الهدي النبوي في التربية ... (6) (الحفاوة والترحيب وحسن الاستقبال)
9 محرم 1440
سليمان بن جاسر الجاسر

أحيانًا نتعامل مع المربيَّ أو من نقوم بتربيته على أننا أصحاب منَّةٍ عليه وتفضل، لذا يرى البعض أنه لا حاجة إلى القيام بشيء من الترحيب به والحفاوة وحسن الاستقبال، بل وقد يعتبر البعض أن مجرد قبولنا له كافيًا في الإكرام وربما يشعر الأب والمربي أن الحق له؛ فهو يطالب المربيَّ به.

 

والحقيقة أن للأب والمربيَّ حقًا كبيرًا، لكن هذا الحق لن يتحقق إلا حين يُعرَّف الولد والمتربي بذلك ويُغرس في قلبه إكرام أهل الفضل من خلال أساليب تربوية مشوقة وخطوات يقوم بها الأب والمربي.

 

وقد كان من يقابل النبي صلى الله عليه وسلم ولو لأول وهلة ـ يجد عنده من الحفاوة والترحيب وحسن الاستقبال ما يجعل النفوس تنجذب إليه وتأنس بحديثه وتُقبل بكليتها عليه.
 

جاء صفوان بن عسال ت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني جئت أطلب العلم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «مرحبًا بطالب العلم إن طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها، ثم يركب بعضهم على بعض حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب...»(1).

 

كيف سيكون أثر هذا الترحيب وتلك الحفاوة في نفس صفوان، هل تراه يزهد في طلب العلم بعد ذلك؟ كلا، بل يزداد نهمة وحرصًا وطلبًا له.

 

ونرى الطالب أحيانًا يرغب في المشاركة في منشط أو برنامج أو حلقة قرآن فيقابل بشيء من البرود، وعدم المبالاة (...لا بأس، اجلس مع زملائك...) دون أن يسمع كلمة ترحيب، بل ربما استُقبل بالشروط المشددة (شروط القبول) التي ربما جعلته يعود أدراجه.

 

إن مما يُذكر فيُشكر أن بعض دور التعليم والمناشط الخيرية جعلت حفل استقبال وترحيب بالأعضاء الجدد، الأمر الذي كان له أثر كبير في بعث الرغبة في النفوس وحملها على المواصلة والاستزادة.

 

ومن الأمثلة، ما رواه أبو رفاعة رضي الله عنه قال: «انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، قال: فقلت: يا رسول الله، رجل غريب جاء يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه، قال: فأقبل عليَّ رسول الله وترك خطبته حتى انتهى إليَّ، فأُتي بكرسيٍّ حسبت قوائمه حديدًا. قال: فقعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها»(2).

 

عجيب والله! يوقف الخطبة، ويجلس للمتعلم يعلمه! أي تكريم فوق هذا وأي حفاوة، وكم سيصنع هذا الأسلوب من رغبة في نفس المتعلم والطالب! هل نستطيع نحن المعلمين أو المربين أن نقوم عن وجبة الإفطار ـ في المدرسة مثلًا ـ لنجيب الطالب عن مسألته؟ وحين يقطع علينا المتربي لذة النوم باتصال هاتفي لحل مشكلة، أو إجابة عن سؤال هل سيجد الترحيب منا وطيب النفس؟

 

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل الوفود ويحسن وفادتهم، ويتخذ لذلك لباسًا خاصًا وخطيبًا يخطب بين يديه إشعارًا منه بمزيد الاهتمام بهم؛ فلما أتى وفد عبد القيس رحب بهم غ، فقال: «مرحبًا بالقوم غير خزايا ولا ندامى...»(3)

 

ولما قدم الأشعريون أهل اليمن قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أتاكم أهل اليمن هم أرقُّ أفئدة، وألين قلوبًا، الإيمان يمان، والحكمة يمانية»(4).

 

وقدم وفد عبس على النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا تسعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا عاشركم». وعقد لهم لواءً وجعل شعارهم: يا عشرة(5).

 

إن القلم ليعجز عن التعبير عن جمال هذا الخُلُق وأثره في النفوس، ولو أردنا أن نقف مع كل موقف من هذه المواقف لنتأمل فيه ونقف على الأثر الذي يحدثه في النفوس لطال بنا ذلك، وفيما ذكرنا كفاية والسنة النبوية حافلة ومليئة بذلك.
 

______________________
(1) رواه ابن عبد البر في: جامع بيان العلم وفضله (1/155) وصحح إسناده المحقق (أبو الأشبال).
(2) رواه مسلم (876).
(3) رواه البخاري (4368).
(4) رواه البخاري (4388).
(5) رواه ابن عساكر من طريق ابن سعد عن الواقدي به (49/359).