بكلمات موجزة محدودة رُسم الطريق، واستبان المنهج، وتحددت منائره.. "خلقتني وأنا عبدك"
إنها واحدة من معجزات البلاغة وجوامع الكلم التي أوتاها سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، في حديث حاز في كلماته السيادة للاستغفار، وحدد تلك العلاقة التي تربط عبد بربه سبحانه وتعالى، رواه البخاري عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سيد الاستغفار أن تقول اللهم أنت ربي لا إلاه إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت قال ومن قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة".
"خلقتني وأنا عبدك"، إنها همسات يناجي بها العبد ربه في خضوع وذل، يسأله أن يغفر له، ولو سألنا عنها أهل علم العقيدة لقالوا إنها تلخص توحيد للربوبية، وتثني بالإقرار بتوحيد العبادة لله سبحانه وتعالى، حينما يقرر بعض العلماء كالطيبي والمناوي في قوله "وأنا عبدك" (أي عابد لك)، أو سألنا أهل الرقائق لأخبرونا عن كنه هذا التذلل والخضوع المستجلب لمرضاة الله سبحانه، كما يقول صاحب عمدة القارئ: (لا شك أن فيه ذكر الله تعالى بأكمل الأوصاف وذكر نفسه بأنقص الحالات وهو أقصى غاية التضرع ونهاية الاستكانة لمن لا يستحقها إلا هو).
الاستكانة في موطن الاستغفار، والخضوع عند طلب العفو، بها حاز الدعاء تلك السيادة، وبها يستمد منه المستغفر تلك الطاقة، ويستحق الغفران والجنة إذا ما كانت تلك كلماته عند اليقين، وهو يقين باستحقاقات تلك العلاقة "خلقتني، وأنا عبدك"، عابدك الطيع، والمستجيرك به عند الذنب والخطيئة والعائذ بك من عثرات الطريق.
لست عبداً لأحد سواك أرجوه وأتذلل لها هكذا كما أتذلل لك.. وهاته الذنوب التي اقترفتها وأعترف بها هي من زلات العباد الذين لا ينكرون معها تلك النعم، كل النعم، التي أفأت بها على عبدك، لكنها قدرتي وضعفي الذي لا يزيدني إلا ذلاً إليك، واعترافا بتقصيري الذي لم أتعمد به مخالفة أمرك بل هو من ضعفي وهواي "ما استطعت".. على العهد لن أحيد، سواء أكان عهدي ووعدي لك من الإيمان وإخلاص الطاعة لك أو وعدك في المثوبة بالأجر، ـ كما قال الخطابي ـ أو كان عهدي مذ أخذته على عبادك وهم أمثال الذر ـ كما قال ابن بطال ـ، سيان، إنما هو عهد ووعد ألتزمه وآمله من رب غفور..
"خلقتني، وأنا عبدك"، فلا ملجأ لي إلاك، ولا مجير سواك من ذنوب تثقلني وأخطاء تلاحقني.. إنها كلمات نور تهدي وتبرق من بين ثنايا قائلها، يقولها لسان رطب بذكر جميل واستغفار عظيم سيد، لا يدرك أثر كلماته إلا من قالها ـ كما قال الصادق المصدوق: ـ "موقناً بها"، مخلصا من قلبه مصدقا بثوابها..