
روى النسائي وغيره عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (حبب إلي النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة) ** ، وقد كان هذا الحديث يستوقفني كثيراً من حيث صحته ومعانيه وألفاظه ودلالاته، وكلما أردت تأمله، والغوص في معانيه، وتتبع كلام العلماء فيه شغلني عنه شاغل، حتى جاءت الفرصة المناسبة، فقرأت جملة كبيرة مما سطرته يراع العلماء عن هذا الحديث، فأخذت المحبر والكاغد، فدونت ما استحسنته من كلامهم، ثم عدت فنسقته ونظمته، فكان الكلام على الحديث من وجوه :
وأما حكمة إباحة نكاح أكثر من أربع بالنسبة له r فقد قال المناوي في الفيض: (والإكثار منهن لنقل ما بطن من الشريعة مما يستحيا من ذكره من الرجال، ولأجل كثرة سواد المسلمين ومباهاته بهم يوم القيامة)، ونقل السيوطي في شرحه على النسائي قول السبكي: السر في إباحة نكاح أكثر من أربع لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أراد نقل بواطن الشريعة وظواهرها وما يستحيا من ذكره ومالا يستحيا منه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الناس حياء، فجعل الله تعالى له نسوة ينقلن من الشرع ما يرينه من أفعاله، ويسمعنه من أقواله التي قد يستحي من الإفصاح بها بحضرة الرجال ليكتمل نقل الشريعة، وكثر عدد النساء ليكثر الناقلون لهذا النوع، ومنهن عُرف مسائل الغسل والحيض والعدة ونحوها، قال: ولم يكن ذلك لشهوة منه في النكاح، ولا كان يحب الوطء للذة البشرية معاذ الله، وإنما حبب إليه النساء لنقلهن عنه ما يستحي هو من الإمعان في التلفظ به، فأحبهن لما فيه من الإعانة على نقل الشريعة في هذه الأبواب، وأيضا فقد نقلن ما لم ينقله غيرهن مما رأينه في منامه وحالة خلوته من الآيات البينات على نبوته، ومن جده واجتهاده في العبادة، ومن أمور يشهد كل ذي لب أنها لا تكون إلا لنبي وما كان يشاهدها غيرهن فحصل بذلك خير عظيم...)، وقد ذكر ابن حجر في فتح الباري(9/115) أن الذي تحصل من كلام أهل العلم في الحكمة في استكثاره من النساء عشرة أوجه ثم سردها، وأضاف عليها الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله فأوصلها إلى خمسة عشر حكمة، فلتراجع.
قال علي القاري في مرقاة المفاتيح: مسألة قوله: (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة) لم بدأ بالنساء، وأخر الصلاة؟، الجواب: لما كان المقصود من سياق الحديث ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من متاع الدنيا بدأ به كما قال في الحديث: ما أصابنا من دنياكم هذه إلا النساء، ولما كان الذي حبب إليه من متاع الدنيا هو أفضلها وهو النساء بدليل قوله في الحديث الآخر (الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة) ناسب أن يضم إليه بيان أفضل الأمور الدينية، وذلك الصلاة فإنها أفضل العبادات بعد الإيمان، فكان الحديث على أسلوب البلاغة من جمعه بين أفضل أمور الدنيا وأفضل أمور الدين...)
لقد وقف بعض العلماء عند هذا الحديث وقفات جميلة، ومن أجمل الوقفات ما سطرته يراع ابن تيمية، وتلميذه النجيب ابن القيم رحمهما الله في مواضع عدة من كتبهما، ولم أجد نفسي بعدهما تحتاج إلى تعليق غيرهما، إذ على الخبير سقطت كما يقال، وما سطراه لا تدع القارئ يعرض عن التدوين والاقتطاف، وأجدني مضطراً إلى نقل شيء من كلامهما، وكلام غيرهما من العلماء بعد ذكر فوائد الحديث: فمن فوائده:
الفائدة الأولى: أنه لا تثريب على الزوج في ميله لزوجته ومحبته إياها، وذكر ذلك الحب صراحة، يقول ابن القيم في إغاثة اللهفان: (فلا عيب على الرجل في محبته لأهله وعشقه لها إلا إذا شغله ذلك عن محبة ما هو أنفع له من محبة الله ورسوله، وزاحم حبه وحب رسوله، فإن كل محبة زاحمت محبة الله ورسوله بحيث تضعفها وتنقصها فهي مذمومة، وإن أعانت على محبة الله ورسوله، وكانت من أسباب قوتها فهي محمودة، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الشراب البارد الحلو، ويحب الحلواء، والعسل ويحب الخيل، وكان أحب الثياب إليه القميص، وكان يحب الدباء، فهذه المحبة لا تزاحم محبة الله، بل قد تجمع الهم والقلب على التفرغ لمحبة الله، فهذه محبة طبيعية تتبع نية صاحبها وقصده بفعل ما يحبه، فإن نوى به القوة على أمر الله تعالى وطاعته كانت قربة، وإن فعل ذلك بحكم الطبع والميل المجرد لم يثب ولم يعاقب، وإن فاته درجة من فعله متقربا به إلى الله، فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع: محبة الله، ومحبة في الله، ومحبة ما يعين على طاعة الله تعالى واجتناب معصيته، والمحبة الضارة ثلاثة أنواع: المحبة مع الله، ومحبة ما يبغضه الله تعالى، ومحبة ما تقطع محبته عن محبة الله تعالى أو تنقصها، فهذه ستة أنواع عليها مدار محاب الخلق...).
الفائدة الثانية: فيه أن الصلاة هي قرة عيون المحبين، وبها وعندها الراحة، ولا يجدون الأنس والطمأنينة والسكينة إلا فيها حيث الخشوع والخضوع والتذلل لله والانكسار بين يديه، قال ابن حجر: (ومن كانت قرة عينه في شيء، فإنه يود أن لا يفارقه ولا يخرج منه؛ لأن فيه نعيمه، وبه تطيب حياته، وإنما يحصل ذلك للعابد بالمصابرة على النصب، فإن السالك غرض الآفات والفتور)، وقد بلغت الصلاة عنده r مبلغاً لم يبلغه أحد سواه حيث بلغت مرتبة فوق درجة المحبة، وهي مرتبة قرة العين وراحة البال، يقول ابن القيم في رسالة له إلى أحد إخوانه: وليس في الدنيا نعيم يشبه نعيم أهل الجنة إلا هذا، ولهذا قال النبيr :حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة) فأخبر أنه حبب إليه من الدنيا شيئان النساء والطيب، ثم قال: وجعلت قرة عيني في الصلاة، وقرة العين فوق المحبة، فإنه ليس كل محبوب تقر به العين، وإنما تقر العين بأعلى المحبوبات الذي يحب لذاته، وليس ذلك إلا الله الذي لا إله إلا هو، وكل ما سواه فإنما يحب تبعا لمحبته، فيحب لأجله ولا يحب معه، فإن الحب معه شرك، والحب لأجله توحيد... والمقصود أن ما تقر به العين أعلى من مجرد ما يحبه، فالصلاة قرة عيون المحبين في هذه الدنيا لما فيها من مناجاة من لا تقر العيون ولا تطمئن القلوب ولا تسكن النفوس إلا إليه، والتنعم بذكره والتذلل والخضوع له والقرب منه، ولا سيما في حال السجود وتلك الحال أقرب ما يكون العبد من ربه فيها، ومن هذا قول النبيr: (يا بلال أرحنا بالصلاة) فأعلم بذلك أن راحته في الصلاة كما أخبر أن قرة عينه فيها، فأين هذا من قول القائل: نصلي ونستريح من الصلاة، فالمحب راحته وقرة عينه في الصلاة، والغافل المعرض ليس له نصيب من ذلك، بل الصلاة كبيرة شاقة عليه، إذا قام فيها كأنه على الجمر حتى يتخلص منها، وأحب الصلاة إليه أعجلها وأسرعها، فإنه ليس له قرة عين فيها ولا لقلبه راحة بها، والعبد إذا قرت عينه بشيء واستراح قلبه به فأشق ما عليه مفارقته، والمتكلف الفارغ القلب من الله والدار الآخرة المبتلى بمحبة الدنيا أشق ما عليه الصلاة، وأكره ما إليه طولها مع تفرغه وصحته وعدم اشتغاله، ومما ينبغي أن يعلم أن الصلاة التي تقر بها العين ويستريح بها القلب هي التي تجمع ستة مشاهد، المشهد الأول:
الإخلاص: وهو أن يكون الحامل عليها والداعي إليها رغبة العبد في الله، ومحبته له وطلب مرضاته، والقرب منه والتودد إليه وامتثال أمره، بحيث لا يكون الباعث له عليها حظا من حظوظ الدنيا ألبتة، بل يأتي بها ابتغاء وجه ربه الأعلى محبة له وخوفا من عذابه ورجاء لمغفرته وثوابه،
المشهد الثاني: مشهد الصدق والنصح، وهو أن يفرغ قلبه لله فيها، ويستفرغ جهده في إقباله فيها على الله، وجمع قلبه عليها، وإيقاعها على أحسن الوجوه وأكملها ظاهرا وباطنا، فإن الصلاة لها ظاهر وباطن، فظاهرها الأفعال المشاهدة والأقوال المسموعة، وباطنها الخشوع والمراقبة وتفريغ القلب لله والإقبال بكليته على الله فيها بحيث لا يلتفت قلبه عنه إلى غيره... المشهد الثالث: مشهد المتابعة والاقتداء وهو أن يحرص كل الحرص على الاقتداء في صلاته بالنبيr ويصلي كما كان يصلي، ويعرض عما أحدث الناس في الصلاة من الزيادة والنقصان، والأوضاع التي لم ينقل عن رسول الله شيء منها ولا عن أحد من أصحابة...،
المشهد الرابع: مشهد الإحسان وهو مشهد المراقبة وهو أن يعبد الله كأنه يراه، وهذا المشهد إنما ينشأ من كمال الإيمان بالله وأسمائه وصفاته... فحظ العبد من القرب من الله على قدر حظه من مقام الإحسان، وبحسبه تتفاوت الصلاة حتى يكون بين صلاة الرجلين من الفضل كما بين السماء والأرض، وقيامهما وركوعهما وسجودهما واحد، المشهد الخامس: مشهد المنة وهو أن يشهد أن المنة لله سبحانه كونه أقامه في هذا المقام، وأهله له، ووفقه لقيام قلبه وبدنه في خدمته فلولا الله سبحانه لم يكن شيء من ذلك... وهذا المشهد من أعظم المشاهد وأنفعها للعبد وكلما كان العبد أعظم توحيدا كان حظه من هذا المشهد أتم............( يتبع )
==============================