منذ أن خرج الفلسطينيون في الثلاثين من مارس 1976 يحتجون على مصادرة أراضيهم، واستشهد في احتجاجهم أربعة منهم، وأبناؤهم لا ينفكون عن معاودة التظاهر وإظهار الغضب في ذكرى ذلك اليوم الذي أطلقوا عليه "يوم الأرض". وفي كل يوم يرتقي شهداء يبرهنون بشهادتهم على تمسك الفلسطينيين بأرضهم وبقاء جذوة مقاومة الاحتلال والتهجير والتهميش لديهم متقدة.
لم يبالِ الفلسطينيون يوماً بأعداد شهدائهم على فداحة خسارتهم، وجسيم فقدانهم، وما توقفوا طويلاً عن كون شهداء "الذكرى" يفوقون كثيراً يوم الأرض نفسه؛ فالعبرة لديهم ليست بالأرواح المبذولة – على علو قيمتها – وإنما بجدوى ما يفعلونه ودوره في تحريك القضية والسعي نحو إيجاد حلول لقضية الاحتلال الصهيوني لديارهم ومحاولة التخفيف من قبضته ونيل بعض حقوقهم المشروعة.
ولهذا صار دوماً السؤال الأهم في كل حالة نضالية، هو جدوى ما يقدم من أثمان تكون أحياناً باهظة في مقابل تحقيق الأهداف الكلية أو المرحلية، ومدى الحاجة إلى التحرك أو التوقف بناء على تقدير موقف متزن حكيم.
والناس في الواقع دوماً مترددون في خط تقديري طويل ما بين مبالغة في التحرك حد التهور والاندفاع، والسكون حد الخضوع والاستسلام، وإن كانوا في العادة قريبين من الحد الثاني، مائلين إلى دعته واستكانته. وقلما ما يصار إلى موقف وسطي عاقل يأخذ الحاجة إلى تغيير الواقع المر في فلسطين وما شابهها في اعتباره، ولا يندفع متجاهلاً عواقب الأمور.
بدأت مسيرة العودة الكبرى في يومها الأول، والتي تهدف إلى إحياء قضية عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم المغتصبة، مخلفة 17 شهيداً ونحو مائة ضعف لهم من الجرحى، وهو ثمن كبير من أرواح غالية عزيزة جادت بنفسها من أجل إحياء تلك القضية المهمة.
سؤال الجدوى لابد أن يطرح في هذه الحالة النضالية الفلسطينية - وفي غيرها - بكل موضوعية وتجرد، بعيداً عن العاطفة الدافعة أو المثبطة، ومن ثم طرح إيجابيات ذلك وسلبياته.
من أظهر هذه الإيجابيات: إحياء قضية عودة اللاجئين، ووضعها في صدارة الأخبار، وإعادة التعريف بالقضية وعدالتها؛ فلا شك أن طول الصمت يميت القضية وإثارتها يحييها ويضعها كورقة مجدداً على طاولة البحث والتفاوض.
والإحياء في هذا التوقيت آكد نظراً لما يكتنف القضية الفلسطينية من مخاطر، لعل أبرزها هو الصفقة الدولية التي يتردد صداها بتوقعات مختلفة معظمها قاتل للقضية الفلسطينية، طافئ لجذوتها، مضر بمصالح وسيادات دول عديدة في المنطقة.
ومسيرة كبيرة كهذه، من شأنها إرسال رسالة واضحة قبل شهر أو يزيد من نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس المحتلتين بأن الفلسطينيين جادون في معارضة مثل هذه القرارات والإجراءات التي تسعى إلى تكريس الاحتلال الصهيوني وفرض سياسات الأمر الواقع.
كما أنها تحرج الكيان الصهيوني لا من حيث ظهور إجرامه ودمويته وافتراسه لمسيرة احتجاج سلمية، فحسب، بل تحول بينه وبين محاولته محاكاة الدول الأوروبية استقراراً وأمناً، وتبقيه دوماً في حالة التوتر والاضطراب الأمني، خارجياً، وأيضاً داخلياً بالإبقاء على حالة الشعور بعدم الاستقرار لاسيما لدى مغتصبي "المستوطنات" القريبة من قطاع غزة، والتي غادرها كثيرون رعباً من احتمال ضعيف جداً لعبور المتظاهرين الأسلاك الشائكة إليهم، وتجاوز نحو مائة قناص صهيوني يصوبون أسلحتهم باتجاه السلميين العزل!
ومن شأن مسيرة انخرط فيها عشرات الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني اللاجئ إلى غزة من مناطق فلسطين المحتلة 48 أن تحيي القضية لدى أبناء فلسطين أنفسهم، وبخاصة لدى إخوانهم في الضفة الغربية الواقعة تحت سلطة لها علاقة وثيقة بنظام الاحتلال "الإسرائيلي"، لاسيما الأجيال الجديدة منهم، ومن شأنها أن تقيد يد السلطة الفلسطينية أن توقع سراً أو علناً على اتفاق يقضي بالتغاضي عن حق العودة في مفاوضاتها القادمة.
غير أنه في المقابل تظهر سلبيات لها أوجه من التقدير، منها أن المسيرة تأتي في مرحلة مظلمة قد استبيح فيها الدم المسلم والعربي في المنطقة لحد غير مسبوق؛ فسارت فيها الدماء في سوريا، وعانى فيها العراقيون واليمنيون الأمرين من المحتلين، بما يجرئ الصهاينة على ارتكاب المجازر دون تحسب لأي معارضة عربية أو غربية ولو بصوت خافت، خصوصاً أن العالم قد اعتاد على سفك الدم المعصوم في البلاد العربية دون أن يثير ذلك حفيظة أو اهتماماً.
إلى ذلك؛ فإن دفع أثمان باهظة من الأرواح في غير مظنة التغيير أو التأثير الكبير يرخص الدم المسلم والعربي، ويضعف همة المنتفضين فيما سيأتي من أحداث ربما تحتاج لفورة حماستهم في محلها، من حيث شيوع الإحباط واليأس من ذهاب الدماء بلا ثمن ملموس، تماماً مثلما استبد اليأس وفقدان الأمل بكثير من السوريين وغيرهم في أعقاب تساقط مدنهم واحدة تلو الأخرى في يد النظام السوري رغم الأثمان الفادحة جداً التي بذلت من أجل تحريرها وعتقها من ربقة التسلط والقهر.
فإذ يرى منظمو المسيرة أن الوقت ملائم جداً لإطلاقها وأنها ربما هي إحدى أهم المحاولات الأخيرة قبل عقد الصفقات وتجاوز حقوق اللاجئين؛ فإن الظرف قد لا يكون مناسباً لذلك في نظر المعارضين، وقد يتسبب بسفك دماء أبرياء كثيرين خلال المسيرة وما يستتبعها.
سؤال الجدوى يستتبعه سؤال لا يقل عنه أهمية، وهو عن جدوى ترك حق العودة، وحقوق أخرى كثيرة تغرق في بحور النسيان من دون أي فعالية؛ فيما يخطو الغرب والشرق باتجاه تركيع الأمة تماماً.. إنه سؤال صعب حقيقة لم تجد "النخبة" إجابة له حتى الآن!