15 ذو القعدة 1440

السؤال

السلام عليكم... بارك الله فيكم سعادة المستشارين، وبعد لدي مشكلة أو بالأصح هَمّ لا يكاد يفارقني، وهو أن الله تعالى لم يكتب لي الزواج، وقد تجاوزت الثلاثين وأنا - ولله الحمد - على قدر عال من الدين والأخلاق والعلم وقد واصلت تعليمي العالي، وأعمل معلمة للخير بإذن الله تعالى، وتؤثر فيَّ نظرات المحبة والشفقة من والدي وأقربائي وزميلات العمل والدراسة، وأغلب من يتقدمون لخطبتي أشخاص معددون، ونفسيتي أبت أن تقبل هذا الشيء وحاولت كثيراً تقبل أن أقبل بمتزوج ولم أستطع؛ فما رأيكم، ودعواتكم بارك الله فيكم.

أجاب عنها:
د. سلوى البهكلي

الجواب

يعتبر التأخر في الزواج من المواضيع الشائكة التي تؤرق الكثير من الفتيات والأسر خاصة في المجتمعات العربية. ويعتبره البعض من المصائب أو المحن العظمى التي قد تبتلى بها الأسرة بل وهناك من يجزم أن الفتاه، أو الأهل أو المجتمع هم السبب في هذا التأخير. ولكنهم يغفلون أن الزواج ما هو إلا رزق مقسوم من رب العباد. يقسمه الله لنا عند نفخ أرواحنا في أجسادنا ونحن في بطون أمهاتنا. فقد اخبرنا بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ قال "إن أحـدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مـضغـة مثل ذلك، ثم يرسل إليه المَلَك، فينفخ فيه الروح، ويـؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد.... ". فالرزق لا ينحصر على المال أو الطعام فقط. فالزواج هو رزق من أرزاق الله سبحانه التي لا يملكها إلا هو، ويهبه من يشاء وقت ما يشاء، لحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها. وقد قال تعالى "وفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ ومَا تُوعَدُونَ". وقد يكون الأهل أو المجتمع أو الظروف سببا في تأخير هذا الرزق فعلا ولكن لا ينبغي علينا أن نعلق سبب التأخير على هذه الأسباب فقط.

 

أختي الفاضلة..

ذكرتِ أنك تحملين داخلك قدراً عالياً من الدين والأخلاق. فينبغي أن ينعكس إيمانك هذا على أفعالك ومعتقداتك، فيظهر رضاك الداخلي والخارجي بما قسمه الله لك. فإذا أيقنت يقينا صادقا لا لبس فيه أن كل ما يحدث لك ما هو إلا بأمر الله سبحانه، وما هو إلا برغبة الله ومشيئته، ستدركين أن الزواج الذي تنتظرينه أنت وغيرك هو أيضا آت لا محالة إذا قسمه الله لك. وأن الله لم يؤخره عنك إلا لحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه. فالله كما تعلمين لطيف بعباده، فكيف بعباده الصالحين!

 

فعليك أن تهوني عليك الأمر، ولا تستعجلي، فأنتِ لا تعلمين هل سيكون الزواج سببا في سعادتك أو سيكون سببا في شقائك! الم تفكري يوما أن في تأخير زواجك نعمة لك لا نقمة عليكِ. وأن الله يعلم أنك لو تزوجت في سن مبكرة قد يكون زوجك سبباً في بعدك عنه سبحانه، وانتكاس حالك وشقائك، فتخسرين الدنيا والآخرة معا.

 

ألم تفكري يوماً أن تأخير زواجك قد يكون ابتلاءً من الله ليقيس به مستوى رضاك بما قسمه لك، ومدى إيمانك الفعلي! فعليك أن تتنبهي لذلك لتنجحي في الامتحان. فقوة الإيمان وصدقه لا يظهر إلا عند الابتلاء والمحن.

 

أحسني الظن بالله، واصبري واحتسبي الأجر عند الله على صبرك، وسيكافئك الله تعالى أن صدقت معه بما لا يخطر ببالك. ولا يعني ذلك أن لا تبذلي الأسباب في طلب هذا الرزق. فمن أهم الأسباب التي عليكِ أن تبذليها هي الذكر والاستغفار والإلحاح في الدعاء.

 

أخيتي

احذري من الاستمرار في التفكير السلبي الذي يولد لديك الإحباط، والخوف من المستقبل. ولا تجعلي تفكيرك ينحصر في الزواج فقط، ولا تجعليه همك الأكبر ولا تعتقدي أن السعادة تنحصر في الزواج فقط. فكم من امرأة أصبحت شقية بعد زواجها.

 

توكلي على الله، واستغلي أيامك القادمة ولا تضيعيها بالهم والحسرة، فما مضى من عمرك قد مضى، فاستغلي ما تبقى منه ليكون لك رصيدا في الدنيا والآخرة. اسألي الله أن يوفقك وأن تقضي أوقات فراغك بكل ما هو مفيد ونافع لك ولغيرك. اجعلي لنفسك غايات وأهداف سامية واسعي لتحقيقها. كوني نورا ونبراسا يضيء الطريق لمن حولك، واجعلي همك رضى الله وتعلم دينه وتعليمه، واستمري في البذل والعطاء وفي تعليم الخير، وسيدهشك الله بإذن الله، فمن ترك شيئاً لله عوضه الله خيرا منه.

 

عززي ثقتك بنفسك، ولا تعتقدي أن الزواج هو المقياس الذي تقاس به الجواهر من النساء. فكم من امرأة تزوجت لا تمتلك من الجمال والدين والخلق القدر الذي يبتغيه الراغبون في الزواج من الرجال ولكنه رزق كتبه الله لهن. ولا تهتمي بما يقوله الآخرون.

 

عليك أخيتي أن تراجعي نفسك وتعيدين حساباتك مع الله سبحانه. فربما تكونين قد أذنبت ذنبا لم تلقي له بالا أو ظلمت أحدا دون أن تدري، أو اغتبت أحدا دون أن تدركي أنك تقعين في كبيرة من كبائر الذنوب التي ابتلي بها معظمنا في هذه الأيام، ولم يسلم منها بر ولا فاجر إلا من رحم ربي. فكان ذلك الذنب سببا في تأخر زواجك، فقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم"إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه"... فإن وجدتي في صحيفتك بعض الذنوب حاولي أن تتخلصي منها ولا تستهيني بها مهما اعتقدت بأنها صغيرة. ولا تجعلي للشيطان عليك سبيلا. ولا تتبعي الشيطان فيصيبك بالهم والحزن. لينتهي بك المطاف إما بالقنوط من رحمة الله أو الاعتراض على قضائه، أو بالانزلاق إلى مهاوي الشيطان. وابتعدي عن كل شبهة وعن كل ما يغضبه سبحانه، لكي لا تكون ذنوبك سببا في منع الرزق عنكِ، فقد قال المصطفى "وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه".

 

اتقي الله، وتفقديِ أحوالك معه سبحانه خاصة في العبادات القلبية وتذكري قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3]. ولا تتهاوني في حقوقه سبحانه، وتقربي إليه بالأعمال الصالحة المتقنة التي يحبها. وتذكري قوله تعالى في الحديث القدسي: "ما تقرب إلي عبدي بأحب مما افترضته عليه". ولكن لا تجعلي العبادة وسيلة لتحقيق الزواج فقط. بل اجعليها خالصة ابتغاء وجهه سبحانه وابتغاء مرضاته والحصول على الأجر. ويكفيك شرفا أن يكون الله هو من تناجيه وتأنسين به في خلوتك. اقتربي من الله أكثر وأكثر، املئى قلبك وعقلك ودنياك بالله، عندها لن تشعرين بالهم أو الحزن أو الوحدة، فما أجمل الأُنس بالله.

 

أكثري من الصدقة خاصة السرية بنية الزواج من رجل صالح، فكما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم "صدقة السر تطفئ غضب الرب". والصدقة من أسباب فتح أبواب الرزق.

 

كوني صابرة محتسبة، وتذكري قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } [البقرة: 45]. فأكثري من الصلاة، وأعطها حقها، وأطيلي السجود فيها، وكوني خاشعة ذليلة منكسرة لله تعالى عند مناجاته، قولي له سبحانه بقلب خاشع ذليل " اللهم ارحم ضعفي واجبر كسري" وسيجبر كسرك بإذن الله. ولا تضيعي السنن والنوافل، واحرصي على قيام الليل.

 

أكثري من الاستغفار قدر ما تستطيعين ولا تنسي أن دعاء ذو النون واستغفاره هو الذي نجاه من الكرب. فأكثري من "لا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين". أكثري من دعائه سبحانه بدعوة ذكريا عليه السلام "ربي لا تذرني فردا" وقولي دوما "اللهم أغنني بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك".

 

ادعي الله بكل صدق وبكل نية طيبة بأن يرزقك أنت وأخواتك المسلمات الأزواج الصالحين، فالله هو من بيده خزائن كل شيء. ادعيه سبحانه أن يغمر قلبك بالسعادة والرضى، ألحي عليه بالدعاء وانكسري له، فالله يُحب العبد اللحوح، واهتمي بتطبيق آداب الدعاء وتحري أوقات الإجابة. وتذكري قوله سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].

 

وتذكري أن الله إذا أحب عبدا ابتلاه ليسمع صوته. ولكن احذري من أن تستعجلي الإجابة. فالله يمقت ذلك كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: "لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل".

 

استخيري الله فيمن يتقدم لخطبتك، إن تأكدتِ من دينه وخلقه، ولا تجعلي زواجه من أخرى عقبة في طريق زواجك به إن كنت تظنين به خيرا وأنه الشخص المناسب. استخيري الله وامضي في الأمر واتركي الله يختار لك ويدلك على الطريق الصحيح. فهو سبحانه الذي يعلم أي الأمور وأي الطرق خير لك في دينك ودنياك. أسأل الله أن يرزقك الزوج الصالح عاجلا غير آجل. وأن يكون زوجك قرة عين لك وعونا لك في دينك ودنياكِ.