قال الله تعالى: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم:3].
هذه القاعدة، وردت في سياق الحادثة التي تناولتها سورة التَّحريم، وذلك في قول الله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:3]! قال كثيرٌ من المفسّرين، أنَّ هذا السِّياق يتعلَّقُ بأمِّ المؤمنين حفصةَ رضي الله عنها، لما (أسرَّ لها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حديثًا، وأمر أن لا تُخبر بهِ أحدًا، فحدَّثت به عائشةَ رضي الله عنها، وأخبره اللهُ بذلك الخبرِ الَّذي أذاعته، فعرَّفها صلى الله عليه وسلم، ببعضِ ما قالت، وأعرضَ عن بعضه، كرمًا منه صلى الله عليه وسلم، وحِلمًا).
فَحْوى هذه القاعدة، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، لمّا تبيَّن له ما جرى بين حفصةَ وعائشةَ رضي الله عنهما، من صغوِ قلوبهما نحو ما لا ينبغي لهنَّ، من الورع والأدب معه صلى الله عليه وسلم، وهي مشكلةٌ واجهت بيت النُّبوَّة، فكان من منهج التَّعامل النَّبويِّ مع هذا الحدث، وخاصَّةً فيما يتعلَّق بما قالته حفصةُ لعائشة رضي الله عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ}، أي: لم يُعرِّفها بكلِّ ما يعلمه، ففي هذه القاعدة درسٌ لأرباب الأسر، أنَّ أحدهم قد يتبيَّن له في بيته أمرٌ من الأمور، لا يُرضيه، فمن الحكمةِ ومن أجل استقرار البيتِ، ومن أجل السُّموِّ والعلوِّ به، أن لا يذكر من ذلك الأمر، إلا ما يكون لازمًا لعودة الحياة إلى طبيعتها واستقرارها، وممَّا يؤكد أهمية هذا المسلك التَّربويِّ الرَّحيم، أنَّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم، أعرض عن بعض هذا الأمر، رغم أنَّ الله تعالى هو الذي أطلعه عليه.
فأين نحنُ من هذا المنهج النَّبويِّ التّربويِّ الحكيم، في التّعامل مع المشكلات الأسريّة؟! إنَّ نظرةً عجلى إلى واقعنا، تكشفُ لنا، عن وجود انحرافٍ واضح عن هذه الجادَّة المستقيمة، نحو طَرَفَي الإفراط والتّفريط: فنجد بعض الأزواج، إذا اكتشف وقوعَ شريك حياته، في خطأٍ أو خطيئةٍ كان يجتهدُ في إخفائها؛ واجهه بها، وكشف له عن كلِّ ما يعرفُه عنها، بل قد يتجاوزُ ذلك إلى ما تقودُه إليه ظنونه وأوهامه، غير مبالٍ بما قد يُسبِّبه لأهله أو أولاده، من جُرحٍ نفسيٍّ وإحراجٍ وانكسار. وبالمقابل فإنَّ بعض الأزواج، إذا وقع له ذلك، لم يُبالِ بالأمرِ، ولا يحرَّك له ساكنًا. والمنهج النّبويّ وسطٌ بين الإفراط والتّفريط، وبين الانفعال والبرود، فهو منهجٌ تربويٌّ، ينتبه إلى الخطأ أو الخطيئة، وينبِّه عليها، دون أن يبقى واقفًا عندها، بل يُوجِّه المخطئ إلى أفق التّوبة، ويُذكِّره أنَّ الله تعالى هو الّذي أذِن بكشف ستره، وأنّه وليُّ عباده المؤمنين، كما قال تعالى في شأن حفصة وعائشة رضي الله عنهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4].
إنَّ المربّي الحكيم، يلجأُ إلى هذا المنهج القائم على الإعراض عن بعضٍ، وإظهار بعض، عندما تدعو إليه الحاجة إلى الإصلاح وتقتضيه، وأمَّا في بعض الأحوال، فالحكمة تقتضي أن يتغافل وليُّ الأمر، ولا يظهر شيئًا، ليس بدافع البرود وعدم المبالاة، بل لداعية الحكمة وبعد النَّظر، فهو سيتغافلُ في هذه اللحظة، لكي يواجه الأمر بوسائل وأساليب أخرى، تكون أكثر تأثيرًا، وأعرفُ بعض الأزواج، إذا دخل بيته وشعر أنَّ في البيت شيئًا لا يرضاه؛ تقهقر إلى الوراء، وأشعر أولاده أنَّه داخلٌ، ولذلك قال الحسن رحمه الله: ”ما استقصى كريمٌ قطُّ“.
إنَّ تغافلَ الزوج عن بعض ما تأتيه الزَّوجةُ، أو تغافلُ الزَّوجة عن بعض ما يأتيه زوجها، أو تغافلهما معًا أو أحدهما عن بعض انحرافاتِ أولادهما، بحيث لا يُخل بالواجب الشّرعي أمرٌ حميدٌ في كثير من الأحيان، وأمّا إذا اقتضى الواجب الشرعي تنبيهًا؛ فإنّه يُقتصر على ما يحقق المطلوب، ويُزيل المخالفة دون توسُّع؛ لأنَّ المراد هو تحقيق الاستقرار والاستقامة على دين الله، لا جرح النفوس وإذلالها! وكثير من النّاس تكفيه الإشارة، وكم تغافل كثيرٌ من الأزواج عن أخطاء زوجاتهم، فعاشوا معهنَّ باستقرار، وقد أخرج أبو داود، عَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْأَمِيرَ إِذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ فِي النَّاسِ أَفْسَدَهُمْ)، قَالَ الْمَنَاوِيُّ: (وَمَقْصُود الْحَدِيث: حَثُّ الْإِمَامِ عَلَى التَّغَافُل، وَعَدَمِ تَتَبُّع الْعَوْرَات). وروى البيهقيُّ في مناقب الإمام أحمد عن عثمان بن زائدة قال: (العافية عشرة أجزاء، تسعةٌ منها في التغافل) يقول الراوي: فحدَّثت به أحمد بن حنبل رحمه الله، فقال: (العافية عشرة أجزاء، كلُّها في التَّغافل).
ومن المعلوم أنَّ التَّغافل غير الغفلة، فالغفلة تؤدي إلى الضَّياع وتضييع الأمانة، أما التّغافل فمسلك تربويٌّ حكيم إن استخدم بعقل، كما قال الشّاعر:
إذا كنتَ في كلِّ الأمورِ معاتبًا *** صديقَك لم تلقَ الَّذي لا تُعاتبه
فينبغي علينا أن نتغافل عن بعض الأمور، انشغالًا بالنَّظر إلى الغاياتِ والأمور المُهمَّات، فاجعلوا هذه القاعدة، ضمن منهجكم في التربية، بل ضمن منهجكم في الحياة كلِّها، فستكون العاقبة هي الخيرُ والصَّفاء، حفظكم الله وأدام مودَّتكم.
* للاطلاع على القاعدة التاسعة عشرة..
الصُّلح خير
* للاطلاع على القاعدة الحادية والعشرين..
إرضاءُ الزوجةِ حسن في غير معصيةِ