{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 183-185]
لقد كتب الله صيام شهر رمضان على جميع الأمم على لسان أنبيائهم المرسلين، منذ نوح - عليه السلام -، على طريقة قد تختلف في بعض تفصيلاتها. فعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم)(1).
وقال الحسن البصري: "لقد كتب الله الصيام على كل أمة قد خلت كما كتب علينا شهراً كاملاً وأياماً معدودات عدداً معلوماً"(2).
ولا يمنع هذا أن يكون هنالك صيام آخر نافلة مثل صيام ثلاثة أيام من كل شهر، أو صيام أيام معينة، أو صيام كصيام داود - عليه السلام -.
إلا أنه وقد نصت الآية الكريمة: "... كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون. أياما معدودات...."، وكذلك نص الحديث الشريف على ذلك، وجاء شرح الحسن البصري، فيكون قد تحدد معنى الصيام المفروض وهو شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة.
وكان المسلمون يصومون ثلاثة أيام من كل شهر أول الإسلام، وقبل نزول هذه الآيات الكريمة. وبعد نزول هذه الآيات الكريمة مرَّ الصيام بمرحلتين كما هو واضح من الآيات. ففي المرحلة الأولى كان يباح للمسلم الذي يطيق الصيام أن يصوم أو أن يفطر ويطعم كل يوم مسكيناً: ".. وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين..." ومعنى يطيقونه أي يقدرون على الصيام، والصيام كله يحتاج إلى طاقة وقوة، والذي يصوم قد يجد بعض الشدة التي لا يجدها أيام الإفطار. ولذلك جاء التعبير هنا،: ".. وعلى الذين يطيقونه" وهذا ماضٍ على المقيم والمسافر والمريض. فمن أراد الصيام وكان مريضاً أو مسافراً، فيمكنه قضاء ذلك بعد زوال العذر، ومن أراد أن يتطوع بإطعام أكثر من مسكين عن كل يوم، أو يزيد في كمية الطعام لكل مسكين، فذلك خير له ينال ثوابه عند الله: "ومن تطوع خيراً فهو خير له". ثم خُتِمت هذه الآية المتعلقة بهذه المرحلة من جواز الصيام أو الإفطار بقوله - سبحانه تعالى -: "... وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون". أي أن الصيام أفضل من الإفطار في حالة التخيير هذه. فالتفضيل هنا مرتبط بحالة التخيير التي عرضناها.
أما في المرحلة الثانية فقد رفع التخيير ولم يعد هنالك إلا حالة واحدة هي صيام شهر رمضان كله فرضا على كل مسلم:
"... فمن شهد منكم الشهر فليصمه....".
هذه هي القاعدة الجديدة في المرحلة الثانية من فريضة الصيام، ثم تأتي الآية الكريمة لتضع حكم المسافر والمريض، فجاء الحكم يطابق نصه النص السابق في المرحلة الأولى من ناحية، ويختلف عنه من ناحية أخرى، أما المطابقة فهي في قوله - سبحانه وتعالى-: ".... فمن كان مريضاً أو على سفرٍ فعدة من أيام أخر..."
وحُذِفتْ كلمة منكم التي كانت في نص المرحلة الأولى: "... فمن كان منكم مريضاً...." وذلك لأن كلمة منكم وردت في الجملة السابقة: "... فمن شهد منكم الشهر...."، فلم تعد هنالك حاجة لتكرارها في الجملة اللاحقة، لأنها أصبحت مفهومة ضمناً، وكأنما النص: "فمن كان منكم مريضاً.."
ثم جاءت القاعدة الثانية في هذه المرحلة الثانية وهي قوله - سبحانه وتعالى-: ".... يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر..."
وهذه القاعدة هنا اختلفت عن القاعدة التي كانت في المرحلة الأولى، مرحلة التخيير بين الصيام والإفطار، حيث جاء قوله - سبحانه وتعالى-: "... وأن تصوموا خير لكم..."، أي خير لكم من الإفطار المباح.
فحين كان المسلم مخيراً بين الصيام والإفطار نصت الآية على "... وأن تصوموا خير لكم.."، وكلاهما جائز.
وحين فُرض الصيام ولم يعد هنالك خيار، جاءت الآية لتنص: ".... يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر...." بالنسبة للمسافر والمريض، على أن يقضي المسافر والمريض صيام الأيام التي أفطرها بعد زوال سبب السفر أو المرض، فلم يعد هنا إلا حالتان بالنسبة للمريض والمسافر: الصيام أو القضاء.
فالخلاف الذي دار بين الفقهاء حول أيهما أفضل الصيام أم الإفطار بالنسبة للمسافر، لا نرى له مسوغا. فقد رأى أبو حنيفة والشافعي - رحمهما الله -، أن الصوم أفضل للمسافـر إن لم يكن عليه مشقة، فإن كان هنالك مشقة فالفطر أفضل. وقال أحمد وإسحاق وآخرون: الفطر أفضل مطلقاً. وقال آخرون الصوم والفطر سواء. وقد أخذ كل فريق بجزء من النصوص لا بِجَميعِها والخروج منها بحكم واحد.
فلقد رأينا أن تفضيل الصيام كان في مرحلة التخيير. ولما وقع التخيير جعل الله الأمر للمسلم ليرى هو نفسه الأيسر له، فهو أعلم بواقعه وظروفه وحالة السفر والمرض. وجاءت الأحاديث الشريفة لتوضح هذه القاعدة:
فعن عائشة - رضي الله عنها - أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال: (يا رسول الله إني كثير الصيام أفأصوم في السفر؟) فقال: (إن شئت فصم وإن شئت فأفطر)(3).
وفي رواية مسلم قال: إني رجل أسرد الصوم أفأصوم في السفر. وفي رواية أنه قال: يا رسول الله إني أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح؟ فقال: (هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه).
وفي جميع الروايات أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفضل الصيام على الفطر، وإنما ترك الأمر للمسلم ليفكر ويدرس واقعه ويقرر هو ويختار بين أمرين مباحين. فلا بـد أن يكون للمسلم دائرة يتحمل فيها المسؤولية فلا يكون إمعة. وعن أنس - رضي الله عنه - قال: سافرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم)(4).
هذا معْلَم من معالم مدرسة النبوة الخاتمة. تُعلِّم الجميع القواعد كلها، ثم يُعْطَى كل مسلم الفرصة ليُفكِّر ويدرس واقعه، ذلك في حدود مسؤوليته وأمانته، وأن يرد الأمر إلى ما تعلمه من منهاج الله، ثم يختار ويقرر. فنشأ جيل مؤمن يعرف مسؤوليته وحدودها، فينهض لها، حتى لا يكون الناس كلهم عالة يُعطلون عقولهم وإيمانهم وعلمهم.
ولكن قد يصدر الأمر للصائمين في السفر من القائد الذي يرعى مصلحة عامة أوسع وأهم، فلا بد من الاستجابة الواعية لذلك:
فعن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كُراع الغميم فصام الناس. ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب. فقيل له بعد ذلك: إنَّ بعض الناس قد صام. فقال: (أولئك العصاة، أولئك العصاة) وفي لفظ: (فقيل له إنَّ بعض الناس قد شق عليهم الصيام وإنما ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب)(5).
فهنا أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن وجوده بين المسلمين دفعهم إلى الاقتداء به على مشقة يجدونها وهم مقبلون على حرب. فأفطر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورفع القدح حتى رآه الناس.
فالقاعدة الأساسيـة في حالـة السفر والمرض هي قوله - سبحانه وتعالى-: (..... يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر). فقد يخطئ بعضهم في تقدير اليسر ويأخذ بالعسر فيؤذي نفسه. فيأتي التوجيه النبوي ليؤكد فقه القاعدة المذكورة.
فعن جابر - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلّل عليه، فقال: (ما هذا؟ قالوا: صائم. فقال: ليس من البر الصوم في السفر)(6)
فإذا كان هنالك مشقة وضرر من الصيام في السفر، فيكون الصيام لا يخضع لقوله - سبحانه وتعالى-: (.... يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر.....). فإذا وقعت هذه المخالفة كان يأتي التوجيه النبوي ليؤكد قاعدة اليسر.
وفي موقف آخر يرويه لنا أبو الدرداء، قال: (خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان في حر شديد، حتى كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبد الله بن رواحة)(7).
وفي هذا الموقف تُرِك الأمر للمسلم فاختاروا جميعا الإفطار إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبد الله بن رواحة، ولم يعط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي توجيه جديد، زيادة على ما تعلموه جميعهم من الكتاب والسنة.
وخلاصة ذلك أنه لا مسوغ للخلاف حول حكم الصيام للمسافر والمريض حين تؤخذ الآيات والأحاديث كلها، فيصبح الحكم جليا واضحا. وهل يعقل أن لا يبين الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - الحكم الجلي للمسلمين في هذا الأمر وأمثاله مما يقع في دائرة مسؤولية كل مسلم مفروض عليه طلب العلم من الكتاب والسنة، كما فرض عليه الصيام؟
إننا لنعجب كيف أن المسلمين اليوم تخلى الكثير منهم عن مسؤولية طلب العلم الذي فرضه الله ورسوله على كل مسلم:
فعن أنس - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى عليه وسلم قال: (طلب العلم فريضة على كل مسلم، وإن طالب العلم يستغفر له كل شئ، حتى الحيتان في البحر)(8).
وخلاصة ذلك: أن الصيام فرض لا يسقط إلا بعذر شرعي جاء به نص واضح صريح. وفي حالة المسافر والمريض عليهما القضاء إذا زال سبب الإفطار، ويترك للمسلم أن يختـار ما هو الأيسر له حسب القاعدة التي سبق ذكرها، فهو أعلم بواقعه وظروفه. إلا أنه إذا كان الصيام يسبب أذى وضررا، فقد جاء التوجيه النبوي إلى أن الأيسر الذي يخضع للآيـة (... يريد الله بكم اليسر...) هو الإفطار والقضاء.
أما بالنسبة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة والمريض مرضا لا يرجى برؤه، فلهم الفطر ولا قضاء عليهم ويطعمون مسكينا عن كل يوم نصف صاع من بر أو ما يعادله أو زيادة عن ذلك. ودليل ذلك قـول عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: (رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا ولا قضاء عليه)(9).
وبدهي أن لا يكون عليهم قضاء، ذلك لأنه تعذر عليهم أداء الفرض ورخص لهم بالفطر، فكيف يقضون وسبب الرخصة ما زال قائما، وما زالت القاعدة: (..... يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر....). تعمل في هذه الحالة أيضا، فتكون الفدية، أي إطعام مسكين عن كل يوم، هي اليسر الذي يريده الله - سبحانه وتعالى-، وقد شرعها الله - سبحانه وتعالى- في الآية السابقة: (.... وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين.....)، وكذلك أطعم أنس بعـدما كبر عاماً أو عامين، عن كل يوم مسكينا خبزا ولحما وأفطر(10)، فجاء النص السابق، وتطبيق الصحابي يؤكدان حكم الكبير والمريض الذي لا يرجى برؤه.
أما بالنسبة للحبلى والمرضع: فعـن أبي قلابة - رضي الله عنه - عن رجل (أنس بن مالك من بني عبد الله بن كعب، وليس خادم النبي - صلى الله عليه وسلم -)، قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - لحاجة فإذا هو يتغدى، قال: (هلم إلى الغداء) فقلت: (إني صائم) قال: هلم أخبرك عن الصوم، إن الله وضع عن المسافر نصف الصلاة والصوم ورخص للحبلى والمرضع)(11).
فحكم الحبلى والمرضع إذا هو الإفطار والقضاء، إلا إذا تعذر القضاء لسبب طارئ فعليهما الفدية. ذلك لأن الحديث الشريف أفاد بأنه رخص للحبلى والمرضع ولم يسقط الفرض عنهما، والصيام فرض لا يسقط إلا بنص صريح، والرخصة تزول بزوال سببها.
ولو جمعنا الأقوال حول حكم الحامل والمرضع لرأينا الاختلاف الواسع المتضارب: فمن قائل: يفطران ويفديان ويقضيان، ومن قائل: يقضيان فقط، ومن قائل: يفديان فقط، ومن قائل يفطران ولا قضاء ولا فدية. فهل يعقل أن نقدم للناس هذه الآراء المختلفة، وهل يعقل أن الإسلام وفقهه يجيز هذه الآراء كلها، وماذا يفعل المسلم بعد ذلك؟ قال مالك: (إذا خافتا مطلقاً فلهما الفطر وعلى الحامل القضاء دون الفدية بخلاف المرضع فعليها القضاء والفدية). وقال الحنفية: (عليهما القضاء دون الفدية كالمريض الذي يرجى برؤه). وقال الشافعية والحنابلة: (إذا خافتا على الولد فقط فعليهما القضاء والفدية لأنه فطر ارتفق به شخصان، وإلا عليهما القضاء فقط). والحديث الذي أوردناه عن الحامل والمرضع: "ورخّص للحامل والمرضع"، ولم يأت ذكر إن خافتا على الولد أو على نفسيهما، كانت رخصة دون تقييد هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: أين التيسير الذي يريده الله؟!
وأما الحائض والنفساء فعلى القواعد السابق ذكرها: الصيام فرض لا يسقط إلا بنص صريح، والرخصة تزول بزوال سببها، وأن الله يريد بشرعه هذا اليسر ولا يريد العسر، فعلى هذه الأسس يكون حكم الحائض والنفساء الإفطار والقضاء. وجاء ما روته معاذة - رضي الله عنها - قالت سألت عائشة - رضي الله عنها - فقلت: (ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة) فقالت: (أحرورية أنت؟) قلت: (لست بحرورية ولكني أسأل) قالت: (كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة)(12).
فلا تقضي الصلاة لأن هناك نصاً، وأما الصوم فما جاء فيه إلا الرخصة.
ونوجز ما عرضناه كما يلي:
1. الصوم فرض فرضه الله - سبحانه وتعالى-، لا يسقط إلا بنص.
2. لا تفضيل بين الصوم والإفطار على المسافر، بل يترك الأمر له ليقرر هو ويختار أيسر الأمر عليه حسب نص الآية الكريمة، وهو أدرى بواقعه، وعليه أن يتحمل مسؤوليته الشرعية وينهض إليها. إلا إذ ا كان هنالك خطر بالصيام أو ضرر، فالإفطار أفضل لتحقيق اليسر ورفع الضرر، وعليه القضاء.
3. قضاء الصيام فرض كما هو الصيام فرض، ولكن هناك رخصة للحبلى والمرضع والحائض والنفساء بالإفطار والقضاء، فلا يسقط القضاء إلا بنص صريح أو عذر قاهر شرعي يتعذر معه القضاء.
4. تقوم الفدية مقام القضاء كلما تعذر القضاء أو سقط بنص صريح كما في حالة الرجل الكبير والمرأة الكبيرة والمريض الذي لا يرجى برؤه. فهنا جاء النص بالفدية لتعذر القضاء، كذلك بسبب شرعي واضح، ولأن الله يريد بعباده اليسر.
5. لا يجتمع القضاء والفدية، فإذا كان هنالك قضاء فلا مجال للفدية لأنها مخالفة لليسر الذي يريده الله، وإذا كان هنالك نص من كتاب أو سنة يجمع بين القضاء والفدية، ولمن يرد تطبيق زمن النبوة الخاتمة جمع بينهما.
6. التيسير الذي يريده الله، والذي أشارت إليه الآية الكريمة هو التيسير في حدود الكتاب والسنة، وليس في التفلت منهما، فذلك ليس بتيسير في ميزان الله. والنص في الآية الكريمة: (... يريد الله بكم اليسر....)، أي يريد الله بكم اليسر بشرعه لا بمخالفته أو التفلت منه.
ونود أن نؤكد هنا قضية نؤمن بأنها هامة. إن من بين أهداف الفقه في الإسلام المساهمة في بناء الإنسان المؤمن الملتزم الماضي على صراط مستقيم.
يريد الله من جميع عباده المؤمنين أن ينهضوا إلى مسؤولياتهم والتكاليف الشرعية التي وضعها الله أمانة في عنق كل مسلم، أمانة نسميها (المسؤولية الفردية) التي تبنى عليها مسؤولية الأمة كلها في دين الله.
إن الله - سبحانه وتعالى- فرض طلب العلم على كل مسلم، لا على فئة محدودة، وألح الكتاب والسنة بذلك، على أن يكون طلب العلم بحافز إيماني، فيزيد العلم الإيمان، ويزيد الإيمان الإقبال على العلم برحمة الله.
فإذا أقبل الجميع على العلم، ونهلوا جميعا من الكتاب والسنة اللذين هما أساس كل علم، وأعطي الجميع الفرصة نفسها، فعندئذ تتميز المواهب والقدرات، ويبرز أولوا الألباب الذين أعطاهم الله وسعـاً صادقاً أكبر، ويبرز في الأمة العلماء. فالعلماء هم أصحاب الإيمان الأصفى والعمل الأتقى والمواهب المتميزة التي حملت لذلك القدر الأكبر من العلم، وحملت المسؤولية الأكبر، بين مؤمنين كلهم متعلمون، كلهم ناهضون لمسؤولياتهم، لا بين جهلاء قعدوا عن طلب العلم وأصبحوا عالة على العلماء والأمة. وقد يعذر المسلم فترة لجهله، ولكن لا يعذر إذا استمر الجهل وامتد الحياة كلها، أو رغب المسلم عن تعلُّم دينه، وأقبل على علوم الدنيا وحدها. لا يعذر المسلم في هذه الحالة.
ومن واجب العلماء إبراز الحكم الشرعي لهؤلاء لينهضوا إلى طلب العلم من الكتاب والسنة، وإصدار الفتوى بحرمة بقاء المسلم جاهلا عالة على الأمة والعلماء. وبالإضافة إلى النصوص التي وردت بفرض طلب العلم فقد جاء كذلك الترغيب الملحُّ بذلك. ونأخذ قبسات قليلة للتذكير. فانظر إلى هذا الدعاء، دعاء الهم والحزن، الذي يرغب كل مسلم أن يدعو به: (اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض فيَّ حكمك عدل فيَّ قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك أو علمته أحد من خلقك، أو استأثرت به في العلم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي)(13).
فهذا الدعاء والإلحاح به على هذه الصورة ينصبُّ ليكون القرآن ربيع القلب ونور الصدر، وكيف يكون ذلك إلا إذا وعى القلب القرآن وتدبره وآمن به وعمل به. وهذا نداء لكل مسلم.
وهذا الدعاء كذلك يرغب به كل مسلم ليدعو به بعد السـلام من صلاة الفجر: (اللهم إني أسألك علما نافعا ورزقا طيبا وعملا متقبلا)(14)، فإلى مدرسة النبوة أيها المسلم، واملأ صدرك من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
________________________________
(*) المادة منشورة في مجلة الجندي المسلم
(1) رواه ابن أبي حاتم مرفوعاً: تفسير ابن كثير لآيات الصيام.
(2) تفسير ابن كثير.
(3) رواه الشيخان.
(4) رواه الشيخان والترمذي وأبو داود.
(5) رواه مسلم.
(6) رواه الشيخان والترمذي وأبو داود والنسائي.
(7) رواه الشيخان.
(8) رواه ابن عبد البر في العلم.
(9) رواه الدارقطني والحاكم وصححاه.
(10) مختصر تفسير ابن كثير لآيات الصيام (ط2) دار القرآن الكريم 1/160.
(11) رواه أصحاب السنن.
(12) التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: 2/77.
(13) أحمد: 1/391 وصححه الألباني.
(14) صحيح ابن ماجة: 1/152.