أول طريق النجاح
26 شعبان 1440
د. عامر الهوشان

(كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ) حقيقة قررها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الحاكم في مستدركه عن أنس بن مالك رضي الله عنه , وامتدحها القرآن الكريم بقوله تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } آل عمران/134-135

 

ليس بدعا في الإسلام أن يخطىء الإنسان أو يذنب , فهو مجبول بطبعه على ذلك , ولا يمكن أن يسلم إنسان من ارتكاب الخطأ أو الوقوع فيه - إلا الأنبياء والمرسلون الذين عصمهم الله تعالى عن ذلك - فقد جاء في الحديث الصحيح عَنْ يَزِيدَ بْنِ الأَصَمِّ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – ( وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ ) صحيح مسلم برقم 7141

 

ولكن المشكلة والمعضلة تكمن في الإصرار على الذنب والخطأ , وعدم الاعتراف به أو التراجع عنه , فما هلك من هلك ممن كان قبلنا إلا بإصرارهم على الذنب والخطأ , واستكبارهم عن التراجع عنه أو التوبة منه , وما فاز من فاز من الأفراد والمجتمعات والأمم إلا باعترافهم بالخطأ إذا وقع منهم , و التراجع عنه إذا صدر عنهم .

 

وإذا كان الاختلاف في الرأي في الإسلام محموداً ومشروعاً, فإنه كذلك من أجل الوصول إلى الغاية والهدف من هذا الاختلاف , ألا وهو معرفة الحق والتزامه , فهو غاية الجميع أولا وآخرا , فإذا ما ظهر هذا الحق واتضح , وكثرت براهينه وأدلته الدامغة , رأيت الجميع يلتفون حوله ويتمسكون به , معترفين بخطئهم الذي قد وقع , مطبقين بذلك تعاليم دينهم , والقاعدة والمثل المستنبط من هذا الدين : الاعتراف بالذنب والخطأ فضيلة .

 

وليس هذا الأمر خاصا , بل أصبح اليوم قاعدة النجاح والفلاح للأفراد والمجتمعات في العالم , فمن أخذ به فاز وسعد , ومن تركه خاب وخسر , وقد امتلأت كتب التنمية البشرية اليوم بمثل هذه القواعد والمبادئ ذات الجذور الإسلامية , حتى شاعت القاعدة التي تقول : إذا كان الأشخاص والمصالح يدورون حول المبادئ , فذلك قمة الرقي والتقدم , وإذا كانت المبادئ والمصالح تدور حول الأشخاص , فذلك قمة الخنوع والاستبداد , وإذا كانت المبادئ والأشخاص تدور حول المصالح والأهواء , فذلك قمة الانحطاط والانحدار .

 

وإذا كان المسلمون في العالم مأمورون بالتزام هذا المبدأ الإسلامي وتطبيقه , فإن قادة المسلمين أولى بالتطبيق والالتزام , فهم القدوة لأتباعهم وأنصارهم , وهم طليعة وواجهة المجتمع الإسلامي , ولا يمكن لأمتنا أن تتقدم وتتطور إلا إذا اعترف من أخطأ بخطئه وحاول تصحيحه , بدءا من المسلم البسيط العادي , وانتهاء بالقادة والعلماء والمربين .

 

وإذا كان إصرار الإنسان المسلم على الخطأ معيقا للتقدم والتطور , فإن الأخطر منه إصرار بعض القادة والطليعة على خطئهم , حيث يُظهر البعض تعنته واستكباره عن الرجوع عن الخطأ الذي وقع فيه , رغم ظهور عواره ووضوح فساده وبطلانه , ويزداد الأمر سوءا إذا اكتشف محبو هذا القائد إصراره على خطئه الذي وقع فيه , دون الاعتراف به تمهيدا للتوبة منه والرجوع عنه , مما يشكل صدمة للمحبين والأتباع وشرخا عميقا في الثقة بين القيادة والقاعدة , بسبب الانفصال بين القول والعمل , بين ما كان يقوله هذا القائد للناس عن وجوب الاعتراف بالخطأ إذا وقع الإنسان , وما يرونه اليوم من امتناعه هو عن تنفيذ ذلك وتطبيقه .

 

لقد كان السلف الصالح نموذجا يحتذى به في التمسك بالحق مع الاعتراف بالخطأ إذا تبين له والرجوع عنه , فها هو الصحابي الجليل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه , يتراجع عن رأيه الذي ظهر له فيه خطأ , بعد أن نبهته امرأة لذلك , حين عزم على تحديد مهور النساء وعدم المغالاة فيه , فقد ورد في سنن البيهقي وغيره عن الشعبي قال : ( خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال : ألا لا تغالوا في صداق النساء , فإنه لا يبلغني عن أحد ساق أكثر من شيء ساقه رسول الله صلى الله عليه و سلم أو سيق إليه , إلا جعلت فضل ذلك في بيت المال ثم نزل فعرضت له امرأة من قريش فقالت : يا أمير المؤمنين أكتاب الله تعالى أحق أن يتبع أو قولك ؟!! قال بل كتاب الله تعالى فما ذاك , قالت : نهيت الناس آنفا أن يغالوا في صداق النساء والله تعالى يقول في كتابه { وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا } النساء/ فقال عمر رضي الله عنه : كل أحد أفقه من عمر مرتين أو ثلاثا , ثم رجع إلى المنبر فقال للناس : إني كنت نهيتكم أن تغالوا في صداق النساء , ألا فليفعل رجل في ماله ما بدا له ) سنن البيهقي 7/233 برقم 14114 , وقال الهيثمي عن الحديث : رواه أبو يعلى في الكبير وفيه مجالد بن سعيد وفيه ضعف وقد وثق , ( وليس ذلك يعني الندب إلى المغالاة في المهور , بل الثابت أن تخفيف المهور هو المرغوب فيه والمراد , لكن إن أراد الزوج مختارا أن يعطي زوجته ما يشاء فليفعل خصوصا إن كان ميسر الحال )

 

بل كان الشافعي رحمه الله تعالى إذا اختلف مع غيره أو ناظره , تمنى أن يجعل الله الحق على لسان مجادله ومخالفه ليتبعه وينقاد إليه فيقول : ( ما جادلت أحداً إلا تمنيت أن يظهر الله الحق على لسانه دوني ) , وكان يعود عن خطئه إن بدا له ذلك الخطأ وظهر , فقد ورد أنه قال أيضا رحمه الله : ( ما كابرني أحد على الحق ودافع إلا سقط من عيني ، وما قبله أحدٌ إلا هبته واعتقدت مودته ) , وقد ناظر الشافعي رحمه الله رجلاً من أهل العلم ، فانتهت المناظرة بأن رجع كل منهما إلى قول صاحبه ، الشافعي ترك قوله واقتنع برأي الآخر، والآخر ترك قوله واقتنع برأي الشافعي .

 

وهذا الشيخ الألباني رحمه الله يذكر تراجعه في الموضع نفسه الذي أخطأ فيه في كتبه ، رغم أنه كان يستطيع أن يحذف القول الخطأ ويبقي القول الصواب قبل دفعه الكتاب إلى المطبعة ، ومثال ذلك ما جاء في (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم) (هامش رقم 1 ص41) حيث قال الشيخ الألباني عن حديث (اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم( صحيح أخرجه الترمذي وأحمد وابن أبي شيبة ، وعزاه الشيخ محمد بن سعيد الحلبي في مسلسلاته (1/2) إلى البخاري فوهم .

 

ثم تبين لي أن الحديث ضعيف ، وكنت اتبعت المناوي في تصحيحه لإسناد ابن أبي شيبة فيه ، ثم تيسر لي الوقوف عليه ؛ فإذا هو بيِّن الضعف ، وهو نفس إسناد الترمذي وغيره . راجع كتابي سلسلة الأحاديث الضعيفة المجلد الأول .

 

لقد كان الحق مرادهم وغايتهم , والوصول إلى الصواب سعيهم وطلبهم , فإذا ما ظهر هذا الحق , اتبعوه وانقادوا إليه , بكل يسر و سهولة , وتركوا ما كانوا عليه من الاجتهاد الذي بدا لهم عدم صوابه , فلم يتعصبوا لرأي , ولم يتحجروا لمذهب أو اجتهاد , ما دام القرآن والسنة الحكم والفيصل بينهم .

 

إن آفة العمل الإسلامي اليوم هو عدم رجوع بعض قادة وزعماء بعض الأحزاب والجماعات فيه عن خطئهم – وقد ظهر ذلك جليا في أكثر من بلد عربي وإسلامي -رغم وضوح الحق وجلائه كعين الشمس كما يقال , ورغم اجتماع معظم علماء وفقهاء العالم على هذا الرأي , بل رغم وضوح هذا الحق لعامة المسلمين وبسطائها , فضلا عن علمائها ومفكريها وفقائها , فماذا يسمى ذلك غير تعصب مرذول ؟؟!! ومخالفة للإجماع الإسلامي مذموم ؟!

 

فإذا كان قادة العمل الإسلامي وواجهته من الدعاة والعلماء لا يتراجعون عن الخطأ إذا وقعوا فيه أو خالطوه , فكيف يمكن أن نطلب من عامة المسلمين التراجع عن أخطائهم ؟؟!! وكيف يمكن أن نبني مجتمعا إسلاميا في بلادنا العربية والحال كذلك ؟؟!!