أواه يا عمير كم قد هيجت من أشواق، هبت معها نسمات ثلة مؤمنة لم يجُد التاريخ أبداً بمثلها مجتمعة، حيت بهم الأرض الميتة، وازدانت بهم ربوعها، من روعة قصصهم التي يخيل للناس أنها أساطير لولا أنها حقائق.
أواه يا عمير، فلم تكد تكتب عبارتك القصيرة على موقع (تويتر): "أتساءل عن مشاعر أبي أيوب رضي الله عنه وهو يسعى في بيته .. يهيئ لهما مقيلا"، حتى أثرت أشجان المغردين تعليقاً وتأثراً وشوقاً إلى زمان تتحرق القلوب لهفة إليه، وتذوب عشقاً لعلاماته المنيرة، وسيره وتراجمه الوضاءة الطاهرة.
وحتى تقاطرت أقلام المشتاقين إلى عصر الطهر والنقاء والصفاء، العصر الأمجد في تاريخ أمتنا، تتبارى في تنسم ذلك الأريج الفواح من هذا الزمان المبارك، وتستذكر تلك اللحظات الباهرة التي كان فيها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضوان الله تعالى عليهم، يشعرون بذواتهم موصولين بالسماء، تنزل الآي في شؤون حياتهم، وتأتيهم البشريات تحدثهم عن أنفسهم وشخوصهم، يسيرون في معية قرآن يمشي على الأرض بينهم، تشنف آذانهم عبارات من لا ينطق على الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، تبشرهم بنعيم الجنة وعظيم الأجر وجمال الصحبة والقرب من خير العباد.
فواحد يستذكر ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر رضي الله عنه، فيما رواه البخاري: «إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدق وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركوا لي صاحبي مرتين؟»، يستذكر تأثير ذلك على قلب الصديق وعقله وروحه.
وثانٍ تروقه قصة طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد درعان فنهض إلى الصخرة فلم يستطع فأقعد تحته طلحة، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى استوى على الصخرة قال: فسُمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أوجب طلحة»، رواه الترمذي وصححه وابن العربي وابن حجر وغيرهم، ويتخيل وقع هذه الكلمة الرقيقة المختصرة الجامعة على طلحة «أوجب طلحة».
وثالث يبهره ما أسال الدمع من عيني أبي بن كعب رضي الله عنه هتاماً حتى لكأن قلبه كاد أن ينخلع حين قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن» فقال أبي: آلله سماني لك ؟ قال : «نعم» قال : وقد ذكرت عند رب العالمين؟ قال: «نعم» فذرفت عيناه. متفق عليه.. فأنى لقلب أو عين تحتملان سماع ذلك، ولا يفيضان حباً لله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم ما يحملهما على الخفقان والبكاء عرفاناً بالفضل واستعظاماً لرحمة الله وعظيم نعمائه وآلائه؟!
وثالثة تعيش مع أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها إذ يفاجئها النبي صلى الله عليه وسلم بأعظم مفاجأة يمكن أن تتلقاها زوجة من زوجها بل أعظم جائزة يمكن أن يتلقاها إنسان على وجه الأرض، سلام خاص من رب العالمين ينقله رسول أمين ذو قوة عند ذي العرش مكين، أفضل الملائكة وأعظمها جبريل عليه السلام، ويبلغها به خير من وطأ الأرض صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقرئك السلام وجبريل يقرئك السلام»، وحين تأتيها البشارة: «بشر خديجة رضي الله عنها ببيت في الجنة من قصبٍ لا صخب فيه ولا نصب»، فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورابعة تستحضر تلك اللحظة الرهيبة التي مرت بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين نزل القرآن يبرئها من فوق سبع سماوات، وهي تدري أن عبارات التبرئة تلك سيكتب لها الخلود، خلود هذا الكتاب الكريم المحفوظ.
وخامس يستذكر سعادة أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنه حين علمت أن الله عز وجل هو الذي زوجها بنبي الله صلى الله عليه وسلم، فكان إعلان ذلك قرآناً يتلوه المؤمنون آناء الليل وأطراف النهار بما لم يتحقق لعروس أبداً على مر التاريخ كله.
وسادس يجول بخواطره متصوراً مشاعر أبي موسى الأشعري رضي الله عنه حين قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم – فيما رواه الشيخان – إذ كان يتلو القرآن ويتغنى به: «لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود».
وسابع يتصور أحاسيس هؤلاء الأبطال الشامخين المعذبين، إذ تأتي كلمات رسول عزيز عليهم بهم رؤوف رحيم برداً وسلاماً عليهم فتزيل آلامهم وتشفي جروحهم وقروحهم، وتنقلهم من بين أطياف العذاب إلى ألوان النعيم في الجنان: «صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة».
وثامن يتلمس تلك الدفقة الإيمانية والاندفاعة الجسورة التي أوتيها علي رضي الله عنه حيث سمع الرسول صلى الله عليه وسلم، يشحذ همته ويشجعه ويبشره يوم خيبر بنصر عظيم، وحب لا يعدله حب ولا يكافئه شعور: «لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله».
وتاسع يعبر مع سراقة بن مالك رضي الله عنه سنين الأحداث وصدارة الفتوحات إلى أن لبس سواري كسرى بعد سنوات عديدة من بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم له حين قطع عليه سراقة طريق الهجرة يريد قتله فنجاه الله سبحانه من سيف سراقة، وكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك البشارة العابرة الجغرافيا والتاريخ والتوقعات.
وعاشر يحلق مع موقف سامق يستدر دموع المحبين حين يسمعوه أو يقرؤوه، حكاية، فكيف بمن شاهدوه وألقي على مسامعهم مباشرة من خير خلق الله صلى الله عليه وسلم، حين قال لأصحابه الأنصار إذ وجدوا عليه لتوزيع الغنائم في غيرهم: «يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي؟»، فكلما قال شيئا، قالوا: الله ورسوله أمن. قال: «لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا، أما ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار، ولو سلك الناس واديا وشعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض».
وعشرات، بل مئات من الأحداث والمواقف الصحيحة التي تشبه الأساطير، غير أنها من قلب تاريخ ثابت بدلائل دامغات، وحقيقة لا تطاولها الشكوك. لم تزل تدر الدمع، وتشحذ الهمم، وترفع القام، يتناقلها المحبون حباً وفخراً بدين أفرز هذا النسيج المتفرد غير المسبوق ولا الملحوق.
إنها مشاعر جياشة فاضت بها أقلام تداعت، بالآلاف، حباً لجيل شامخ في ذروة التاريخ، جمعه حب الله سبحانه وتعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، فكانوا كما قال أبو سفيان رضي الله عنه: "ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً"، وأحاسيس أبرزها إقبال هائل على تغريدة تشهد على شوق عميق لدى قطاعات من هذه الأمة لهذه السير العطرة، وإن أبعدت عن عيونهم قسراً في وسائل الإعلام، وأذهبت بعيداً عن مناهج التعليم في كثير من البلدان، فروح هذه الأمة لم تزل تواقة لشيء من محاكاة نماذج هذا العصر الفريد. فسقياً لعهد لم يزل يمثل النموذج الذي لا يبارى على مر القرون.. تلك الأحاسيس تمنح اليائسين الأمل، وتحيي لدى المحبطين الطموح والفأل بأن النماذج إذا ما دامت هكذا حية، والسير إذا ما ظلت غضة؛ فإن القدوة لن تضيع في غياهب النسيان، وإحياء هذه الأمة لتسير على درب هؤلاء العظماء الماجدين لن تصير ضرباً من ضروب الخيال.