مقدمة
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وأصحابه أجمعين،
أمَّا بعد:
فالمتأمِّل في الواقع الاجتماعيِّ الذي تعيشُه كثيرٌ من الأسر، من الاختلاف والتَّفرُّق والتَّشتُّت، وما يترتَّب على ذلك من آثارٍ سلبيَّة كبيرة- يدرك أنَّ هناك أسبابًا كثيرة لمثل هذه الحالة..
لأنَّ الأصل في الأسرة والعلاقات الزَّوجيَّة، هو الاستقرار والمودَّة والمحبَّة والرِّضا، فإنَّ الله سبحانه يقولُ: ﴿وَمِنۡ ءَایَٰتِهِۦۤ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجا لِّتَسۡكُنُوۤا۟ إِلَیۡهَا وَجَعَلَ بَیۡنَكُم مَّوَدَّة وَرَحۡمَةً إِنَّ فِی ذَٰلِكَ لَءَایَٰت لِّقَوۡم یَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم]
ومِن ثَمَّ فإنَّ أيَّ خلافٍ مع هذه القاعدة العظيمة، وأيَّ تغييرٍ في هذه الفطرة القويمة، التي امتنَّ الله سبحانه بها على عباده؛ يدلُّ على أنَّ هناك خللًا يجب استدراكه.
تأمَّلتُ في هذا الأمر طويلًا، بل عشتُ معه سنواتٍ، أبحثُ عن أهمِّ الأسباب التي تؤدِّي إلى النِّزاع بين الزَّوجين، وما يترتَّب عليه من آثارٍ سلبيَّةٍ على الأولاد، وما يؤدِّي إليه من التَّفرُّق والتَّشتُّت الَّذي يُصيب كيان الأسرة، بل والمجتمعَ كلَّه.
إنَّ الواقع يدلُّ على أنَّ هذا الأمر يزداد خطره ويستفحل ضرره، ومع ذلك فإنَّ أحوال النَّاس في ذلك تتفاوت:
فمنهم -والحمد لله- من يحوطُ بيوتَهم الاستقرارُ والهدوء، وترفرف عليها السَّكينة والمودَّة، وهذا هو الأصل الَّذي قرَّرته آية الرُّوم.
ومنهم من تنوء بيوتهم بالمشكلات الكبيرة، التي تنغِّصُ الحياة الزَّوجيَّة والأسريَّة، لكنَّها لا تصل إلى حدِّ الطَّلاق، بيد أنَّ لها من الآثار السَّلبيَّة ما لا يخفى.
أمَّا الحالة الثَّالثة، فهي التي تؤذن بالفرقة والطَّلاق، وقد أشارت الأرقام والإحصائيّات الصادرة عن المحاكم، إلى أنَّ معدل حالات الطَّلاق في ارتفاعٍ مستمر، حتّى إنَّ نسبة صكوك الطلاق الصَّادرة عن هذه المحاكم، مقارنةً بعقود الزواج، قد وصلت في بعض المناطق نسبة عقود الطلاق إلى عقود الزواج في عام واحد إلى 40%، وهو مؤشّر خطير جدًا.
ومن ثمَّ، فإنَّني أرى أنَّ من واجب طلاب العلم، والدُّعاة، والمتخصِّصين، والباحثين: أن يُولوا هذه الظَّاهرة فائق عنايتهم.
وأذكر أنّني قبل أكثر من ثلاثين عامًا، كنتُ في زيارة لدار الأحداث بمدينة الرِّياض، وهي تضمُّ أطفالًا وشبابًا من سنِّ الثَّامنة إلى سنِّ الخامسة عشرة، أي سنّ البلوغ، ثم أُلحق بهم -أخذًا بقول بعض المذاهب- من تجاوزوا ذلك إلى سنِّ الثامنة عشرة، ممَّن ارتكبوا جرائم، تتفاوت ما بين القتل والوقوع في الفاحشة والمخدرات، إلى الضَّرب والاعتداء البدنيّ، ولكن نظرًا لصغر سنّهم، لم يودعوا في السجون، مع كبار المجرمين، بل تمّ إيداعهم في هذه الدار، ليتلقّوا برنامجًا يجمع بين العقاب والتربية، والعقاب يُعتبر في بعض الأحيان نوعًا من أنواع التربية..
وكان سبب زيارتي لهم، هو الرغبة في معرفة سرِّ مجيء هؤلاء إلى هذه الدار، فوجدت أنَّ السَّبب الجوهريّ والغالب، الذي دفع كلّ واحدٍ من هؤلاء إلى ارتكاب الجرم الذي ارتكبه، هو واقعُ البيت والعلاقة بين الأب والأمِّ، سواء كانت طلاقًا أو خصامًا، فاستوقفني هذا الأمر، وألقيتُ فيه عدة دروس ومحاضرات، وكتبت فيه بعض الرسائل، كـ(مقومات السعادة الزوجية)، قديمًا، و (بيوت مطمئنة) قبل بضع سنوات.
لكنني بعد تأمُّل طويل وجدت أنَّ أعظم الأسباب، هو البعد عن كتاب الله ، وإقامة أحكامه سبحانه وتعالى وأوامره ونواهيه في نطاق الأسرة، ووجدت أن هناك قواعد كبرى في القرآن والسنة، تحكم العلاقة الزوجية والأسرية، فمن التزم بها ينال الرحمة والمودة التي جعلها الله تعالى بين الزَّوجين، ومن خالفها يكون مصيره الشَّقاء والمعيشة الضَّنك.
فالله سبحانه يقول: ﴿فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَایَ فَلَا یَضِلُّ وَلَا یَشۡقَىٰ ﴾ [طه]، ويقول: ﴿وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِی فَإِنَّ لَهُۥ مَعِیشَة ضَنكا﴾ [طه:124].
ذلك أنّ الشِّجار والخلاف ثم الفراق، إذا وقع بين الزوجين، فإنّه لا يقف عند حدِّهما، بل يتجاوزهما؛ فيصير شقاقًا بين العائلتين –غالبًا- أعني أهلَ الزوج وأهل الزوجة، وقد يؤدي إلى التحزُّب داخل العائلتين أو في محيط الأهل، فيتعصّب هؤلاء إلى أهل الزوج، ويتعصب أولئك لأهل الزوجة؛ فيدبَّ الخلاف والخصام داخل الأسرة الكبيرة الممتدة، وهو أمر مُشاهَد بكثرة، وليس من قبيل الاستثناء، ويزيد الأمر سوءًا إذا كان الزوجان من الأقارب، فتحدث قطيعة الرحم!
إنَّ الإنسان بفطرته السويّة، يظلُّ باحثًا عن الاستقرار والراحة لنفسه أولًا، ثم لزوجه، ولأولاده ولأسرته؛ لكنّه يحتاج إلى تذكيره بما ورد في نصوص الكتاب والسنة من القواعد والأحكام الرّفيعة، فلذلك تتبَّعت ما ورد في القرآن من قواعد عظيمة، تضبط العلاقة الزوجية وتحكمها، ثم أضفتُ إلى ذلك بعض القواعد من نور السنة، وهي أيضًا وحيٌ، لقوله تعالى: ﴿إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡی یُوحَىٰ عَلَّمَهُۥ شَدِیدُ ٱلۡقُوَىٰ ﴾ [النجم]، وبعض هذه القواعد غير خاصة بالأسرة، لكنها عامة تشمل هذا الموضوع، وتتعلق به تعلقًا ربما كان أولى من غيره.
ولقد راعيتُ في هذه القواعد، أن تكون مختصرةً، حتى تسهل الاستفادة منها، أضعها بين يدي كل ناشد استقرار أسرته، سائلًا الله التَّوفيق والسَّداد، ولا أدعي الاستيفاء فالكمال عزيز، وحسبي أني قد اجتهدت، فسطرت أهم ما أراه محققًا للسعادة والاستقرار، وأشكر كل من يفيدني بملحوظة أو إضافة لاستدراكها في الطبعات القادمة بإذن الله.
هذا وأحمد الله وأشكره على ما يسر من إعداد هذه القواعد، ثم أشكر كل من ساهم في ذلك، وأخص الإخوة في المكتب العلمي بـ(مؤسسة ديوان المسلم)، حيث قاموا بمراجعة صياغتها، وإخراجها، وخدمتها بحيث تخرج قريبة من القارئ نافعة له، والله أسأل أن ينفع بها، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
***
القاعدة الأولى : السَّكن والمودّة والرَّحمة هي الأصل في الحياة الزوجية
قال الله سبحانه : ﴿وَمِنۡ ءَایَٰتِهِۦۤ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجا لِّتَسۡكُنُوۤا۟ إِلَیۡهَا وَجَعَلَ بَیۡنَكُم مَّوَدَّة وَرَحۡمَةً إِنَّ فِی ذَٰلِكَ لَءَایَٰت لِّقَوۡم یَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم].
هذه الآية تتضمّن القاعدة الكبرى التي يجب أن يقوم عليها أساس بناء الحياة الزَّوجية، والتحقق بما فيها تحقق بواحدة من أهم غايات الزواج؛ سُكنى الزَّوج إلى زوجته، والزوجة إلى زوجها، ومن هذا يعلم أن طروء الشَّجار والخلاف، بحيث يصير هو الطبيعي في الأسرة، دليلٌ على أنَّ هناك خللًا عظيمًا يجب استدراكه، وإلاّ فليست الزوجة سكنًا بل جحيمًا، وليس الزوج سكنًا بل غريمًا!
لقد بيَّن الله تعالى في هذه الآية الكريمة، أنّ الأصل في العلاقة بين الزوجين، هو المودّة والرحمة، كما أنه قد بيَّن أنَّ الأصل في المولود الفطرة: ﴿فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِی فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَیۡهَا﴾ [الروم:30] ويقول النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : (كلُّ مولودٍ يولد على الفطرة) أخرجه مسلم ، فإنَّ الأصل في الإنسان هو الإيمان، والكفر طارئ ناشئ؛ فكذلك الأصل في الحياة الزوجية والأسرية هو الاستقرار والمودة والرحمة والسَّكن، فإذا فُقدت هذه الأشياء فعلى الزَّوجين أن يبحثا عن سرِّ هذا الفقد، وليس معنى ذلك أنّه لا يمكن أن تقع مشكلات داخلَ البيوت، فلو خلا بيتٌ من المشكلات لكان ذاك البيت هو بيت النُّبوَّة، لكن فرق بين الشيء العارض اليسير، وبين أن يتحول العارض إلى أصل أصيل!
فالمقصود أنَّ هذه الآية القرآنية، تتضمّن آيةً من آيات الله الكونيّة، وهي أنّ الله تعالى قد جعل الزَّواج سكنًا، وجعل بين الزَّوجين مهما تباعدا في النَّسب مودةً ورحمة؛ وبالتالي فإنّ التّنازع والشِّقاق بين الزَّوجين، هو خلافُ الأصل، يحتمل ما دام أمرًا عارضًا، ولابد أن يعالج خلله إن تجاوز ذلك.
إنَّ اليقينَ بهذه القاعدة، وجعْلَها الأساسَ والمنطلق للحياة الزوجيّة، يحدُّ بإذن الله من الخلافات بين الزَّوجين؛ لأنَّ كلَّ واحد منهما -عند حصول الشِّقاق- يعلم بأنه قد خرج عن الأصل الَّذي جعله الله من آياته، فتتيسّر لهما العودة إلى هذا الأصل. فالإنسان متى ما وجد في حياته أو في صحته اعتلالًا أو مرضًا؛ فإنه يبادر إلى علاجه، ولا يرتاح حتى تعود الصحة إلى بدنه، وكذلك فإنّ فقدان المودَّة والرَّحمة، أو ضعفهما وعدم السَّكن والاستقرار، في الحياة الزَّوجيّة، هو داء دويٌّ، ينبغي معرفةُ سببه؛ ليتيسَّر علاجه، وقد قال الرَّسول صلى الله عليه وسلم : (ما أنزلَ اللهُ من داءٍ إلا أنزل له دواءً، علمه من علمه، وجهله من جهله) ، فليقف الزوجان وقفةً متأمّلة، عند هذه الآية الكريمة، وليجتهدا في النظر إلى مسار حياتهما ليعرفا سبب العلّة والداء، ومن ثمّ يتطلّعان إلى معرفة الشفاء والدواء، والعودة إلى حال الصِّحَّة والعافية، وهي الحال الأصيلة. ﴿وَٱلَّذِینَ جَٰهَدُوا۟ فِینَا لَنَهۡدِیَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ ﴾ [العنكبوت].
______________________________
1) متفق عليه رواه البخاري (1359)، ومسلم (2658).
2) رواه الإمام أحمد في المسند (1/423)، وابن ماجة (3438)، وابن حبان (6062)، وخرجه الألباني في السلسلة الصَّحِيحَة: (452).
* للاطلاع على القاعدة الثانية..