في نور آية كريمة.. {رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم}
4 رمضان 1439
أمير سعيد

هي آية تلمس معانيها القلوب، وتزيد الرباط بين المؤمنين ورسولهم الرحيم متانةً ووثوقاً.
﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة الآية 128].

 

 

وهو ملمح أسمى في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم يعبر عنها سطر واحد يجمع شمائل عظمى: شرف الأصل والنسب والرسالة، وشفقته الكبيرة على ما يلقاه أصحابه رضوان الله عليهم، ومن تبعهم، وحرصه على ألا يصيبهم مكروه، ورأفته العميمة، ورحمته الشاملة للمؤمنين.

 

 

بالتوكيد بدأت الآية بحرفي "اللام" و"قد" - كما قرر العلامة الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير - وبالمجيء تلت، حيث مفاجأة النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة كمجيء الوافد إليهم، وذلك الموفد من عند رب العالمين برسالة سامية لم يأت مجهولاً، إنما جاء من الأشرف نسب.

 

روى مسلم في صحيحه عن واثلة بن الأسقع أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم))، فكان الانتخاب الأعظم لخير البشر صلى الله عليه وسلم، ولهذا ذكر الله المخاطبين بقوله: ﴿ من أنفسكم ﴾ أي ليس ملتحقاً بكم بل من أصلكم، فقد أرسله بشراً ومن أشرف العرب نسباً. وكذلك لم يقل "منكم" تأكيداً على قرب الصلة وعمقها، كالتصاق النفس بالنفس، ولهذا؛ فحري بالناس أن يتبعوه وهو كذلك من قلبهم وأشرفهم وأصدقهم يعرفون سمو أخلاقه وعظيم نسبه.

 

 

وما أروع تلك القراءة التي نقلها أبو حيان الغرناطي في التفسير المحيط عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، وهي: بفتح الفاء ﴿ من أنفَسكم ﴾ من النفاسة، كدرة ثمينة لا تبارى في نفاستها وعظمتها تحمل الخير، رسالة الحق الجديرة بأن تتبع، والتي يرتبط صاحبها بوشائج عميقة مع قومه؛ فهو من بينهم وهو قد حاز شرف النسب، وشهد له معاصروه بحسن الخلق وتكامل الآداب.

 

أما الضمير في ﴿ من أنفسكم ﴾ فهو إما عائد على العرب أو على البشر جميعهم، والقول الأول يقول به جمهور المفسرين، كما يقرر الرازي في الكبير، كقوله تعالى: ﴿ هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم ﴾ ، والثاني يستدل به آخرون بقوله تعالى: ﴿ أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم ﴾.

 

 
ثم تمضي الآية الكريمة، تبين ملامح شخصية هذا النبي، النفيس نسباً وخلقاً، فمن بعد أن استفاضت سورة التوبة كلها في ذكر أحوال المنافقين، والمشقة واللأواء التي أصابت المؤمنين طوال طريقهم، ومنه ما كان في غزة تبوك (العسرة) واستفاضت أيضاً في ذكر "التكاليف الشاقة (التي لا تتوفر القدرة على القيام بها) إلا لمن خصه الله بوجوه التوفيق والكرامة، ختمت "السورة بما يوجب سهولة تحمل تلك التكاليف"، كما قال الرازي.

 

 

إن هذا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المأمور بأن يجاهد الكفار والمنافقين ويغلظ عليهم، ليست الغلظة طابعاً له، بل وصفه الله تعالى بالرأفة والرحمة، وهي للمؤمنين بصيغة المبالغة "رؤوف رحيم" أي كثير الرأفة كثير الرحمة، بخلاف الرحمة العامة المبذولة للعالمين بموجب الرسالة المبعوث بها للناس كافة، مثلما قرر صاحب المنار. حيث لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم فظاً غليظ القلب لانفض المؤمنون من حوله، وإنما كانت الغلظة لأئمة الكفر والنفاق، وكانت الرحمة هي عنوان الرسالة وعمومها، وكانت الرأفة والرحمة العميمة هما الصفتان اللازمتان للنبوة مع ضعفاء المؤمنين وسائر أطيافهم.

 

 

وفي تلك الآية العظيمة، شهادة من رب العالمين بأن النبي صلى الله عليه وسلم، يعز على قلبه حقيقة ما يجده المؤمنون في طريق دعوتهم، والعنت (المشقة) التي تعرضوا لها في حياتهم، والتي سيتعرضون لها، قال قتادة: المعنى: "عنت مؤمنيكم". وقال ابن عطية في تفسيره: "أي: ما شق عليكم من كفر وضلال بحسب الحق، ومن قتل أو إسار وامتحان بسبب الحق واعتقادكم أيضا معه".

 

 

فالرسول صلى الله عليه وسلم يعز عليه ما لقيه المؤمنون من عنت في الطريق، وهو يدرك تلك المشاق التي واجهتهم، ويشفق عليهم، ويحرص على ألا يصيبهم مكروه، وهو حريص على هداية الناس كل الناس، ورغم ما قد يبدو للبعض من تكليف النبي صلى الله عليه وسلم لهم في رسالة الله سبحانه من مكاره كالجهاد وتحمل الأعباء وألوان الابتلاءات ما يُظن للذاهلين عن جوهر الأمور أنه مناقض للرحمة والرأفة، إلا أن الحقيقة خلاف هذا؛ فهذه المتاعب والتكاليف إنما هي في مضمونها الرحمة والرأفة والشفقة والراحة، ولهذا فهو صلى الله عليه وسلم يمضي بهم في كل ذلك، وهو بهم رؤوف رحيم، مشفق عليهم حريص على حصول الخير لهم في الدنيا والآخرة.

 

 

إنها شخصية النبي القائد الحكيم الرحيم المبصر لما مضى في الطريق، المستشرف لما هو آت، وإنه الكمال البشري الذي أوجزه العلامة أبو حيان الغرناطي في تفسير الآية في ستة أوصاف:
1-    الرسالة، وهي صفة الكمال للإنسان بما تتضمنه من صفاته مؤهلة لها.
2-    الخيار، التي جعلته أهلاً للوساطة بين الله وخلقه.
3-    الذاتية، بأنه من أنفسهم، وهي صفة مؤثرة في التبليغ والفهم عنه والتآنس به. وأنه معروف بينهم بالصدق والأمانة والعفاف والصيانة.
4-    عزة مشقتهم عليه، وهو من نتائج الرسالة.
5-    حرصه على هدايتهم وألا يصيبهم مكروه.
6-    الرأفة والرحمة.

 

 

وعن هاتين الصفتين الأخيرتين، يقول العلامة رشيد رضا في المنار: "وصف الله تعالى رسوله بصفتين من صفاته العلى، وسماه باسمين من أسمائه الحسنى، بعد وصفه بوصفين هما أفضل نعوت الرؤساء والزعماء المدبرين لأمور الأمم بالحق والعدل والفضل، وفي الصحاح والقاموس أن الرأفة أشد الرحمة". ويقول الأصولي ابن عاشور: "الرأفة: رقة تنشأ عند حدوث ضرر بالمرءوف به. يقال: رءوف رحيم. والرحمة: رقة تقتضي الإحسان للمرحوم".

 

 

وبخلاف الرسالة؛ فإن الآية العظيمة على قصرها، قد تضمنت دستوراً واضحاً لما ينبغي أن يتصف به القائد المسلم ومن يتصدر في أمور المسلمين عموماً: استمساك بالرسالة، إدراك للمتاعب والمشقات في الطريق، حب حقيقي للمؤمنين الذين يسيرون معه، يخوض بهم المصاعب من دون أن يوردهم المهالك، يستوعب ضعفهم وبشريتهم، رأفة بضعفائهم رحمة بهم جميعاً، كما يقول صاحب المنار: "رؤوف بضعفاء المؤمنين وأولي القربى منهم، ورحيم بهم كلهم".

 

 

والآية جامعة، في تبيان ملامح شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، ودقيقة في توصيف مقامه صلى الله عليه وسلم، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما أورده الطبري لما جاءه خزيمة بن ثابت رضي الله عنه بهذه الآية والتي تليها، ولم يكن يعلمهما إلا منه قال له عمر في واحدة من أعمق العبارات وأكثرها تعبيراً عما يستجيش في قلوب الصحابة حيال النبي صلى الله عليه وسلم، وما تدركهم فطرتهم السليمة عنه: "والله لا أسألك عليهما بينة أبدا فإنه هكذا كان صلى الله عليه وسلم".

 

 

يشهد الله سبحانه من فوق سماواته العلى والمؤمنون على هذه الأرض، بعظمة النبي صلى الله عليه وسلم، وحبه للمؤمنين، وشفقته بهم، وحرصه على هدايتهم وسلامتهم، وإرشادهم لمجامع الخير لهم في الدنيا والآخرة، وتجنيبهم لما يضرهم.

 

إنها العظمة حين تتجسد في شخص واحد: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ وهي صفات الداعية المربي، والقائد الحكيم، والرائد الأريب الذي يجمع بين الحب والرحمة والرأفة والحرص والعزة وإرادة النصح والخير لأصحابه وتابعيه.