتك، والصالحون لا يفعلون ذلك؛ لأن الصالحين دائمًا يشفقون من ربهم ويخافون ألا يقبل منهم أعمالهم، ولا يأمنون على أعمالهم أن يكون قد شابها ما يردها عند الله فلا يقبلها - سبحانه -، قال الله - سبحانه -: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60]، قالت عائشة - رضي الله عنها -: سألت رسول الله عن هذه الآية فقلت: أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون؟ فقال: (لا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون، ويصلون، ويتصدقون، ويخافون ألا يتقبل منهم)أخرجه الترمذي.
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "فالرضا بالطاعة من رعونات النفس وحماقتها، وأرباب العزائم والبصائر أشد ما يكونون استغفارًا عقيب الطاعات لشهودهم تقصيرهم فيها وترك القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه وقد أمر الله - تعالى -حجاج بيته بأن يستغفروه عقيب إفاضتهم من عرفات وهو أجل المواقف وأفضلها فقال: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ. ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[البقرة: 198-199] وقال - تعالى -: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17]، قال الحسن: مدوا صلاتهم إلى السحر ثم جلسوا يستغفرون الله - عز وجل -، وفي الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثًا" رواه مسلم.. " مدارج السالكين
فإن الاعتماد على العمل وحده يولد غرورًا وعجبًا وسوء أدب مع الله - سبحانه -، وصاحب العمل لا يدري هل قُبل عمله أم لا، ولا يدري قدر ذنوبه ومعاصيه، وهل يثقل بها عمله أم لا، فينبغي طلب رحمة الله ومغفرته دائمًا وهو الغفور الرحيم