شنقيط معقل العلماء
16 رمضان 1439
أمير سعيد

كانت فتوحات المسلمين في القرون الفاضلة حضارية بكل ما تعنيه الكلمة، إذ ما فتأت الجموع المسلمة تنقل إلى البلاد الجديدة فيضاً من نورها وثقافتها، وكانت – على النقيض من هجمات المغول مثلاً – تُحدث تلقائياً حركة عمران راشدة، فتنشئ المدن وتحصن أخرى، وتنعش الأسواق وتحفر الآبار.

 

وفي واحدة من هذه الانبعاثات، كانت شنقيط التي عاد الفضل إلى إنشائها – بعد الله سبحانه وتعالى – إلى حبيب بن أبي عبيدة، الذي حفر فيها بئراً دبت معه الحياة في قلب تلك الصحراء الغربية (موريتانيا الحالية) في العام 116 ه. ثم تحولت من بعد عشرات السنين إلى مدينة تقصدها القوافل التجارية من كل مكان. يقول د. حماه الله ولد السالم في دراسته "حجاج ومهاجرون.. علماء بلاد شنقيط في البلاد العربية وتركيا": "مع استخدام الجمال العربية ذات السنام الواحد حدثت ثورة في وسائل النقل عبر الصحراء (...) ونشطت حركة القوافل في القرن الثاني الهجري مستفيدة من الآبار التي حفرها العرب الفاتحون مثل عبدالرحمن بن حبيب وحبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع (...) وقد كانت القوافل تنتقل بين مراكز الإشعاع العلمي والثقافي البارزة وكان يسير في هذه القوافل رجال علم ودين (...) وقد وطدت تجارة الصحراء للنهضة الثقافية في بلاد شنقيط (...) لقد اقترنت الرحلات بالعلم وأصبحت مصدر شهرة أبرز حواضر الخلافة".

 

وصارت المدينة من بعد ممراً مهماً للتجارة القادمة من بلاد العرب أو من أوروبا القاصدة غرب إفريقيا وما بين السودان والمغرب، وكانت مركزاً لتجمع الحجاج قبل انطلاقهم إلى مكة المكرمة في قافلة واحدة لأداء فريضة الحج، ما أكسب المدينة اسماً ينسحب مسماه على تلك الأراضي الواسعة في الصحراء. "وقد بلغت المدينة أوج ازدهارها إثر سقوط دولة المرابطين الشمالية سنة   541 هـ وانزياح القبائل الصنهاجية التي كادت تتألف منها دولة المرابطين إلى الجنوب"، بحسب ما ذكره الباحث سيد أحمد ولد الدي في دراسته " شنقيط بين الماضي والحاضر مع مقاربة استشرافية لآفاق المستقبل". 

 

اندثرت المدينة القديمة من بعد ازدهارها، لكنها من قبل ومن بعد، لم تتخل عن دورها العلمي الفريد الذي حافظ – رغم بساطته – على تراثه وحيويته، فلقد ظلت حافظة لكثير من المخطوطات الإسلامية القديمة المكتوبة على جلود الغزلان والمغلفة بجلود الأغنام. على أن الواقع أن شنقيط، وإن تعرضت لانكسارات وتراجعات كبيرة في أزمنة، إلا أن عبقها العلمي لم يفارقها، فكان العلم سبيل إحيائها من جديد، حتى غدت لليوم منارة للعلم والعلماء.

 

ليست لشنقيط جامعة كالقيروان أو القرويين أو الأزهر، لم تعرف مدنية كقرطبة وإشبيلية وبغداد، وهنا تكمن عبقريتها، وفرادتها، ففي قلب الصحراء، وفي منطقة تعاني من قسوة الرمال وزحفها، ينبلج العلم ويصمد، وتزدهر جامعة العلم البدوية المتنقلة الفريدة.

 

تلك الجامعة الفريدة التي قامت على تنقل أهل العلم بين القوافل تعليماً وتدريساً حيث يتضامن البدو الرحل على كفالة أهل العلم هؤلاء، وتبلورت في أسلوب آخر فريد هو المحضرة أو "المحظرة كما يطلق البعض عليها أحياناً" والتي يعرفها الأستاذ الخليل النحوي بأنها "جامعة شعبية يدوية مستقلة تلقينية مزدية التعليم وطوعية الممارسة".

 

والمحضرة تعد طريقة تعليمية فريدة في أساسها، حيث يختار الطالب ما يحب أن يتلقاه، ويجلس إلى من يشاء من معلمين وعلماء، ويبدأ بها بعد حفظ كتاب الله عز وجل أو بعضه، وتتنوع فيها المواد ما بين تدرس العقيدة والفقه والتفسير من بعد القرآن والنحو والشعر، ثم التاريخ وما إلى غير ذلك، وهي قد أخرجت فطاحل في علوم الشريعة وأنجبت أساتذة الشعر والأدب حتى سميت بلادها ببلاد المليون شاعر، وانساب علماؤها في بلاد الإسلام، لاسيما الحجاز التي كانوا يقصدونها بغرض الحج ومجاورة بيت الله الحرام، يدرسون ويعلمون.

 

ولعل المحضرة التي صمدت منذ أن الخامس الهجري إلى اليوم، هي وسيلة مبتكرة للتدريس تفوق في علوم الشريعة الأساليب النظامية الحديثة أحياناً، وتبرهن على أن النظم التعليمية الحالية بحاجة لإعادة نظر والتطامن والتواضع كثيراً أمام هذه التجربة الثرية التي أخرجت آلافاً من العلماء والشيوخ والخطباء على مر العصور، واشتهر منها الكثيرون، ولولا إحجام الشناقطة كثيراً عن تدوين تاريخهم بدقة، أو بالأحرى عدم وصول تاريخ الأقدمين منهم لانصرافهم تجاه التعليم الشفهي والتناقل اللفظي للعلوم على طريقة التدريس المحضرية، لكان أمامنا أكثر بكثير مما وفره الباحثون الآن عن علماء شنقيط الكبار.

 

تذكر الحجاز العلامة الشيخ محمد الأمين بن المختار الشنقيطي صاحب كتاب "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن"، وغيره من الشناقطة الذين أثروا النهضة العلمية في الحجاز ونجد في القرن الثالث والرابع العشر الهجري، والأول يُعد العصر الذهبي لشنقيط العلم والعلماء، ويجل العالم الإسلامي اليوم مشروع مركز تكوين العلماء الذي يعمل على إدامة العطاء العلمي الشنقيطي.

 

يحسب للمحاضن العلمية الشنقيطية أنها أخرجت علماء عاملين مجاهدين، منذ أول "محضرة افتراضية" أنشأها عبدالله بن ياسين مؤسس دولة المرابطين التي قامت على رباط أهل العلم الزاهدين، وحتى مناهضة أواخرهم للاحتلال الفرنسي منذ العام 1327 ه (1909م) ولنحو ثلاثين عاماً.