لماذا كانت الإبادة؟
7 ربيع الأول 1430
د. محمد يحيى

استغرب كثيرون من مستوى الوحشية التي وصل إليها الجيش "الإسرائيلي" في الهجوم على غزة مما أدى إلى استخدام أسلحة بشعة تستخدم لأول مرة في الحروب، كما أدى إلى خسائر واسعة النطاق بين المدنيين أكثر مما هي بين المقاومين، لكن هذا الاستغراب يزول إذا عرفنا أو استنتجنا الأهداف الحقيقية للعملية "الإسرائيلية" في غزة، والتي لم تكن ترمي إلى إبادة أو إنهاء المقاومة في هذا القطاع بقدر ما كانت تهدف إلى عقاب جماعي للسكان هناك بطريقة وحشية لعل ذلك يجعلهم ينفضون من حول مشروع المقاومة عمومًا، ومن حول حركة حماس على وجه خاص؛ ولهذا السبب لم يحدث أي اشتباك متعمد من جانب الجيش "الإسرائيلي" مع عناصر المقاومة بل اكتفى هذا الجيش كما ذكر بعض المراقبين "الإسرائيليين" أنفسهم بقتل الأطفال وقصف المنازل المدنية والمستشفيات والملاجئ ومقار الأمم المتحدة وكل مكان لا يوجد فيه مقاوم بل من المؤكد أنه يوجد فيه مدني.

 

وإذا كانت حقيقة الهجمة "الإسرائيلية" المقصودة على المدنيين وعملية إبادتهم هي حقيقة مفروغ منها، وإذا كان الهدف الظاهر منها هو هدف فض الشعب الفلسطيني عن جانب المقاومة وتحويله إلى ضد حركة حماس، فهل هذا كان هو الهدف الوحيد من استهداف المدنيين؟، أم ان هناك أهداف أخرى؟.

 

من الواضح أن هناك أهداف أخرى وكثيرة، أولها الانتقام لهزيمة الجيش "الإسرائيلي" في لبنان عام 2006 وهي هزيمة مذلة أضاعت ما يسمونه هيبة أو قوة ردع الجيش "الإسرائيلي"، وكان لابد من استعادة هذه الهيبة، ليس بهزيمة قوة عسكرية أو حتى قوة مقاومة بل باستهداف المدنيين، وضربهم بوحشية وبأدوات عسكرية تحدث إصابات بشعة وفظيعة مما يؤدي إلى حالة خوف عام، ليس فقط في قطاع غزة، وليس في فلسطين وحدها بل في كل الأماكن المحيطة بفلسطين مما يعيد في رأي قادة "إسرائيل" هيبة ذلك الجيش الضائعة، وبجانب استعادة الهيبة الضائعة، فقد كان هناك هدف هو الإنتقام من المقاومة ومن شعبها الذان وقفا بصمود وصلابة في وجة جميع محاولات "إسرائيل"، ليس العسكرية فقط بل أساسًا السياسية، والديبلوماسية للإلتفاف حول هذه المقاومة وضربها وكسب الشعب الفلسطيني إلى جانب مشاريع الاستسلام التي تطرحها جماعات داخل فلسطين كما تطرحها دول عربية محيطة بفلسطين.

 

وفوق هذا وذاك، فإننا نكاد نلمح في ثنايا هذه العملية الوحشية التي استهدفت المدنيين بالأساس كما استهدفت كل البنية التحتية في قطاع غزة، أقول نلمح نوعًا من أنواع الرغبة الإنتقامية في تأديب هذا الشعب، ليس من جانب "إسرائيل" وحدها، ولكن أيضًا، وبالأساس من جانب بعض الدول والحكومات والتيارات العالمية والإقليمية التي فيما يبدو سائها أن يكون هناك شعب يعتمد أسلوب المقاومة، بل ومن الأكثر يعتمد أسلوب المقاومة على نهج إسلامي وليس على نهج يساري أو يميني أو علماني، وهنا على ما يبدو صارع هذا البعض إلى الوسوسة لـ"إسرائيل" والإيحاء لها بأنه مطلوب ضرب مشروع المقاومة بشكل فظيع وقاس، وليس ضربه مباشرة وإنما ضربه من خلال جماهيره لكي لا يتحول هذا المشروع الإسلامي إلى نوع من النموذج تحتذيه الشعوب المقهورة في هذه المنطقة أو تحتذيه في وجه القوة الإستعمارية الكبرى قبل أن تحتذيه في وجه القوى المحلية التي تقهر الشعوب وتذلها، ولا تقتصر الأهداف "الإسرائيلية" من استهداف المدنيين على هذا فقط، ولكن نلمح فيها رسائل موجهة إلى أبعد من غزة أو فلسطين المحتلة، وحتى أبعد من المنطقة العربية، فمن الواضح أن هناك تحضيرات معينة تريد "إسرائيل" القيام بها لهجوم على إيران أو لنشاطات في وادي النيل حول ينابيع النيل، ويهم "إسرائيل" وهي تبدأ الإستعدادات لهذه النشاطات العدوانية شرقًا وغربًا وجنوبًا، أن تكون لها هالة من الخوف تحيط مشروعها بحيث تؤدي هذه الهالة إما إلى ردع من تتصور "إسرائيل" أنهم خصوم لها أو إلى تخويفهم إلى حد لا يستطيعون معه التفكير في اتخاذ أي وسائل للدفاع عن أنفسهم.

 

هذه هي الأسباب الرئيسية وراء ذلك الاستهداف الأولي للمدنيين في غزة قبل اللجوء إلى استهداف المقاومين، وهو ما أدى إلى أن يصرح رئيس وزراء "إسرائيل" بأن جيشه قد ادى المهمة فعلاً، وربما كان على حق إذا فهمنا مهمتهم في الدخول على أنها مهمة إبادة الشعب.