إذا كانت أوروبا قد ضغطت على تركيا إبان حكم أتاتورك لإعادة تحويل مسجد آيا صوفيا إلى كنيسة أو على الأقل تحويله إلى متحف مؤقتاً، لاعتباره كان الكاتدرائية العظمى لمسيحيي الشرق، في القسطنطينية القديمة، وقد "نجحت" في تحويلها لمزار سياحي حتى الآن، رغم شراء السلطان محمد الفاتح لها إثر فتحها؛ فإن الدول الإسلامية المعاصرة لم تضغط أصلاً لإعادة ثاني أكبر مسجد في العالم إلى المسلمين في القرطبة، وهو الذي يعد معجزة في البناء والجمال بكل المقاييس، والذي تحول لكاتدرائية عنوة مع الاجتياح المسيحي للأندلس قبل خمسة قرون، والذي استولى على قرطبة قبل أكثر من قرن من سقوط الأندلس 897 ه. كما لم تضغط من أجل منع الأسقفية المشرفة عليه من حذف "مسجد" من اسمه "كاتدرائية مسجد قرطبة" في العام 1437ه.
كان جامع قرطبة الذي بناه عبد الرحمن الداخل في القرن الثامن الميلادي يضم نحو 27 مدرسة يدرس فيها أكثر من أربعة آلاف عالم وطالب علم، والذي كان أحد أبرز معالم مدينة إسلامية عريقة ظلت عنوان العلم والمعرفة في العالم كله لقرون.
في كتاتيبها درس وتوسع في علومه في شتى أنواع المعرفة، ثم من فوق منارته طار عباس بن فرناس رائد علم الطيران في العالم، مخترع الزجاج المصنع من الحجر، و"النظارة"، ومخترع الميقاتة (الساعة)، وآلة رصد النجوم، وآلة حربية، وآلة تقطيع الكريستال.
وفي مسجدها وربوعها أفتى وعلم وصنف العالم الفذ الوزير النبيل ابن حزم القرطبي الأندلسي، فقيه الظاهرية الأظهر، صاحب المحلى، والفصل في الملل والأهواء والنحل الذي ألفه في قرطبة، وغيرها من كتب وتصانيف تجعله الثاني بعد الطبري في كثرة التصانيف الموسوعية.
وعلى أرضها أشرق "شمس الدين" القرطبي، صاحب الجامع لأحكام القرآن، أحد أعظم كتب التفاسير، والتذكرة في أحوال الموتى والآخرة، والأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، وغيرها، حيث نشأ بها الإمام القرطبي وأقام بها إلى سقوطها سنة 633هـ..
وفي قصورها تلألأت أشعار ابن زيدون وغيره من فطاحل الشعراء والأدباء.
مدينة اكتظت بعلماء لم يستطع ابن الفرضي في كتابه القيم، علماء الأندلس، أن يحصيهم، ما تنوء عن ذكره الكتب والمصنفات؛ فقد كانت بحق حاضرة العلم والعلماء، ومعقل مكتبات العلوم في شتى ألوان المعرفة التي أرفدها علماؤها ببواعث حضارتها في علوم الدين والدنيا، حتى غدت تجارتها الأكثر رواجاً، تجارة الكتب وتداولها، ومنتدياتها الأسمى هي منتديات العلم وحلقاته، يقول المقري في نفح الطيب: "إنه إذا مات عالمٌ بإشبيلية فأُريد بيعُ كتبه، حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها".
قرطبة، قبل ألف عام، كانت هي ثاني أكبر مدينة إسلامية في العالم بعد بغداد، حاضرة الغرب، والتي كانت سُرُجها تُرى من بعد يزيد عن عشرة أميال، حيث ضمت أكثر من عشرة آلاف دار، وثمانية عشر ضاحية، صاحبة أرقى جامعات الدنيا لقرون، جامعة قرطبة والجامعة الأموية، ومقصد الاستشفاء في العالم حيث حوت نحو خمسين مشفى قبل أن تعرف الدنيا هذا اللون من التطور في الطب وعلومه.
قال المقري: "كانت منتهى الغاية، ومركز الراية، وأم القرى، وقرارة أولي الفضل والتُّقى، ووطن أولي العلم والنهى، وقلب الإقليم، وينبوع متفجر العلوم، ومن أفقها طلعت نجوم الأرض، وأعلام العصر، وفرسان النَّظْم والنثر، وبها أنشئت التأليفات الرائعة، وصنِّفت التصنيفات الفائقة".
هل ترجعن لنا يا عهد قرطبة *** فكيف نبكي وقد جفت مآقينا
ماكان أعظمها للملك عاصمة *** وكان أكثرها للعلم تلقينا
افترس الغرب قرطبة، وصيرها من حاضرة العالم الغربي إلى ذيله، ومن رائدته إلى تابعته، ومن مقارعة الأفكار ومنازلة العلماء إلى مصارعة الثيران، وأحال جامعها الألمع إلى كاتدرائية مغتصبة، وقصر ابن حزم العالم العالمي إلى كنيسة "سان لورينزو" عنوان الجهل والجهالة، ومن مدينة عامرة بنصف مليون إلى نصفهم أو يكاد، بعد ألف عام من نهضتها.. لكن لن تذهب النفس عليها حسرات، فالأمل باقٍ، والإسلام بدأ يعود رويداً رويداً إلى قرطبة وغيرها من حواضر الأندلس، فهذا الدين سيبقى عصياً على الانطواء والذبول؛ فتلك إحصاءات بيو الأمريكية، والدراسات الإسبانية تؤكد تصاعد وتيرة عودة الإسلام إلى بلاده الأندلس، ففي سنوات محدودة (خمسة فقط) قفز العدد من نحو مليون ونصف إلى مليونين حتى أضحى المسلمون نحو 5% من السكان، والرقم إلى تزايد سريع جداً، {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.