من معوقات الاستقامة....الفهم المغلوط للقدر
11 رجب 1439
د. عامر الهوشان

لطالما كان الفهم الصحيح لأركان الإيمان والاستيعاب الدقيق لثوابت الإسلام والإدراك السليم لمفاهيم القرآن ومصطلحاته...هو طوق النجاة للموحدين من وساوس الشيطان ومكائده في طريق الالتزام و صمام الأمان في رحلة الاستقامة على منهج الله من الانحراف أو الاعوجاج . 

 

في المقابل ليس هناك أشد خطرا على استقامة المؤمن وأكثر تأثيرا على التزام المسلم بمنهج الله القويم من الفهم الخاطئ لأحد أركان الإيمان أو الغلط في إدراك حقيقة من حقائق العقيدة الإسلامية . 

 

قد يكون ما يتردد على ألسنة بعض المسلمين اليوم حين ينصحهم البعض بالاستقامة على منهج الله والالتزام بأوامره واجتناب نواهيه من أمثال قول أحدهم : "هكذا كتب الله علي أو قدر" أو "حين يشاء الله" أو ما شابه ذلك من العبارات التي تجعل من القدر ذريعة للانحراف و حجة للاستمرار في الانغماس في الشهوات وشعارا يتبنونه لتبرير عدم الاستقامة على صراط الله المستقيم ....هو ما يؤكد ضرورة تناول هذا الموضوع وطرقه كأحد أهم معوقات الاستقامة عند بعض شباب الأمة في العصر الحديث .

 

رغم بداهة بطلان التعذر بالقدر لتبرير التنكب عن صراط الله المستقيم نقلا وعقلا وكثافة الردود من علماء الأمة ودعاتها لدحض هذا الافتراء وبيان تهافته.... إلا أن الشيطان ما زال يوسوس للبعض بهذا الوهم ليمنع توبتهم ويغري به آخرين لتأخير استقامتهم .  

 

نعم.... كتب الله تعالى في علم الغيب عنده مآل ومصير كل إنسان وعلم الشقي من السعيد منهم وكتب لكل منهما مقعده من الجنة أو النار....إلا أن ذلك يبقى في علم الغيب عند الله لا يعلمه إلا هو سبحانه , أما المؤمن فما عليه إلا المبادرة بالعمل الصالح كما أمره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ليفوز بالجنة والسعادة الأبدية كما وعده سبحانه .

 

ورد في الصحيحين عن عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنَازَةٍ، فَأَخَذَ شَيْئًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِ الأَرْضَ فَقَالَ: ( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ، وَمَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا، وَنَدَعُ العَمَلَ؟ قَالَ: ( لا  اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ ، أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ»، ثُمَّ قَرَأَ: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى }  { وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } . 

 

الغريب أن أحدا ممن يبررون استمرار انحرافهم عن صراط الله المستقيم وتسويف توبتهم وتأجيل استقامتهم بـ القدر الذي فهموه بشكل مغلوط لا يفعل ذلك حين يتعلق الأمر بأموره الدنيوية وشؤون حياته اليومية , فلم نسمع أحدهم يبرر – مثلا - فقره وقلة ذات يده بالقدر وهو لم يخرج إلى العمل أصلا ...ربما لأنه يوقن أن أحدا من الناس لن يقبل منه هذا التبرير أو تلك الذريعة لبداهة بطلانها و شدة تناقضها مع الفطرة والعقل ....فمن باب أولى لا يمكن قبول ترك العمل الصالح للآخرة والاستمرار في الانحراف عن منهج الله بدعوى الفهم المغلوط للقدر .

 

بيّن شيخ الإسلام هذا الأمر بقوله : " وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتفاق المسلمين وسائر أهل الملل وسائر العقلاء، فإن هذا لو كان مقبولا؛ لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس وأخذ الأموال وسائر أنواع الفساد ويحتج بالقدر. ونفس المحتج بالقدر إذا اعتدي عليه ، واحتج المعتدي بالقدر لم يقبل منه , فالاحتجاج بالقدر معلوم الفساد في بدائه العقول" مجموع الفتاوى 8/179

 

أول ما ينبغي أن يعلمه من يبرر انحرافه بالقدر ويجعل من فهمه المغلوط لأحد أركان الإيمان شماعة يعلق عليها تجرأه على المعاصي وتقصيره في جنب الله هو أن الاستمرار في هذا النهج من عمل الشيطان ومن وسوسته ونفثه قد أغرى به الكثير من المشركين وأضلهم حتى باتوا يرددون ما يوسوس لهم : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ ....} ليأتي الرد القرآني واضحا : { كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ } الأنعام/148

 

ليس التخلص من الفهم المغلوط لــ "القدر" بالأمر العسير أو الصعب , بل هو في غاية اليسر والسهولة إن توافرت الإرادة والعزيمة , إذ يكفي أن يعود الراغب بذلك إلى فطرته وأبجديات عقله ليدرك أن معرفة الشقي من السعيد في قدر الله وعلمه الأزلي مستحيل , وأن الأثر الوحيد الذي يدل على هذا أو ذاك هو العمل الصالح أو الطالح , فمن صلحت أعماله وخلصت نيته كان أقرب إلى السعادة , ومن فسدت أعماله وكثرت معاصيه كان أقرب إلى الشقاء والتعاسة .