التعامل الفقهي مع "الجهاد" بين الفردية والجماعية
6 صفر 1430
هشام منور

ينبني مفهوم «العبادة» في الشريعة الإسلامية على أسس مغايرة لنظائرها في الديانات السماوية الأخرى وبعض النواميس الوضعية ذات الطابع الاجتماعي الأخلاقي والتعبدي. فمفهوم «العبادة»، أو الخضوع لقوى علوية غيبية مهيمنة، وفق رؤية تلك الشرائع الوضعية، يستند إلى مبدأ «الخلاص الفردي»، ويسعى إلى التركيز على أهمية اضطلاع «الفرد» بوصفه كائناً وذاتاً مستقلة عن مجموعها، بمهام التقرب إلى خالقها أو تلك الذات الغيبية المسيطرة، وتوضيح أن سعادة الفرد أو شقاءه رهن عمله الذاتي، مهما تضاءل أو تعاظم، في حين نجد أن مفهوم العبادة في الإسلام يرتكز إلى بعد جماعي لا ينفي عن «الفرد» مسؤولية تحقيق نجاته ونجاحه في الآخرة بالاستناد إلى أفعاله الدنيوية، بقدر ما يوسع من وشائج ذاك المفهوم «العبادة»، ويفرع من وسائطه حتى يحيله إلى جهد جماعي تتحمل «الجماعة» عواقبه ومآلاته، بالقدر الذي يتحمل فيه الفرد مسؤوليته المباشرة عن أفعاله.

 

وتوجيه الخطاب إلى مجموع المكلفين لا أفرادهم هو الأسلوب الذي اعتمده القرآن الكريم في مخاطبته الناس عامة، وأتباعه المؤمنين على وجه الخصوص. ويبرز مفهوم «الأمة الوسط» في هذا السياق بوصفه نتاجاً لرؤية القرآن لمهام المسلمين وواجباتهم في هذا الكون، وتجاه الناس جميعاً، «كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله». وما واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي ميز به الخطاب القرآني «الأمة الوسط» من دون سائر الأوصاف سوى دليل على مركزية هذا الوصف في حياة الأمة، وفي الوقت ذاته، على القدرة على نسج بُعْدٍ أخروي يحاسب عليه المرء لأي عمل دنيوي جماعي، مهما تضاءل أثره وقيمته.

 

يقودنا ما تقدم إلى محاولة سبر مفهوم «الجهاد» بوصفه نموذجاً عملياً لنجاح الشريعة الإسلامية في تحويل شأن دنيوي بعيد، من حيث الظاهر، عن مفهوم العبادة، بصورته الفردية والدنيوية المعهودة لدى الديانات والشرائع الأخرى، إلى عبادة جماعية يتقرب بها المسلم إلى خالقه، ويحقق بوساطتها واجب استخلافه في الأرض. فالجهاد عبادة جماعية يتوجه فيها خطاب التكليف إلى المرء بوصفه فرداً وعضواً في جماعة «أمة» في الوقت نفسه. ولذلك، فإن البعد الجماعي سمة بارزة في ثنايا أي مقاربة لفهم «الجهاد» وممارسته على حد سواء.

 

بيد أن تراثنا الفقهي-بعامة- يتعامل مع مفهوم الجهاد وأحكامه بوصفه عبادة فردية تدور عليه الأحكام التكليفية الخمسة: (الوجوب والحرمة والندب والكراهة والإباحة). ولا يجد الفقهاء حرجاً من إدارة الحكم التكليفي بأنماطه الخمسة المتقدمة والذي يعنى بتوصيف أفعال المكلف بوصفه فرداً عليه (الجهاد). فالجهاد مهما كان نوعه أو شكله يظل في رأيهم مجرد «بذل لأي جهد في سبيل الله»، ولا يتم النظر إلى الطابع الجماعي للجهاد إلا من خلال منظور الأفراد الذين يتراصون فيما بينهم لتشكيل كتلة أكبر من الناحية الرقمية، وبعبارة أخرى: يحيل هؤلاء الفقهاء المظهر الجماعي الذي قد يتبلور فيه الجهاد إلى مجرد كونه تعبيراً عن اجتماع أفراد يقومون بعبادة، وفق النمط الفردي الذي يغذي أسلوب تعامل التراث الفقهي، في بعض الجوانب، مع مفهوم العبادة في الإسلام.

 

ورغم أن القارئ لمدونات الفقه الإسلامي ومتونه لا يمكنه أن ينكر إعجابه بالتوصيف الذي يطلقه الفقهاء على ممارسات الجهاد وأعماله، بكونه «فرضاً كفائياً»، وهو الحكم التكليفي الوحيد ذو الطابع الجماعي، والذي يعني لديهم: «ما طلب الشارع فعله من مجموع المكلفين لا من كل فرد بعينه، فإذا قام به بعض المكلفين فقد تأدى الواجب وسقط الإثم عن الباقين».

 

ومن أمثلته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورد السلام، والجهاد، واكتساب أنواع العلوم والصنائع... رغم ذلك فإن  متابعة تفاصيل أحكام الجهاد في تلك المدونات الفقهية تبرز لنا الطابع الفردي الذي تصطبغ فيه ممارسات الجهاد وتفاصيله الجزئية، حتى ليخال المرء نفسه أنه أمام شأن فردي تعبدي بعيد كل البعد عن الطابع الجماعي للجهاد، وبخاصة عندما يقرر حكم الجهاد، على سبيل المثال، بالإباحة، فيصبح المكلف مخيراً بين الإقدام عليه أو الإحجام عنه!؟.

 

والاستقراء المعمق للأحكام والجزئيات التي ذكر الفقهاء أنها قد تخرج بالحكم التكليفي للجهاد عن الافتراض الكفائي إلى بقية الأحكام من إباحة وندب وكراهة وحرمة، إذ لا يمكن القول بمخالفتها ومعارضتها، في قسم كبير منها، لكونها في معظم الحالات تصرفات فردية محضة، قام الدليل المباشر على الحكم التكليفي المصوغ إزاءها، إلا أن ذلك يجب ألا يحجبنا عن السمة الأساسية لمفهوم الجهاد وممارساته، وهي سمة جمعية تبرز في سياقها تلك الأحكام التفصيلية الجزئية على أنها استثناء مؤكد للقاعدة لا نافياً لها ولا مبدد لانتظام استمراريتها.

 

 فأن يحكم على رغبة المجاهد بالمبارزة الفردية التي لا يتأكد فيها النصر أو الهزيمة بالإباحة، أو أن يحرم على المرء مباشرة الجهاد دون إذن والديه، إذا لم يكن لهما من راع أو معيل غيره، أو أن يكره للمجاهد تعمد التعرض في ميدان المعركة لملاحقة نسيب أو قريب له، كل ذلك، وكما هو واضح من سياق الفعل المكتنف، تفاصيل فردية جزئية لا يمكن بحال أن تتجاوز إطارها الفردي لتسبغ على الشأن الجهادي رؤية فردية في كيفية التعامل مع أحكام الجهاد والتي من المفترض أن ينظر إليها بوصفها حراكاً اجتماعياً وفعلاً جماعياً تمارسه الأمة من خلال أبنائها القادرين؛ بغية تحقيق أهدافها ومبادئها العامة والكلية، وهي الغاية الأساسية من تشريع الجهاد وأحكامه في الإسلام.