كثيرة هي الأحاديث والآثار التي تناولت فضيلة إدراك المسلم لشهر الصيام , وكيف كان السلف الصالح يدعون الله ويبتهلون إليه أن يبلغهم رمضان , فقد جاء في لطائف المعارف للإمام ابن رجب رحمه الله : قال معلى بن الفضل : كانوا – أي الصحابة الكرام - يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ، ويدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم ، و قال يحيى بن أبي كثير كان من دعائهم : اللهم سلمني إلى رمضان ، و سلم لي رمضان ، و تسلمه مني متقبلا . رواه أبو نعيم في الحلية بإسناد صحيح 3/ 69
ولا شك أن المقالات التي كُتبت عن استقبال شهر الصيام , وتحدثت عن تفاصيل طريقة الاستعداد له بما يليق بمكانته ومنزلته عند الله , كما تناولت دقائق ما ينبغي للمسلم أن يفعله قبل قدوم هذا الزائر الكريم كثيرة وتفي بالغرض والمطلوب , إلا أني تذكرت مشهدا حصل منذ سنوات قبل حلول شهر القرآن بأيام , أحببت أن أشارك فيه القارئ الكريم , من باب اعتبار ذلك المشهد معنى آخر من معاني إدراك شهر رمضان .
توقيت المشهد الذي رواه صاحبه كان قبيل شهر الصيام بأيام معدودة , وأما المكان ففي بلد تعصف فيه حرب ضارية منذ سنوات , ويحوم الموت فوق رؤس أهلها دون تمييز بين صغير أو كبير ولا بين قوي أو ضعيف , ولا يدري الخارج من بيته هل يعود إليه وهو على قيد الحياة , أم يعود إليه وهو جثة هادمة , أم لا يعود إليه لا حيا ولا ميتا كأن يسجل في عداد المفقودين , شأنه كشأن الآلاف المؤلفة من أمثاله .
يقول صاحب الرواية : لأول مرة منذ أن أضحت فريضة الصيام واجبة على أمثالي من المسلمين , أشعر بهذا الشعور الفريد الذي ينتابني الآن قبيل قدوم الشهر المبارك بأيام , حيث أرغب بأي يطوي الله هذه الأيام المعدودة المتبقية من شعبان , ويهل هلال رمضان وأنا على قيد الحياة , لعلي أدرك بعض فضائله ونسماته الجليلة الكثيرة قبل أن يدركني الموت الذي أراه اليوم أقرب إلي من حبل الوريد .
كنت أريد أن أدرك على الأقل الليلة واليوم الأول من رمضان , لأبادر إلى توبة ليست كغيرها مما عهدت من توبات سابقة كنت أخرقها بعد أيام أو شهور , توبة حقيقية كما أمر الله تعالى في كتابه العزيز : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} التحريم/8
لم أكن أبالي حينها أن يدركني الموت بعد أن يبلغني الله تعالى رمضان , لأني كنت على يقين أن أياما معدودة من هذا الشهر ولياليه كفيلة بأن تمحو عني ذلك الماضي المليء بالذنوب والمعاصي , وأن تدخلني في رحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء , ومن دخل في رحمة الله فلا شك أنه سينجو من عذابه وسينال عفوه ورضاه , حتى إن الحديث يؤكد ذلك , فعن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً إلى المنبر فقال حين ارتقى درجة : "آمين" ثم رقي أخرى فقال : "آمين" ثم رقي الثالثة فقال : "آمين" فلما نزل عن المنبر وفرغ قلنا : يا رسول الله لقد سمعنا منك كلاماً اليوم ، قال: "وسمعتوه؟" قالوا: نعم، قال : ( إن جبريل صلى الله عليه وسلم عرض علي حين ارتقيت درجة ، فقال : .......... بَعُد من أدرك رمضان فلم يغفر له، فقلت : آمين ) المعجم الكبير للطبراني برقم315 ورجاله ثقات مجمع الزوائد 11/34
وتابع صاحب الرواية : كم دعوت الله بصدق أن يبلغني رمضان في ذلك العام , وكأني أستشعر لأول مرة معنى ما ورد في الأثر من دعاء السلف الصالح أن يبلغهم رمضان قبل شهور من موعده وأوانه , وكم كنت حزينا حين تم إثبات شهر الصيام في بعض الدول العربية حينها , ولم يتم إثباته في بلدي , وكم شعرت أن ساعات ذلك النهار المعدودة وتلك الليلة طويلة حتى يحل ظلام يوم غد وتبدأ أول ليلة من رمضان في بلدي , لأسارع إلى صلاة التراويح بروح جديدة لم أعهدها من قبل أبدا .
وجاء رمضان في ذلك العام وكان شهرا متميزا بالنسبة لي بكل المقاييس وعلى كافة الأصعدة الروحية والتعبدية , حيث كان الإحساس بأن الموت ربما يأت اليوم أو الليلة أو غدا أو بعد غد دافعا مستمرا وحافزا لا ينقطع عن الاجتهاد في العبادة والطاعة , والإكثار من أعمال البر والخير , وإفراغ القلب من كل ما لا يرضى الله من الأخلاق القلبية الذميمة .
وينهي صاحب الرواية كلامه بالقول : لقد مضى على ذلك المشهد أكثر من عامين , وشهدت بعده أكثر من رمضان , وها هو رمضان الآن على الأبواب , أحاول فيه – كما حاولت في رمضان الماضي والذي قبله - أن أستنسخ الشعور والإحساس الذي انتابني في مثل هذه الأيام منذ أعوام , لعلي أدرك بعض ما أدركته من نفحات إيمانية لا يمكن وصفها أو التعبير عنها إلا بمعايشتها ثانية .
إنه تذكر الموت والشعور بقربه ودنوه في كل لحظة يا سادة , الذي رغب فيه النبي صلى الله عليه وسلم في كل وقت بقوله : (أكثروا من ذكر هاذم اللذات ) رواه الطبراني والبزار بإسناد حسن مجمع الزوائد 11/223 , لما يحدثه من آثار ونتائج إيجابية على صعيد روح المسلم وقلبه , ومن ثم على سلوكه وأفعاله الجسدية , ولعل ذلك ما جعل من إدراك رمضان - في نفس صاحب الرواية - طعما آخر , وحول الأيام المعدودة التي نحياها الآن قبيل رمضان في نفسه إلى أيام استعداد روحي وقلبي فريد لاستقبال هذا الزائر والضيف الكريم , أثمر فيما بعد ثمارا يانعة من الطاعات الجسدية الكثيرة , ومن قبل العبادات القلبية الأكثر أهمية .
إنه بالفعل معنى من معاني إدارك رمضان جديد , شرطه الوحيد أن يستشعر المسلم أن رمضان الذي سيهل هلاله بعد أيام ربما يكون رمضان الأخير له في هذه الدنيا , بل يخشى على نفسه أن لا يدركه أصلا , فيتمنى ويدعو الله بإخلاص وصدق أن يبلغه رمضان , لينهل من فيض عطاءاته وفيوضاته ما يستطيع .