الترف... داء القلوب الضعيفة
26 صفر 1440
د. صفية الودغيري

لقد خلق الله سبحانه الإنسان وأحاطه بسياجِ التَّشريفِ والتَّكريم، وألْبَسَهُ حُلَلًا من سُنْدُس زانَتْه فضائل، ودَلَّه على ما يتمّْم به محاسِنَ التَّشريف بالهداية والاستقامة والرَّشاد، فسَما بروحِه عن النَّقائص، وعَصَمه من الشُّرور التي تُلْقِي بأصحابها في التَّهْلُكة، وخَلَّصَهُ من التردُّد بين رغباتِه وشهواتِه، وما هو أَدْعَى للتَّباهِي والتَّفاخُر، فأَلْهَمَهُ أسبابَ التَّعايُشِ مع أجزاءِ هذا الكونِ وأسرارِه، في انْتظامِ الكواكب وظهورِها وأُفولِها، وشُروقِها وغُروبِها، وانْبِساطِ البحاِرِ في جَزْرِها، وانْدِفاعِ مَدِّها، وسَخَّر لخدمته من الأفلاك، والبحار، والطير، والحيوان، والنبات، والشجر والمدر، وغير ذلك مما ساقه إليه ليحسن استعماله، وليدرك بلُبِّه ورشاده بأنَّه مرتبطٌ بأجزاءِ هذا النّْظامِ الكوني وأقسامِه، ومتَّصِلٌ بالمخلوقاتِ والكائناتِ بصِلاتِ التَّعاوُنِ والتَّكافُل، وتطبيقِ أحكامِ التَّشريعِ الإلهي، الشَّامِلةِ لقِيَمِ المساواةِ بين مختلفِ طبقاتِ المجتمع في المنشَأ والمصير، كم في الحقوق والواجبات، وتهذيبِ النَّفسِ البشريَّة الطَّاغِيَة بقُوَّتِها، وإِضْعافِ سُلْطانِها، والتَّقليلِ من ثَرواتِها، ومن الإفراطِ في الإِقبالِ على مَلذَّاتِها وشَهواتِها، وتحقيقِ التَّوازُنِ بين احتياجاتهِا ومتطلَّباتِها.
 

وما نشاهده اليوم من مظاهِرِ التَّرفِ والثَّراء، يثيرُ في جوانب منها حزنًا لا يُشْبِهُهُ حزن، مما نقابِلُه من تقلُّباتٍ وتغيُّراتٍ تعتري تقاسيمَ الوجهِ الإنساني، مما يخالِفُ النِّظامَ الكوني في أجزائِه المترابِطَة المتلاحِمَة، ومما يخالِفُ ما أقَرَّهُ التشريع الإلهي من تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، ومحاربة الطُّغيانِ في اكتسابِ الأموالِ والثروات..
 

وإذا ما انتقلنا بين مناكِبِ الأرضِ وأطرافها المترامية، نرى مظاهر إنسانية يجيشُ بها الخاطِر: ويضيقُ الصَّدر، ويَعْقِدُ اللِّسانُ عن البيان، مما نَشْهَدُه ممَّنْ مَلَكَتْهُم الحياة واسْتَعْبدتهم، وممَّنْ أَشْبَعَتْهُم في المأكل والمشرب حَتّى فقدوا لَذَّةَ الطَّعامِ والشَّراب، وممَّن كَسَتْهُم بأَفْخَمِ اللِّباسِ وأَغْلاه حتَّى مَلُّوا من تَنَعُّمِهِم بمَلْمَس والدِّيباجِ المخملي، فحالَ بينهم وبين التَّمَنِّي المَشْبوبِ بنَيْلِ المطالب، فانْطلقوا في الدنيا مُسْتَخِفِّين بآمالهِم العِذاب، ساخِرين من أَطْيافِ أحلامِهِم، وأَخْيِلَةِ غُرورِهِم وجَهْلهِم، يتوسَّمون ما يثيرُ في خَلَجاتِهِم لَذَّةً كلَذَّاتِ البسطاء في تَنَعُّمِهِم بأسبابِ العَيْشِ القليل، وسَعادَتِهِم الغامِرَة بممتلكاتِهِم البسيطة، تبعتُ في أرواحِهِم مظاهر الابْتِهاجِ والفرح..
 

ويطمحون فيما تَطْمَحُ إليه القلوبُ المُعافَاةُ من الِعلَلِ والأمراض، حتَّى أنهم يَوَدُّون لو قاسَمُوا أولئك البسطاء سعادَتَهُم بما هو أخَفُّ على أرواحِهِم وأَلْطَفُ بأجسادِهِم، ليَدِبُّوا كما يدْبُّون وقد شَغَلَهم السَّعيُ لتوفيرِ أسبابِ عَيْشِهِم، ويشاركونهم إحساسَهُم ونَشْوَتَهُم في ملُاطَفَةِ أحلامِهِم وآمالِهِم..
 

ولكن كيف لهم أن يُدْرِكوا ما أَدْرَكُوه وهم في وَهَنِهِم ووَهَمِهِم، مَأْخوذُونَ بتَرَفِهِم، مَسْلوبُون من إرادَتِهِم وحُرِّيَتِهِم، تُلاحِقُهُم الكآبة في مَلَذَّاتِهِم وشهواتِهِم، فإنَّ لنعيمِ العِزِّ والتَّرفِ طاقةً وحيويَّةٌ فائِضَةٌ تجِدُ مُتَنفَّسَها في تصريفِها في مواطن وإن كانت مشبوهَةً أو غيرَ مشروعة، تَزْرِي بالأمة وتَشِينُ بوَجْهَها الإنساني..
 

إلا لو أَدْرَكوا فيما أَدْرَكُوه بأنَّ لغيرهم حقوقًا في ممتلكاتِهِم، وتقيَّدوا بضوابطِ النِّظامِ الإسلامي في تنظيمِ تصرُّفاتِهِم الماليَة، ومكاسِبِهِم، ونفقاتِهِم، ومُدَّخَراتِهِم، والْتَزَمُوا بتشريعاتٍ تحافظ على مقاصِدِ المشاركة ووحدة الجماعة والأمة، ومراعاةِ حقِّها الأصيل في ممتلكاتِ الفردِ وثروتِه، وبالقدرِ الذي حدَّده الإسلام من فَرْضِ الزكاة، وتشريعِ نظامِ الهِبات، والصَّدقات، والنَّفقات، والأحباس، والأوقاف، وغيرها من أحكامِ المصارف التي أوجبت توزيع الثروة وعدم تكديسِها في يدٍ واحدة، أو حَصْرِ تداوُلِها بين الأغنياء فقط، وتقليلِ التفاوت بين الطبقات الفقيرة والغنية..
 

فما مَنْشَأُ الجرائم وانتشار المفاسد التي عَمَّت مجتمعاتِنا إلا من نتائِجِ أعراضِ الترف، وانتشارِ الفائِضِ في الطاقة المتوفرة عن تكديسِ الثروات، والغفلة عن أداءِ رسالة الاستخلاف، والحقوق والواجبات، وصدق الحق سبحانه حيث حذرنا من الانسياق وراء مظاهر الترف كما في قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} الإسراء:16، وقوله تعالى: {حَتَّى إذَا أَخَـــذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إذَا هُمْ يَجأرُونَ} المؤمنون:64، وقوله تعالى: { فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} هود: 116.
 

وهذا من أسرار ما تتخبط فيه الإنسانية اليوم من مشاكل مستعصية، وفي ذلك إيذاناً باسْتِدْراجِ الأمة لدمارٍ وهلاكٍ شامل، لا نجاة لها منه إلا ببعثٍ جديد لحياةٍ تَجْتَلِي صُوَرَ الطبيعة وإحياءِ الفطرة الرَّاكدة في بساطةِ العيش، وتخليصِها من فائِضِ الإنتاجِ والادِّخارِ والاستهلاك، بالقدر الذي يكفي حاجَةَ الفرد والجماعة، ويَصْرِفُها عن مظاهِرِ البَذْخ، والتَّباهي والتَّفاخُر، ويعالِحُها من إدمانِ حُبِّ الامتلاكِ للملابس الفاخرة، والمراكب الفارهة، والدُّور الفخمة، وتبديد الثروات، واستهلاك الموارد بإفراط، ويسمو بها عن التنافس في تقديسِ المادَّة، والجاهِ الرَّفيع، والِعزِّ المَنيع، والسُّلطانِ الواسِع.. والانتقالِ بها إلى حياةٍ بَرِئَت من الانغماسِ في التَّنَعُّمِ بمباهِجِ الحياة، وخَلَت من مظاهِرِ الغرور، وما تجلبه راحَةُ الأبدان من الخمولِ، والتَّقاعُسِ عن المجاهدة وخوض معارك الحياة، وبَعْثِ الكفاءات المُنْتِجة العالِمَة، وتوظيفِ السَّواعِدِ الَّشابَّة العامِلَة، وفَتْحِ قنوات الإنتاج الوطني، وحِرَفِ التَّكوينِ المهني المثمر، وتشجيعِ المنافسة الحرة الشريفة، والحفاظِ على الموارد والثروات الطبيعية، واستثمار الأموال في مشاريع رائدة في مجال تحقيق التقدم والازدهار..