أنت هنا

على هامش مؤتمر اسطنبول
24 صفر 1430







لغزة ـ كما شوهد أثناء العدوان على أهلها ـ بركات، رآها العالم في أصعدة كثيرة، فقد علّمت الساسة والاقتصاديين والعسكريين والدعاة والمربين كيف تكون النتيجة عندما تتساوى في المعادلة الحياة الشريفة مع الموت الكريم في حس أصحابها، وكيف تعلى من قيمة الجهاد والاستشهاد للحد الذي يمنح المسلمين الانتصار على أعتى قوى الشر والعدوان.

وفي القلب من تلك البركات كانت مسألة الوحدة والالتئام والتساند الذي جمع القلوب حول هدف مشترك عظيم؛ فتناسى الناس أحزابهم وقواهم وانتماءاتهم الفكرية التي تبدو مختلفة بعض الشيء أمام هذا الخطر الداهم، وكانت من حسنات الصمود هذه الروح التي تبدت واضحة بين علماء وقوى وقادة رأي المسلمين في الاجتماع الذي ضمهم في اسطنبول ضمن فعاليات مؤتمر "غزة النصر" الذي جمع أفكاراً شتى ورموزاً بجميع ألوان الطيف الإسلامي، تحاوروا بكل حب وود حول القضية الجامعة التي تلتئم لها الأفئدة والعقول، وهي قضية فلسطين بأركانها المختلفة، وحيث لم يكن في هذا التوقيت إلا مسألة غزة؛ فإن قضية الأقصى واللاجئين وغيرهما لم تغب أبداً عن أعين المجتمعين.

ما يلفت النظر بإمعان في هذا المؤتمر، وربما هو الأظهر من بين المؤتمرات السابقة، هو هذا الوعي الذي بدا أنه أوشك أن يسلك طريقه لعقول الكثير من علماء هذه النهضة ودعاتها ومفكريها وقادة الرأي فيها، حيث التجرد والالتفات إلى الجوامع والأصول والثوابت التي يستلزم أن توحد من خلالها أطر العمل الإصلاحي في العالم، والارتقاء إلى مفهوم التقريب والتسديد بين أصحاب الأهداف المشتركة، سواء في قضية غزة أم النصرة أم غيرهما.

إنه تطور نوعي وقفزة أن يسمع الجميع صوت الآخر، ويقترب من فهم منطلقاته وأفكاره، ودوافع مواقفه، التي قد يتبادر لأول وهلة أنها معاكسة تماماً؛ فإذا بها ـ على الأقل ـ لها محل من مساحة الفكر الإسلامي الرحيبة.

وعلى سبيل المثال، كان يريد البعض تفسيراً لعلاقات حركات المقاومة بالدول والقوى المختلفة، واستمع إلى ذلك؛ فربما اتفق أو اختلف، لكنه على كل حال، وضع ذاته في الصورة، وحاول أن يقرأ المشهد بشكل أعمق وأوضح، وهو ما ينجم عن التفاعل وتلاقح الأفكار.

والمقاومة كذلك، كحالة ترتفع بها الأمة، يترسخ لدى الحضور عموماً أنها ليست وضعاً يلتجئ إليه كرد فعل على أعمال عدوانية ملموسة مادية فحسب، بل تتجلى من خلال النقاشات معانٍ أخرى للهجمة العدوانية على الأمة الإسلامية، وبالتالي يبدع قادة الرأي لا من خلال ورش العمل وغيرها التي توازت في نواحيها السياسية والإعلامية والاقتصادية (الإغاثية) والحقوقية والقانونية، فحسب، وإنما من خلال هذا الفيض المعرفي من كافة أرجاء العالم الإسلامي الذي أثرى الفكر المقاوم بالعديد من الأفكار والرؤى رغبة في الخروج من نمطية ردود الأفعال، لاسيما أن القوى الخارجية المعادية لا تعدم وسيلة جديدة تستخدمها ضد هذه الأمة، قيماً وأفكاراً وأخلاقاً وسلوكاً واقتصاداً وما إلى ذلك، ومن ثَم، يبدو التحدي كبيراً، ويستأهل جهداً مكافئاً، يأمل الجميع في أن تكون تلك بدايته ومنارة طريقه.