من نعمة الله على عباده أن يتيح لهم فرصا متتابعة للقربى إليه سبحانه ويفتح لهم أبوابا عديدة للتوبة , وغسل القلوب , وتطهير النفوس , كيف لا وهو سبحانه الرحيم , الودود , الذي يحب من عباده التوبة , بل ويفرح بتوبة عبده إذا تاب , وفي الحديث القدسي عن ابي هريرة رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا ، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا ، وَإِذَا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً ، وَإِنْ هَرْوَلَ سَعَيْتُ إِلَيْهِ ، وَأَنَا أَسْرَعُ بِالْمَغْفِرَةِ " متفق عليه
وهو سبحانه القائل في كتابه : "إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " , وكلما مرت الأيام على أحدنا فإنها تحمل في طياتها لكل امرىء منا تقصيرا جديدا ومعصية متكررة , لأن بنى آدم خطّاء غافل وهي طبيعته , والذنب يورث القسوة والوحشة , ويورث الكآبة والهم , بل ويؤثر في القلب , فينكت فيه نكتا أسود , حتى يصير القلب مع تراكم الذنب بعيدا عن التوبة والإنابة ..
وتأتي أيام عشر ذي الحجة بفضلها العميم لتصير منادي خير , وداعي هداية إلى القربى إلى الله سبحانه وتعالى , ففي الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم : " ما من أيام العمل الصالح فيهن خير من هذه العشر " , ويقول صلى الله عليه وسلم : "ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر , فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير و التحميد" أخرجه أحمد .
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم : "ما من عمل أزكى عند الله عز وجل ولا أعظم أجراً من خير يعمله في عشر الأضحى" رواه الدارمي عن ابن عباس وحسنه الألباني
فهي فرصة للعودة إلى الله سبحانه وتعالى , وهي ملاذ للوالغين في الآثام وهي ملجأ لمن ابتعد ونأى قلبه عن ثكنة التقوى .
عشر فضيلة , قيّمة المكانة , سامية القدر , نهارها ذكر , وليلها إنابة , فيها الصوم وفيها الصدقة , فيها المشاركة في الطاعة , وفيها التآلف على الفضائل .
عشر محببة لكل ذي قلب كريم , ينتظرها في كل عام لتكون نقطة شحن إيماني جديدة , يملأ فيها نفسه بما يمكنه أن يداوم السير , ويواصل الطريق .
وهي دورة إيمانية , تبدأ من أول ذي الحجة وحتى آخر أيام التشريق , كلها مكرمات , تدرب على التجرد , إذ يوازيها ويقاسمها عمل الحاج الذي هو تجرد كامل لله الرحمن , وتبتل تام له سبحانه .
وعشر ذي الحجة إذ تمثل موئل توبة إنما تواسي من أهل الإيمان من لم يستطع أن يحج بين الله الحرام ممن كان عزمه أكيدا ونيته منعقدة
فكأنها تقول له : جفف دمعك , فإن الشريعة الغراء تفتح لك أينما كنت ابواب القبول , وتدعوك إلى العبادة المخلصة , وتناديك أنّ لك ربا يقبل التوبة عن عباده ويغفر السيئات .
يقول الإمام ابن رجب الحنبلي : "لما كان الله سبحانه قد وضع في نفوس عباده المؤمنين حنيناً إلى مشاهدة بيته الحرام وليس كل أحد قادراً على مشاهدته كل عام , فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره، وجعل موسم العشر مشتركاً بين السائرين والقاعدين"
فيا أيها التائب لن يعوقك شيء , ولئن قصُرت بك النفقة عن الحج فنيتك أوصلتك إلى المعالي , ولئن عاقتك الإجراءات , فعزيمتك قد أحاطت بالمكرمات .
فهنيئا لمن أخلص لربه في عشر ذي الحجة , وطوبى لمن جعل التوبة نبراسه والذكر سلوكه , والعطاء هدفه , والجنة مبتغاه .