
{ فأما الزبد فيذهب جفاء, وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}
فيما تستعر الحرب العدوانية على غزة والمقاومة؛ يحسن بنا أن نتأمل في دلالاتها, وما تريده "إسرائيل" منها, وأمريكا بعد الأهداف المادية المعلنة, وكذلك ما يعنينا نحن المسلمين من حقائق لا بد من تجليتها, وترسيخها في ذهنية الأمة ووجدانها.
الكيان الغاصب من جانبه مأزوم, من وجوه متعددة, لعل أخطرها افتقاده إلى الشعور بالأمن, فقد خاض حروبا وهمية مع الجيوش العربية حقق فيها انتصارات سهلة, أرادها مفخرة له, ومبعثا للإحباط في أجيال الأمة؛ فهو لا ينفك يرددها في كل مناسبة, وفي ذكرى قيامه في كل عام, ومع ذلك, وبالرغم منه, ظلت روح المقاومة والتحدي في الشعب الفلسطيني, وأجياله اللاحقة تتنامى, ولا تلتفت لتلك الدعاية المزورة؛ فاندلعت الانتفاضة الأولى في أواخر عام 1987م من جيل نشأ في ظل الاحتلال, ولم يستطع ذاك الكيان إخماد جذوتها بالرغم من كل الأساليب القمعية التي ظلت العقلية الاحتلالية تتفتق عنها طوال أعوام الانتفاضة التي تم احتواؤها, أو توظيفها أسوأ توظيف لتسفر عن اتفاقات " أوسلو" التفريطية؛ فكانت طعنة نجلاء لكل التضحيات التي سطرها أهل فلسطين على طريق التحرر.
لقد أسهمت الانتفاضة في إقناع قادة سياسيين في كيان يهود بأنه لا بد أن يقبلوا بالتعاطي مع القضية الفلسطينية, والرضوخ لما يعدونه " تنازلات" تتعلق بمستقبل الأرض المقدسة, ولكنهم ظلوا يأملون في اتفاقات أوسلو غير الناجزة, وفيما يمتلكونه على الأرض, ظلوا يأملون فيه أن لا يخرج السلطة عن وظيفة الحماية, والوفاء بالمتطلبات الأمنية التي لم تستطع هي ولا جيشها, ومخابراتها أن توفره طوال فترة الاحتلال للضفة وقطاع غزة, ولكنها, وهي تبيت تلك الحسابات والنوايا لم تكن تتوقع استعصاء كالذي كان من رئيس السلطة الراحل ياسر عرفات, وقد ظلت تتهمه لدى اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000م وقبلها بتقديم دعم غير معلن لفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة.
ولما مات عرفات, أو قتل, أسدل الستار عن مرحلة من حياة السلطة جديدة بدأت تتكشف سريعا عبر تصريحات من رئيسها محمود عباس يرفض فيها الانتفاضة المسلحة, أو ما أطلق عليه عسكرة الانتفاضة, وقد تكشف فيما بعد, أنه لا يؤيدها معسكرة, ولا غير معسكرة! بل إن السلطة صارت أقرب من أي وقت مضى إلى الصفة التي تريدها "إسرائيل" من حيث التنسيق الأمني, والاضطلاع بأدوار كان جيش الاحتلال يتعثر في النهوض بها!
وهنا كان الصدام حتميا بين قوى المقاومة, والسلطة بهذه الصفة, ولم يكن مستغربا أن تكون الإسلامية منها في الطليعة، بحكم نفوذها, والدور الذي تضطلع به, ومن حيث عقيدتها الجهادية, ونظرتها لطبيعة الصراع مع ذاك الكيان الذي يدنس أرض الإسراء والمعراج, ويستثير في الأمة شعور العداوة مصداقا لقوله تعالى: { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا}
فلا يتصور أن هذه المعاني تغيب عن قادة ذاك الكيان, ومن يتولون كبره؛ إنهم يرون في صمود المسلمين في غزة, مجرد صمود, مصدرا لقلق وخطر لا يطاق؛ لذلك سكتوا, على مضض, على مشاركة حماس في الانتخابات التشريعية الأخيرة, لعل الذي منَّاهم بانتزاع اعتراف منها ب" إسرائيل" يصدق؛ فيتلافون خطر المواجهة العسكرية معها, بالاحتواء, وإفراغ الحركة من مضمونها, لكن ذلك لم يحدث؛ فأعلنوا الحرب على حماس, وساندتهم في ذلك أمريكا, وواطأتهم نظم عربية قولا, أو فعلا, أملا في أن ينفض الناس في غزة عنهم, أو يثورا عليهم, حين يرونهم سببا للضيق المعيشي, والحصار الشامل والقاتل.
لكن الأمور جرت على غير ما يشتهون, تعاظم لقوة حماس, في مقابل تراجع في أسهم المنخرطين في المشاريع الأمريكية "الإسرائيلية" فكان لا بد أن تعود تلك الدولة التي يغذوها الفساد والإفساد, كما الماء والهواء, أن تعود إلى طبعها, على أهل غزة قتلا مستطيرا, وحقدا دفينا, لا تطيقه إلا نفوسهم!
هم يعولون على ثلة من الحكام تناصرهم في السر والعلن, ويطمئنون إلى ذاكرة من الأمة مثقوبة, وهم قد جربوا من قبل ارتكاب المجازر الفظيعة؛ فلم تبرح الشعوب العربية المسيرات العاطفية, والاحتجاجات التنفيسية! ثم يعتاد الناس تلك المشاهد, ويتقبلوا وتيرة أعلى من القتل اليومي!
بيد أن الخبثاء منهم يدركون المخاطر والأضرار التي تجرها هذه الفظائع عليهم, وعلى مستقبل وجودهم في المنطقة, بعد هذا القدر من الكراهية التي ابتعثته "إسرائيل" من نفوس العامة قبل الخاصة في المنطقة العربية, والعالم الإسلامي بأسره. حتى بات كثير من العلمانيين والليبراليين العرب يصرحون بشكوكهم العميقة من صدق تلك الدولة في سعيها نحو السلام ونظرتها إليه.
فهل نترك هذه الأيام الفاصلة تمر على أمتنا دون فوائد باقية فاعلة؟! تلكم هي النظرة العقدية إلى هذا الكيان, نظرة لا تطويها الأحداث, ولا يعطلها تزوير, أو تضليل, أهمها: أن عدوانية هذا الكيان دائمية وعقدية, ومن صنَّفه الله تعالى عدوا, فلا بد أن يتخذه المسلمون والأمة كلها عدوا, وأن يسلكوا معه سلوك العدو, دوما, وأن يُكنُّوا له مشاعر العداوة العقدية, مهما حصل.
ومما يجب أن لا يغفل هذه الأيام استثارة روح المقاومة في الأمة كلها, والجهاد, فلا عز للأمة دون الجهاد, ولا كرامة, ولا صون للحرمات والأعراض والمقدسات, دون أن يلوح في الأفق علمه ولواؤه, فلا ينبغي للعلماء أن يملوا الدعوة إليه, واستنهاض الأمة للارتقاء إلى إعلانه, ولعمري إن مجرد ذلك, أي دعوة العلماء والخطباء إلى الجهاد, لكفيل بأن يهز ذلك الكيان, ويذكره بحجمه الحقيقي.
لا بد أن يعلن المسلمون في العالم كله, وفي البلاد العربية على وجه الخصوص, أنَّ سِلْم المسلمين واحدة, وحربهم واحدة؛ فلا يظل "إسرائيلي" ينعم بالعيش, أو التمثيل لدولة محاربة ومعتدية في بلد مسلم يتميز أهله غيظا؛ لنصرة إخوانهم في فلسطين, ويتوقون للالتحاق بتلك المعركة التي تعلن على الأمة في غزة.
هذه بعض المعاني التي تحاربها "إسرائيل" ومن ورائها أمريكا, وغيرها, في غزة, وهي العقبة الوحيدة التي تعوقهم في تمرير المشاريع الاستسلامية التصفوية للقضية الفلسطينية. هم بالطبع لم, ولن يتغلبوا عليها في ساحات الجدل والمحاججة العقلية والفكرية؛ فلذلك دفعهم يأسهم إلى هذه الإبادة التي يمارسونها ضد الأمة في رمزية غزة.
وهذه أجواء مناسبة, وغير عادية, وربما لا تعدلها شهور, أو سنين ؛ ليغتنمها العلماء والدعاة المخلصون في تثبيت تلك المعاني, وبيان صلتها بالدين والعقيدة؛ فليشمر المخلصون لربهم ودينهم, وأمتهم عن سواعدهم, ولْيَصدحوا بتلك المعاني, فما أمس الحاجة إليها! وما أعظم الثواب لمن صدق الله في تبيانها وبنائها!