القاعدة السابعة: قدم في الاختيار الزَّوج الصَّالح
12 جمادى الثانية 1439
أ. د . ناصر بن سليمان العمر

قال الله تعالى : ﴿وَأَنكِحُوا۟ ٱلۡأَیَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰلِحِینَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَاۤئِكُمۡۚ إِن یَكُونُوا۟ فُقَرَاۤءَ یُغۡنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِیم ]

 

هذه الآية فيها إشارات:

 

أولًا: تتضمَّن هذه الآية أمرًا موجَّهًا إلى أولياء الأمور بإنكاح مَن تحت ولايتهم من الأيامى وهم: مَن لا أزواج لهم، من رجال ونساء، ثُيَّبٍ وأبكار، وهذا الأمر يدلُّ على أن الإنكاح واجب على الفور عند توفر شرطه، على الراجح، ويؤكد ذلك أنّ الآية تضمَّنت جوابًا على ذريعةٍ يحتجُّ بها كثيرٌ من الناس، فيؤخِّرون الزواج بناءً عليها، ألا وهي: الفقر، وقلة ذات اليد، فأجاب الله سبحانه على المتذرعين بذلك بقوله تعالى: ﴿إِن یَكُونُوا۟ فُقَرَاۤءَ یُغۡنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِیم﴾.

 

 فالمبادرة إلى الزَّواج تحقق الاستقرار والهدوء النَّفسيَّ، وأكثر الشباب تكون حالهم المادية في مستقبل حياتهم ضعيفة، ثم يتزوجون فرزق الله من يشاء، ولا شك أن المسؤولية وبناء الأسرة من دواعي السعي والعمل الدؤوب.

 

ثانيًا: قوله تعالى: ﴿وَٱلصَّٰالِحِینَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَاۤئِكُمۡۚ﴾ فيه إشارةٌ إلى أنَّ من عوامل الاستقرار الأسريِّ، التي ينبغي مراعاتها: حسن اختيار الزوج أو الزوجة، وكثيرٌ من النَّاس تساهل في هذا الأمر، فلم يراعِ جانبَ الصَّلاح، برغم أهميته الكبيرة.

ثالثًا: في الآية إشارة مهمَّة: إلى أن بعض الناس قد يُراعي جانب الغنى والقدرة المادية، على حساب الصلاح، والله سبحانه يبيّن أنَّ المهم هو الصلاح: ﴿وَأَنكِحُوا۟ ٱلۡأَیَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰلِحِینَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَاۤئِكُمۡۚ﴾، أمَّا فقره فإنَّ الله يغنيه.

 

 وحال كثير من النَّاس اليوم بخلاف ذلك! يردُّ الخاطبَ –وإن كان صالحًا- لأنَّه فقير، ويزوج الغني وإن ضعف صلاحه، ويقول: يعقل ويصلح بعد الزواج! والله تعالى يقول: ﴿إِن یَكُونُوا۟ فُقَرَاۤءَ یُغۡنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِیم﴾.

 

 فإذا صدق الأبُ أو وليُّ المرأة وأحسن اختيار الزوج لابنته، مراعيًا الصلاح، فإنَّ هذا وعدٌ من الله أن يُغنيه، المهم أن يكون واثقًا وموقنًا ومؤمنًا بوعد الله، وأن يكون سببُ قَبوله له هو صلاحه، أخذًا بالحديث الذي رواه أبو هريرة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : (إذا خطب إليكم من ترضَون دينه وخُلقه؛ فزوِّجوه. إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ عريض)[1].

 

 وكان النبي صلى الله عليه وسلم يزوّج بناته على اليسير، كما روي عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قَالَ: (لَمَّا تَزَوَّجَ عَلِيٌّ رضي الله عنه فَاطِمَةَ رضي الله عنها ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَعْطِهَا شَيْئًا، قَالَ: مَا عِنْدِي، قَالَ: فَأَيْنَ دِرْعُكَ الْحُطَمِيَّةُ)[2].

 

 وأيضًا ما روي عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِىِّ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله ليه وسلم جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله! إِنِّى قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِى لَكَ، فَقَامَتْ قِيَامًا طَوِيلًا، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله! زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ! فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله ليه وسلم: (هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَىيءٍ تُصْدِقُهَا إِيَّاهُ؟ فَقَالَ: مَا عِنْدِي إِلاَّ إِزَارِي هَذَا! فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله ليه وسلم: إِنْ أَعْطَيْتَهَا إِيَّاهُ جَلَسْتَ لاَ إِزَارَ لَكَ، فَالْتَمِسْ شَيْئًا! فَقَالَ: مَا أَجِدُ شَيْئًا. قَالَ: الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله ليه وسلم: هَلْ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيءٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، مَعِي سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، لِسُوَرٍ سَمَّاهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله ليه وسلم: قَدْ أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ)[3].

 

وقد حضرتُ عقد زواج أحد الشَّباب الطّيبين، وكان والد الفتاة رجلًا صالحًا، فعندما سأله العاقد: ما هي شروطك؟ قال: أن يُعلِّمها كتاب الله سبحانه ، وأن يُحفِّظها جزء عمَّ! ولم يشترط شيئًا من عَرَض الدّنيا، بل عندما دفع الزوج المهرَ كان كبيرًا، غضب الأب.

 

بينما بعضُ النَّاس الآنَ -مع كل أسف- يقدِّمُ صاحبَ المال والوجاهة والمنصب وعرَضَ الدُّنيا، على الصَّلاح، وكثيرًا ما جاءني من يستفتيني فيمن جاء يخطب ابنته، يقول: هو غير مستقيم، لكنَّه ذو مالٍ أو ذو منصب، والأعجب أنَّني أسأله أحيانًا عن عمله؛ فأفاجأ بأنه يعمل في بنكٍ ربويٍّ، أو في مجال من المجالات المحرّمة، فأقول له: كيف تزوّجه وهو سيغذي ابنتك من الحرام؟ فيقول: سيصلح بإذن الله ويهتدي بعد زواجه. فأقول له: هل ابنتُك صالحةٌ مستقيمة؟ فيقول: نعم، ويُثني عليها لصلاحها، قلت: وما يضمنُ أن يكون هو سببًا لانحرافها أو عدم استقامتها! بل هذا واقع ومشاهد.

 

وأيضًا فإنَّ الزوجة إذا لم تكن صالحةً، قد تكون سببًا لانحراف الزَّوج، وقد رأيت أناسًا كانت تبدو عليهم سيما الاستقامة، ثمَّ بعد زواجهم بأشهرٍ قلائل؛ بدت على ظواهرهم علامات الفتور، والله أعلم ببواطنهم، فأتساءل عن السَّبب وأفتش، فأجده ضعف استقامة الزَّوجة، فبعض الزوجات قلَّ من يُقاومها، وخاصة إذا أحبَّها زوجُها، وملكت قلبه، فعندئذٍ يتسرَّب إليه الضّعف شيئًا فشيئًا، فحري بأهل الزَّوج أن يجتهدوا في اختيار المرأة الصالحة لابنهم.

 

إنَّ الصَّلاح من أهمّ عوامل الاستقرار الأسريّ، لقد رأيتُ بيوتًا لا يجد أهلها ما يأكلونه إلاّ قليلًا، لكنهم يغبطون على ما هم فيه من استقرار وصفاء ومودة، وقد رُزق بعضهم مع ذلك أبناء صالحين، ولا غرو فالشيء من معدنه لا يستغرب! وحسبنا بيت النبوة، فإنه كما ورد في الحديث، عن عروة، عن عائشة، أنَّها قالت: (إن كنَّا لننظر إلى الهلال ثلاثةَ أهِلَّةٍ في شهرينِ، وما أُوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار فقلت ما كان يعيشكم؟ قالت الأسودان التَّمر والماء)[4].

 

 وكان بيته صلى الله عليه وسلم أسعد البيوت! وكان بوسعه أن يملأه ذهبًا لو شاء! فقد عُرِضت عليه الدُّنيا فأباها، إيثارًا لما عندَ الله في الآخرة.

والمهم هو أن نؤثر الصلاح، وأن نجتهد منذ البداية في اختيار الزوج الصالح أو الزوجة الصالحة، فالسعادة ثمة!

 

قد يقول قائل: هل تعني هذه الآية الكريمة: ﴿وَأَنكِحُوا۟ ٱلۡأَیَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰلِحِینَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَاۤئِكُمۡ﴾ ألا نُزوّج الفاسق مطلقًا؟

 

فأقول: لا، إنما تعني أن نجتهد في اختيار الزَّوج الصَّالح، وأن نشدد في ذلك إن كانت الزوج صالحة، وأمّا ضعيفُ الدِّين فنُزوِّجه بمن هي على شاكلته، وقد سمعتُ سماحة شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله ، في برنامج ”نور على الدَّرب“ مرة وقد سأله سائلٌ من بلدٍ لا يُقيمون حدود الله على من لم يُصَلِّ، قال السائل: إنَّ رجلًا خطب ابنتي، وهو لا يصلي، وابنتي أيضًا لا تصلي! فنصحه الشيخ، ثمّ قال له: إذا كانوا كلُّهم لا يُصلُّون فزوِّجوه، فهكذا نقول، وهذا من فقهه رحمه الله كما قال الله سبحانه : ﴿ٱلۡخَبِیثَٰتُ لِلۡخَبِیثِینَ وَٱلۡخَبِیثُونَ لِلۡخَبِیثَٰتِۖ وَٱلطَّیِّبَٰتُ لِلطَّیِّبِینَ وَٱلطَّیِّبُونَ لِلطَّیِّبَٰتِۚ﴾ ، فإذا جاء رجلٌ ضعيفٌ في دينه، وخطب فتاةً ضعيفةً في دينها؛ فيُزوَّج؛ لأن عدم تزويج ضعيفِ الدِّين قد يكون سببًا للفساد.

 

أسأل الله تعالى أن يُصلح شبابنا، ويجنِّبهم سبل الغواية والفساد.

 

[1]          رواه الترمذي (1084) وحسّنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1022).

[2]          رواه أبو داود (2125)، والنسائي في الكبرى (5542).

[3]          صحيح البخاري (5149).

[4]          صحيح البخاري (2567)، وصحيح مسلم (2972).

 

* للاطلاع على القاعدة السادسة..
البيوت العامرة بالقرآن يغمرها اللطف الإلهيُّ

* للاطلاع على القاعدة الثامنة..
هن لباس لكم وأنتم لباس لهن