الله يعلم حكمته من أمره سبحانه وتعالى لعباده أن يصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم ويسلموا تسليماً، وقد نلتمس طرفاً مما يتركه هذا الأمر من أثر، مما ذكره السادة العلماء، ومما ينقدح في أذهان المتأملين.
فالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هي عنوان محبته والعرفان له بفضله – بعد الله عز وجل – على أمته، فالفضل عائد بالأساس لله سبحانه وتعالى في بعثة النبي صلى الله عليه وسلم للناس؛ فكان من شكر الله عز وجل على تلك النعمة، الصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم، عرفاناً لله بالفضل في الرسالة والرسول؛ فكان الدعاء للرسول صلى الله عليه وسلم (بالصلاة عليه) شكراً له وشكراً لله من قبله أن أرسل إلينا هذا الرسول بتلك الرسالة العظيمة، يقول ابن القيم رحمه الله "الصلاة عليه أداء لأقل القليل من حقه وشكر له على نعمته التي أنعم الله بها علينا مع أن الذي يستحقه من ذلك لا يحصى علما ولا قدرة ولا إرادة ولكن الله سبحانه لكرمه رضي من عباده باليسير من شكره وأداء حقه"[1]
وهو كذلك إظهار لمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن من يحب أحداً ينشغل بذكره والحديث عنه ومدحه والدعاء له، يقول ابن القيم أيضاً عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أنها "سبب لدوام محبته للرسول صلى الله عليه وسلم وزيادتها وتضاعفها، وذلك عقد من عقود الايمان الذي لا يتم إلا به، لأن العبد كلما أكثر من ذكر المحبوب ، واستحضاره في قلبه، واستحضار محاسنه ومعانيه الجالبة لحبه - تضاعف حبه له وتزايد شوقه إليه، واستولى على جميع قلبه. واذا أعرض عن ذكره (...)، نقص حبه من قلبه. ولا شيء أقر لعين المحب من رؤية محبوبه، ولا أقر لقلبه من ذكره (...). إذا قوي هذا في قلبه، جرى لسانه بمدحه والثناء عليه، وذكر محاسنه، وتكون زيادة ذلك ونقصانه بحسب زيادة الحب ونقصانه في قلبه، والحس شاهد بذلك"[2]
فالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، هي تحقيق للعبودية المطلقة لله عز وجل بإظهار محبة من أرسله للعالمين والدعاء له وتعظيمه تعظيماً للمرسل جل في علاه وتقديراً للرسالة المرسلة منه سبحانه وتعالى.
وهي كذلك نوع من العرفان لصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم بالدعاء له والإكثار من ذكره تجديداً دائماً لمحبته في نفوس أتباعه لكي يظل الحب له متقداً حاضراً، والقدوة كذلك ماثلة مع هذا التذكر الدائم بواجب الصلاة عليه، والتي تتضمن في معانيها طلب زيادة التشريف والرفعة له صلى الله عليه وسلم من رب العالمين. فكلما ذكر المحبوب ازدادت محبته في قلوب المحبين، وكلما لهج اللسان بالدعاء تعاظمت القدوة في نفوس الذاكرين.
ثم هو عنوان للمروءة والعرفان بالجميل لهذا الحبيب الذي جاءنا مثلما وصفه الله عز وجل { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم}[3]، فكانت تلك الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم نوع من المكافأة وشيء من رد الجميل له صلى الله عليه وسلم بحسب قدرات أتباعه على الرد، وهي الدعاء له والطلب من رب العزة مزيداً من الرفعة والعظمة والتشريف لنبيه صلى الله عليه وسلم، يقول العز بن عبد السلام: "ليست صلاتنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - شفاعة منا له، فإن مثلنا لا يشفع لمثله، ولكن الله أمرنا بالمكافأة لمن أحسن إلينا وأنعم علينا، فإن عجزنا عنها كافأناه بالدعاء، فأرشدنا الله لما علم عجزنا عن مكافأة نبينا إلى الصلاة عليه، لتكون صلاتنا عليه مكافأة بإحسانه إلينا، وأفضاله علينا، إذ لا إحسان أفضل من إحسانه - صلى الله عليه وسلم"[4]
وهو نوع من التوسل إلى الله عز وجل بالصلاة على نبيه - كما يقول ابن القيم – "بالصلاة على من نالت أمته هذه النعمة على يده وسعادته؛ فكأن المصلي توسل إلى الله سبحانه بعبوديته، ثم بالثناء عليه والشهادة له بالوحدانية، ولرسوله بالرسالة، ثم الصلاة على رسوله"[5]
ثم يأتي التسليم على النبي صلى الله عليه وسلم كتحية دائمة سابقة لكل مخلوق مثلما قدمها الله عز وجل في الصلاة الإبراهيمية، تعظيماً لشأن النبي صلى الله عليه وسلم في نفوس أفراد أمته.
فالصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والتسليم عليه هي إظهار لمحبة الله سبحانه وتعالى بذكر محبوبه وطلب مزيد التشريف له، وهو تذكير دائم بمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم واستحضار قدوته ماثلة كلما لهج اللسان بذكره تعظيماً ودعاءً، وهو نوع من المكافأة على ما قدمه الرسول الكريم لأمته، وهذا العرفان وهذا الاستحضار هو الذي يبقى الوجود الدائم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بسيرته ورسالته في نفوس المؤمنين بحيث لا تغيب عنهم لحظة حتى وإن غاب النبي صلى الله عليه وسلم بجسده عن عالمنا؛ فإن استحضار تلك الصورة الوضيئة عبر الدعاء له صلى الله عليه وسلم والسلام عليه رافع لمستوى الإيمان في نفوس المؤمنين، وفي ذلك كذلك ربط مستمر بين التابع والمتبوع، وهو تهذيب للنفس لا ينقطع على شكر أصحاب الإحسان والاعتراف لهم بأفضالهم، وفي صدارتهم هذا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم الذي لولاه لما عرف المؤمنون طريق الحق والتزموه.