قلق الأم على أبنائها بين الاعتدال والإفراط
2 جمادى الأول 1440
سلوى المغربي

فطر الله مخلوقاته الحية على حب بقاء النوع , وأودع في قلب كل أب وأم حب أبنائهم والخوف عليهم من التعرض لأي أخطار تواجههم , لذا يحيط الأبوان أبناءهما بمزيد من العناية والرعاية بكل أشكالها حتى يجتازوا مرحلة الضعف ويكتسبوا القوة التي يستطيعون بها أن يدافعوا عن أنفسهم ويدفعوا عنهم بأنفسهم كل خطر خارجي , وجعل الله هذه العناية سلوكا غريزيا جبليا غير مكتسب في الآباء والأمهات .

 

ويعتبر من الشاذ سلوكيا أن تجد أبا أو أما يتخلون عن مسئوليتهما نحو أبنائهما , فيما يعتبر تقاسم المسئوليات بين الأبوين للحفاظ على أبنائهما سمة مشتركة بين كل الكائنات , والشواهد على ذلك كثيرة في الكائنات الحية التي غالبا ما يضحي الآباء والأمهات بالكثير لأجل أبنائهما , وربما يتحير الإنسان عجبا من سلوكيات بعض الكائنات الحية التي يضحي فيها الوالدان بحياتهما في سبيل حياة أبنائهما .
وتتفاوت مظاهر الاهتمام بين الوالدين بأطفالهما , إذ يتركز اهتمام غالبية الآباء في تأمين أطفالهم من الأخطار الخارجية , بينما يتركز معظم اهتمام الأمهات على تأمين أبنائهم من كل خطر داخلي , ولهذا يكون نتيجة انشغال الوالد في عمله أن ينصب اهتمام الأم بأطفالها ويزداد قلقها عليهم وعلى كل ما يحيط بحياتهم ماديا ومعنويا .

 

وبالطبع فالقلق المعتدل أمر محمود في حياة كل أم , فهو الذي يدفعها أن تجعل طفلها نصب عينها لتتابع كل تطور فيه لتكتشف مبكرا ما بطفلها من تغيرات تحتاج للتدخل سواء كانت بدنية أو سلوكية

ولكن – كالعادة في كل أمر – لا يأتي الإفراط في أي شئ بخير , فالقلق المفرط من الأم على طفلها قد يؤدي به إلى نتائج معاكسة لما ترجوه , وخاصة إن كانت حمايتها وقلقها على أبنائها معيقين لهم في سبيل نموهم البدني أو السلوكي النفسي .

 

وهناك فرق كبير بين وجود القلق المفرط من الأم وبين ظهور آثاره على تصرفاتها , لدرجة أن بعضهن يكدن من فرط إظهار قلقهن ورعبهن على أبنائهن يزرعن في أنفس الصغار خوفا من كل شيئ حولهم , وربما يصيبونهم بنوع من الجبن الشديد , فلا تنمو شخصيات الأبناء نموا طبيعيا ومستقلا , وبالتالي تؤثر تلك الممارسات عليهم تأثيرا بالغ السلبية وخاصة في جانب استقلاليتهم في اتخاذ القرارات التي سيحتاجون إليها بمرور الزمن .

 

وبالطبع لن يكون دافع كل أم في إظهار آثار قلقها المفرط على أبنائها إلا دافع واحد وهو فرط الحب , ولمثل هذا قالت العرب " ومن الحب ما قتل " , ويدرك المربون صعوبة أن تقتنع الأم بالتخلص من مخاوفها ومما يقلقها على أبنائها إلا إذا رغبت هي في أن تخفف من إظهار قلقها عليهم وتدرب نفسها عليه , وبالتالي من اليسير بداية أن تُربى البنت المقبلة على الزواج على هذه المفاهيم قبل أن تصبح أما حتى لا يصعب نزع ذلك الإفراط من شخصيتها .

 

ومن أخطر التصورات عند الأم أنها تعتبر أن ما تفعله من الإفراط في القلق وإظهاره على الأبناء هو الصواب بعينه , بل وتتهم كل أم غيرها - إن لم تكن على مستوى قلقها – بالإهمال والتقصير في حق أبنائها , وتعتبر أن مجرد محاولتها ضبط مشاعرها تجاه الخوف على أبنائها نوعا من التقصير في التربية وأداء الأمانة , ومرجع هذا أيضا إلى تربية الأم التي تلقتها في بيت أبيها حول الدور الواجب عليها أداؤه كأم مستقبلية .

 

بواعث القلق لدى الأمهات 
للقلق عند الأمهات العديد من البواعث التي تختلف فيها كل واحدة عن الأخريات , والتي إذا اجتمعت في واحدة منهن ربما تجعل من حياتها وحياة أبنائها جحيما لا يطاق , ويكاد يصل بها هذا القلق لمرحلة من مراحل الهوس أو الهواجس المرضية , ومن هذه البواعث ما يلي :

 

- الصغير لن يكبر في عينها
 منذ اللحظة التي تحمل الأم جنينها في أحشائها وهي تنظر إليه نظرة خاصة , وهي رؤيته دائما كجزء منها يجب عليها حمايته ورعايته وتحمل مسئولية كل شيئ عنه , وعندما تضعه يتجسد أمامها كائنا منفصلا عنها بدنيا فقط لكنه لا يزال يحتاجها في كل أموره ولا يمكنه الاستغناء عنها , ويكون هذا طبيعيا جدا في الأشهر الأولى , ولكن مع مرور الوقت يكبر الصغير ويزداد اعتماده على نفسه واستغناؤه عن الأم في قضاء حاجياته , إلا أن بعض الأمهات تتوقف بمشاعرها مع طفلها عند لحظات بدايته , فتتصور أن الصغير لن يكبر أبدا , وأن أفضل شيئ يفعله هو أن يظل معتمدا عليها في تدبير شئونه واتخاذ قراراته , وحتى لو كبر وصار شابا تنظر إليه بنفس النظرة التي كانت تنظرها له وهو طفل صغير , فتبالغ في الخوف والقلق عليه وقد تُضعف من شخصيته بسلوكياتها .

 

- تجارب مؤلمة لها أو للآخرين 
تساهم التجارب المكتسبة في التعامل مع الأطفال بالنسبة للأم أو التجارب التي مر بها آخرون من المحيطين بها في جعل الأم تبالغ في إظهار خوفها وجزعها وقلقها المفرط على أبنائها , فتشكل نصائح وتجارب القريبات والصديقات مع أبنائهن مَعينا للأم في سلوكها هذا المسلك , وربما تكون تجربتها هي نفسها مع طفلها السابق أو تجربة سابقة مع ذات الطفل أدت لوقوع مشكلة من نوع ما قد سببت إكساب الأم سلوكا مَرضيا من القلق المبالغ فيه .

 

- قلة خبرة ووعي وعدم قبول النصح
نتيجة لغريزة الامتلاك تعتبر بعض الأمهات أن طفلها ملك خاص لها وحدها , وليس لأحد حق في التدخل في تربيته , فلن يخاف عليه – بظنها - أحد أكثر منها , ولن يعتني بحاضره ومستقبله أحد بمثل ما ستعتني , وربما لا تكون لها خبرة في تربية الأبناء فتتصرف تصرفات فيها من آثار القلق الزائد عن الحد التي قد تضر بصغيرها ولا تفيده , وفي ذات الوقت لا تحاول أن تستنير برأي من هن أكثر خبرة منها في تربية الأبناء وخاصة ممن تعاملن وعانين في تربية أبنائهن زمنا طويلا وتكونت لديهن خبرة طويلة في كيفية التعامل مع مشكلات الأبناء .

 

- تأخر الحمل أو اختلاف نوع المولود عن إخوته 
ربما تتسبب الظروف المحيطة بإنجاب الأبناء أو ببعضهم في إجبار الأم على إظهار المزيد من القلق المبالغ فيه , كأن تكون المرأة لم تنجب إلا بعد وقت من زواجها أو بعد علاج لها أو لزوجها , فتشعر الأم أنها لابد وان تزداد خوفا على هذا الصغير الذي جاء بعد عناء , وقد يكون الطفل الذكر بعد عدد من الإناث – عند عدد غير قليل من الأسر - سببا في إجبار الأم على إبداء القلق المبالغ فيه تجاهه وحده دون باقي إخوته , وأيضا يتواجد ذلك الشعور مع الطفل الوحيد أيا كان نوعه أو الطفل صاحب الظروف الصحية الخاصة حتى لو انتهت آثارها .

 

- الضغوط الخارجية على الأم 
ربما لا تكون الأم من الأصل مظهرة للقلق المبالغ فيه ولكنها قد تقع تحت تأثير ضغوط خارجية منها طبيعة الزوج أو الأهل المدققة جدا والمعاتبة للأم والمحملة لها المسئولية الكاملة عن أي تغير ولو كان بسيطا في حياة الأبناء , فتضطر الأم لإظهار قلقها وفزعها تجاه أي تغير في حياة ابنها .

 

أنواع ومظاهر القلق على الأبناء 
تتعدد عند الأمهات أنواع ومظاهر القلق على الأبناء , وربما تكون كل المظاهر متصلة مترابطة , إذ أنه ليس بمستغرب أن تتلاحق تلك المظاهر بحسب المراحل السنية , ومن هذه المظاهر ما يلي :

 

- القلق على الحالة البدنية والصحية للأبناء  
أول ما تفتش فيه الأم وتهتم به وتقلق عليه هو الحالة الصحية والبدنية لأبنائها , فقد يتسبب ارتفاع بسيط وطارئ في درجة حرارة الطفل في هلع الأم وجزعها وربما إصابة بعضهن بالإغماء نتيجة الخوف الشديد على الابن , وتشطح بهن الخيالات والمخاوف لأبعاد غير متصورة , وربما تتصور إحداهن أن إصابة الطفل بأي مرض طبيعي مثل البرد وغيره هو من تقصيرها في حماية ابنها , لأنها تسببت في ذلك بخطأ منها فتعرض لتيار هواء مثلا , وتعتقد أن كل مرض يصاب به الطفل لن يكون سببه إلا إهمال منها في تعقيم طعامه وشرابه وتعقيم غرفته !! , وتعتقد انه من المفترض في الأم المثالية ألا يتعرض ابنها لأي مرض !!  

 

- القلق على كمية طعامه وشرابه 
ربما تتصور الأم أن نجاحها الأسري في مهمتها يمر على مائدتها العامرة التي لابد وان يلتهم طفلها ما قررته له من وجبات , وتعتبر أن صدود الطفل عن صنف معين أو عن تناول ما تقرره من وجبات هو الفشل منها بعينه , وبالتالي تعتبر نفسها في مشكلة ضخمة إذا قل أو تناقص مقدار ما يتناوله ابنها يوميا في وجباته , أو عاد من مدرسته ولم يأكل طعامه , وتعتبر نفسها في كارثة حقيقية لو قل وزن الطفل عن الوزن المطلوب , وربما تشعر بهاجس من تناول الطفل لأي طعام خارج البيت , وتعتبر أن الأصل في كل طعام خارج البيت انه ملوث سيصيب ابنها – مهما كبُر في السن - بالضرر وينبغي عليه الإقلاع عن ذلك حتى لا تكون أما فاشلة !!

 

- القلق على مستواه ومستقبله الدراسي 
تعتبر كثير من الأمهات أن الأم المثالية في نظرها هي التي يحُل ابنها في المركز الأول دراسيا على فصله أو مدرسته أو حتى قارته , فلا تقبل منه مركزا غير ذلك , وتنتابها الهواجس والظنون وتلاحق الطفل دون اعتبار لقدراته الدراسية أو العقلية أو النفسية , وتعتبر أي نقص في درجاته فشلا لها في تربيتها لأبنائها وفي أدائها لوظيفتها كأم , ويُعتبر الابن الأقل كفاءة دراسيا أو عقليا أو نفسيا ابنا مظلوما دوما للأم التي يصل بها الهاجس الدراسي لهذا الحد , وربما يساهم تصرفها هذا في إضعاف مستواه أكثر فأكثر .

 

- القلق عليه من الاختلاط بالأقران خاصة وبالناس عامة  
الإنسان في كل وسط يتعامل معه - مهما كان نوعه أو عمره – لابد وأن يؤثر ويتأثر بمن حوله من أقرانه وغيرهم , وقد تبالغ الأم في قلقها إذا رأت تغيرا سلوكيا أو لفظيا - ولو كان بسيطا - في ابنها عما عودته عليه , وهي لا تدري أن شخصية الإنسان تصقل بالتعامل مع الغير دون إغفال التوجيه والمتابعة منها , فيدفعها القلق المبالغ فيه لإبعاده عن كثير من أقرانه الملازمين له بدعوى أنهم من بيئات اقل وسلوكيات غير مرضية , وهي لا تدري انه من الصعب بل من المستحيل إبعاده عن أقران مرافقين له كرفقاء المدرسة أو جيران المنزل , فتحاول أن تجعله في كهف مغلق لينطوي فيه على نفسه أو يضطر للفصل بين عالمين , عالم يظهر به أمامها بما تحب ليرضيها وليتجنب إثارتها , وعالم يعيش فيه بواقع مغاير تماما لما نشأ عليه , وحينها ستكون الأم سببا أساسيا لحالة من الازدواجية النفسية التي سيعيشها ابنها بقلقها وردود أفعالها المبالغة .

 

- قلق من المقارنة بالغير 
دونما مراعاة لأي فروق فردية بين ابنها والأبناء الآخرين من الجيران والأصحاب والمعارف والأقارب , ودونما اعتبار أيضا للفروق بين أبنائها أنفسهم , تظهر الأم قلقها المبالغ فيه من مقارنة ابنها بهم , فهي ترى ابنها دوما أقل من غيره , لأنها تريده سابقا لهم في المستوي الدراسي والتحصيل العلمي ومتفوقا عليهم في المستوي الرياضي ومتميزا عنهم في موهبة أدبية أو فكرية ومتقدما عنهم في حفظ القرآن الكريم ومختلفا عنهم في السلوكيات الحميدة والأخلاق الفاضلة , وغير ذلك من المواهب التي وهبها الله بعض الناس دون البعض ولم يجمعها لواحد من الناس إلا ما ندر , فدائما تقلق الأم وتبدي ذلك القلق الشديد إذا ما تميز أحد وتفوق على ابنها في شأن من هذه الشئون , وهذا خلل في الأفكار التربوية لديها والتي يجب أن تصحح لها فتُربى عليها قبل الإنجاب وتُقَوم عليها بعد الإنجاب .
 إن القلق المبالغ فيه على الابن يسبب له أضرارا نفسية ربما تتساوى أو تزيد عن أضرار الإهمال الكامل من الأم , فكلاهما طرفا نقيض ضار غير نافع , والتوسط بينهما هو الحسنة بين السيئتين , وهو خير الأمور في الأقوال والأفعال