العربية و"البيان المتشدد" !!
27 محرم 1430
حسين عبد الكريم




 

عندما تقرأ تقريراً للعربية.نت يتناول بيان مكة الثاني تخرج بانطباع يقودك إلى الاعتقاد بأن البيان قد أغاظ أناساً إلى حدود الرغبة الجامحة في وضع الدعاية الجوبلزية للخصوم مواضع التنفيذ؛ مجتهدين في جعل القارئ يتصور أن خمسين عالماً شرعياً في السعودية يفتقرون إلى "شهرة سياسية" ما يحوجهم إلى إصدار بيانات ، وصفها تقرير العربية بـ( "الغوغائية" التي ينقصها الحكمة .. التي تختلف عن "الجهاد الحقيقي" ) .

بيان المشايخ لم يطرب له "مفكر" الموقع؛ فجعل يلقي مواعظه على العلماء بضرورة ألا "يجلسوا متكئين في بيوتهم" ليكتبوا هذه البيانات الغوغائية، التي حازت هذه الصفة فقط لأنها ـ في نظره ـ لم توافق توجهاً رسمياً، خلافاً للبيان الأول المذكور في التقرير الذي نجا من النقد والاتهام بالغوغائية لأنه ـ في تصور الموقع ومفكره ـ وافق تلك التوجهات.

في نظر واضعي التقرير، بما ظهر بدون مواربة، أن الاحتياج إلى الشهرة السياسة هو الذي دفع العلماء لذلك، لكن في نظري المتواضع فمن يحتاج إلى أمور كثيرة ليمكنه أن يتفق حتى مع أصول المهنة هو هذا التقرير نفسه..

فمحرر موقع العربية.نت يحتاج في البداية إلى مراجعة دروس النحو للمرحلة المتوسطة للوقوف على الفارق بين استخدام حرف "من" من عدمه؛ فهو قد جزم بأن الموقعين على بيان مكة الثاني وصفوا أنفسهم بـ"علماء الأمة ودعاتها"، وبذا يبدون وكأنهم احتكروا هذه الصفة دون سائر العلماء والدعاة والذين تزخر بهم الأمة الإسلامية في ربوع العالم الإسلامي كله!! بينما الواقع أن بيان العلماء لم يدع هذا الاحتكار على اعتبار أن الموقعين "على هذا البيان مــن علماء الأمة ودعاتها" وليسوا كلهم طبعاً!!

وربما يحتاج أيضاً إلى استخدام عدسة مكبرة ليدرك أن بيان مكة الثاني الذي أثار حفيظة الموقع المذكور إلى حد وصفه له بالبيان المتشدد لم يأتِ على ذكر حركة حماس بالمرة، ولم يذكر هذه الكلمة مطلقاً ليتحدث تقرير العربية عن أن العلماء "انتقدوا تحميل حماس مسؤولية أحداث غزة الأخيرة، قائلين إن تحميلها مسؤولية المذابح الشنيعة التي ارتكبها العدوان الإسرائيلي، هو "من الإثم العظيم والخسران المبين، وهو من نهج المنافقين وديدنهم"."؛ فبيان العلماء إنما تحدث عن "أن غمز المقاومة الجهادية وانتقاصها أو تحميلها لمسؤولية المذابح الشنيعة التي ارتكبها العدو اليهودي، هو من الإثم العظيم والخسران المبين، وهو من نهج المنافقين وديدنهم"، والبيان بلا شك هو صادر عن جهة تفهم جيداً أن المقاومة في غزة لم تقتصر على حماس، بل شاركت فيها عدة فصائل المقاومة، كحركة الجهاد ولجان المقاومة الشعبية وحتى شرفاء فتح من (كتائب شهداء الأقصى) وغيرها من القوى المقاومة، ولم يكن محاولة التقرير إلا تساوقاً مع رغبة لدى معسكر معين في تصوير العدوان على غزة ومن ثم التصدي له على أنه لم يكن إلا حرباً على حماس لا على الشعب الفلسطيني كله، وبالتالي؛ فإن الرد عليه لم يكن فعلاً شعبياً جارفاً وإنما يخص فصيلاً واحداً يمكن أن "يتفهم" هؤلاء خطأه في تقدير الموقف أو يحمله ـ لا "إسرائيل" ـ مسؤولية المجازر في غزة.

الطريف أكثر في تقرير العربية أنه استعان بشخص لا يبدو أنه قد قرأ البيان، استدعي على عجل فامتشق سيفه وأخذ يحارب طواحين الهواء!! وسوف لن يكون من اللائق عرفاً أن أعيد لهذا "الكاتب والمفكر الإسلامي السعودي" عبارات البيان لأذكّره أنه ربما قد "فكَّر" خارج دائرة "التفكير"، فأنجز رداً يرضي الموقع وخصوم البيان، لكنه يخاصم الحقيقة ويجافي المصداقية؛ فأصول المهنة تقتضي ألا أنبه إلى بدهية لا ينبغي أن تغيب عن "كاتب ومفكر"، لاسيما إذا كان "إسلامياً" ويفهم أن التثبت مطلوب قبل التعليق، وإذا كان ذلك يبدو أنه لم يحدث؛ فإنني أحب أن أذكر بعدد من التوهمات التي وقع فيها الرد، وأهمها:

1 ـ توهم أن البيان قد دعا إلى القتال عموماً لكل الأمة في غزة!! وهو ما دفع "المفكر" لأن يقول: "أما أن نطالب بالجهاد في مكان يجاهد أهله عنه فما علينا إلا أن نمدهم بما نستطيع إن كانوا يجاهدون جهادا حقيقيا يرد عدوان العدو عنهم"، ويضيف: "يجب أن نعينهم على هذا الجهاد لا أن نجاهد عنهم، أو ندخل في جهاد قد تكون نتائجه على الأمة وخيمة".

وبالطبع لم يدع البيان لأكثر من إعانتهم لا الجهاد عنهم أو بدلاً منهم!!

2 ـ توهم أن البيان قد دعا الأفراد إلى الانخراط في القتال، ومن ثم جاء الرد تحذيراً مما أسموه بـ"جهاد الأفراد" الذي يدفع إليه الشباب، "يذهبون لمكان ما في هذا العالم ليعودوا إلينا جثثا أو قد قبض عليهم في دول أخرى، فهذا تحريض لا فائدة منه ولا يؤدي إلى نتيجة"، كما ورد في كلام "المفكر"، والواضح أن "المفكر" والموقع قد أحجما عن قراءة البيان قبل الرد عليه على ما يبدو!!

3 ـ توهم أن البيان يحرم المعاهدات مع اليهود عموماً سواء أكانت مؤقتة أم دائمة، بينما البيان تحدث عن جواز المؤقتة وفقاً للمصلحة، وحرم ما تناول الاعتراف بحق لليهود  في فلسطين وما كان دائماً ومعاهدات التطبيع، ويبدو أن ثمة من يغيظه مثل هذه الفتوى فقال أنها "تعجل في الفتوى لا يأتي من عالم حقيقي إنما من رجل يريد شهرة سياسية".

والوهم التالي أن البيان لم يصدر عن "رجل يريد شهرة سياسية" مثلما قال "المفكر" بل أكثر من خمسين عالماً شرعياً وقعوا البيان، ووافق كلامهم فتاوى المراجع العلمية السنية كلها في العالم من قبل وعلى مدار العقود الماضية، ومن بينها مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر ورابطة العالم الإسلامي وفتاوى كبار العلماء السابقين وغيرهم.

أما أغرب ما في التقرير؛ الذي حذر مما أسماه بـ"الغوغائية" في إطلاق البيانات والحديث على المنابر على لسان "المفكر"؛ فهو تلك العبارة التي وردت على لسان "المفكر" والقائلة بأنه "في الآونة الأخيرة كثرت هذه البيانات ونلاحظ فيها صبغة جديدة من القول تتعمد أن تنتقد مواقف الدولة وهذا خطير جدا"، وهو تحريض واضح على العلماء بتحميل بيانهم ما لم يرد فيه نصاً، فالبيان إنما تحدث عن حكم شرعي يخص المسلمين عموماً ولم يتحدث عن بلدٍ بعينه، كما أن "المفكر" لم يبين ما هو "الخطير جداً" في مجرد النقد، وما إذا كان "الفكر" من وجهة نظره يعني التماهي مع المواقف الرسمية  في كل شيء أم لا، وما مساحة المقبول أن "يفكر" فيها "المفكر" إذا حرمه "مفكر" آخر من حق النقد عموماً إلا ما وافق توجهات "الموقع الليبرالي" و"مفكره الإسلامي"!! 

آمل مستقبلاً أن تتمكن العربية من قراءة البيانات قبل إعداد التقارير عنها، وأن يتوافر لـ"مفكريها الإسلاميين" الوقت الكافي لقراءتها قبل "التفكير" فيها.. كما آمل أن ينتقوا جيداً المواد الصحفية التي يمكنهم من خلالها التنفيس عن الغضب جراء انتشار التسمية الجديدة لقناتهم ويستعينوا بمفكرين مناسبين لهذا الغرض، لأن التوفيق قد خانهم هذه المرة..

[email protected]