الاعتذارات "الإسرائيلية"!
18 ربيع الأول 1430
د. محمد يحيى

بعد ما أثيرت ضجة حول ما وصف بأنه برنامج في القناة العاشرة للتليفزيون "الإسرائيلي" يسيء إلى العقيدة المسيحية من خلال شخص النبي عيسى (عليه السلام) ووالدته، تقدم رئيس الوزراء "الإسرائيلي" المنتهية ولايته إيهود أولمرت باعتذار إلى الفاتيكان حول هذه الإساءة، ولكن في نفس الوقت كانت هناك أخبار عن إساءة أخرى لنبي الإسلام (عليه الصلاة والسلام) في برنامج تليفزيوني "إسرائيلي" آخر، وقد قامت حولها ضجة محدودة في العالم العربي ولم يتقدم رئيس الوزراء "الإسرائيلي" أولمرت باعتذار عما حدث هذه المرة، وهذا في حد ذاته يثير تساؤلاً غريبًا، فلماذا اعتذر رئيس الوزراء "الإسرائيلي" إلى الفاتيكان ولم يعتذر إلى العالم الإسلامي أو العربي أو على الأقل إلى بعض الدول التي تقيم علاقات وصفت بأنها وطيدة مع "إسرائيل" مثل: مصر أو الأردن، والسبب الواضح في هذا الاعتذار الذي لم يأت إلى العالم الإسلامي بينما أتى إلى الفاتيكان كممثل للعالم المسيحي هو موازين القوى، فـ"إسرائيل" تدرك تمامًا أن العالم الذي يواجهها تحت مسمى العالم العربي ليست له أية معايير للقوة بل ليست له أي أسنان يعض بها على من يعاديه سوى بعض أسنان إعلامية عرجاء، لم تعد تخيف أحدًا لأنها لا تمتد إلى أبعد من السباب والصراخ ولا تتجاوز ذلك إلى أي فعل واقعي وحقيقي مهما كان بسيطًا، بل إن هذا الرد الإسلامي أو العربي على الإساءة "الإسرائيلية" هذه المرة جاء ضعيفًا ومحدودًا بشكل لافت للنظر إذا ما قورن بحجم رد الفعل الذي حدث منذ ما يقارب العام على الإساءات الدانمركية والإساءات الأخرى في دول أوروبية عديدة بمناسبة الرسوم الكاريكاتيرية المشهورة التي حاولت أن تطال من الإسلام، ورغم أن حجم الإساءة "الإسرائيلية" هذه المرة كان أفظع وأدنى وأفحش من الإساءات التي كانت متضمنة في الرسوم الكاريكاتيرية الأوروبية إلا أن أحدًا في العالم الإسلامي أو العربي أو حتى الدول التي تدعي أنها ترفع لواء الدعوة إلى الإسلام وحمايته لم يهتم بها هذه المرة وتركوها تمر دون ردود أفعال تذكر، وهذا الأمر بدوره يستدعي تساؤلاً آخر، فهل يا ترى سكت العرب والمسلمون هذه المرة عن الإساءة بعد ما أدركوا حجم قوتهم الحقيقية وأدركوا أن صراخهم وعويلهم مهما علا لا يؤثر في الأمر شيئًا، وأن أصحاب الإساءات يصرون عليها ويمضون في طريقهم بصرف النظر عن أي ردود أفعال صوتية أو إعلامية تحدث، أم أن اختفاء ردود الأفعال هذه المرة على تلك الإساءة الجديدة جاء وهو أمر خطير فعلاً لأن بعض الدول العربية أو معظمها مشتبكة الآن مع "إسرائيل" في إطار محادثات ومفاوضات للسلام ما بين سرية وعلنية ونصف سرية ونصف علنية.

 

وهل يا ترى أصبحت ردود الأفعال العربية والإسلامية على الإساءات الموجهة للنبي عليه الصلاة والسلام أو للعقيدة الإسلامية بوجه عام أصبحت الآن تقاس بمعايير مزدوجة أو بمعايير ثلاثية ورباعية ولا متناهية الأبعاد بمعنى أنه إذا جاءت الإساءة من بلد ليس لبعض الحكومات العربية والإسلامية علاقات وطيدة معه أو غير داخلة معه في مصالح سياسية أو اقتصادية تكون ردود الأفعال قوية وعنيفة ومنذرة بالويل والثبور، بينما إذا جاءت الإساءات من بلاد يخشى جانبها على الحكومات والأنظمة أو تشتبك معها الدول الإسلامية والعربية في مصالح معلنة أو غير معلنة ومفاوضات سياسية واقتصادية بل وأمنية وعسكرية فهنا تكون ردود الأفعال ضعيفة أو غير موجودة تمامًا.

 

وهذه الحالة لو صحت فإنها تكون طامة كبرى لأنها تشير إلى زيف وكذب كل الإدعاءات التي نسمعها من هنا وهناك حول حماية الإسلام والغيرة على مقدساته لأن هذه الإدعاءات لا تظهر إلا في مواجهة دول بعينها وجماعات بعينها، لكنها لا تظهر إذا جاءت الإساءات إلى الإسلام واضحة ومن أشد أعداء الإسلام كما هي الحال الآن مع "إسرائيل"، وربما مع غيرها في المستقبل القريب.

 

أما بالنسبة لموقف رئيس الوزراء "الإسرائيلي" أولمرت واعتذاره للفاتيكان وعدم اعتذاره لأي من أصدقاءه العرب والمسلمين فهذا أمر واضح لا يحتاج إلى بيان فالفاتيكان يمثل الكنيسة الكاثوليكية، وهي الأقوى من بين كنائس العالم والأكثر نفوذًا ليس فقط في أوروبا وأمريكا الجنوبية ولكن في قارات أخرى مثل أفريقيا وآسيا بل وأمريكا الشمالية التي هي تعتبر موطن البروتستنتية، كما أن اعتذار أولمرت هو بمثابة رد للجميل لبابا الفاتيكان الذي تجاهل تمامًا المحرقة التي أشعلتها "إسرائيل" في غزة، بل وأصر على أن يمضي في طريقه لزيارة الأراضي المحتلة كما هو مقرر، بل وأمعن في مجاملة "إسرائيل"، وفي الإسراف في ذلك بتأكيده في تصريحات متتالية على حقيقة وقوع ما يسمى بالمحرقة اليهودية على يد الحكومة النازية إبان الحرب العالمية الثانية وأتبع القول بالفعل حيث صارع إلى تأديب عدد من أساقفة الكنيسة الكاثوليكية الكبار ممن ذهبوا إلى إنكار وقوع المحرقة بالأبعاد الضخمة والمبالغ فيها، التي تشير إليها الدعاية الصهيونية.

 

وعلى الجانب الآخر فإن عدم اعتذار أولمرت لأي من العرب أو المسلمين هو بدوره أمر واضح لأنه قد سبقته سلسلة من الأفعال وصفت بأنها إهانات لأقرب حلفاء "إسرائيل" في المنطقة، وهذا الوصف جاء على لسان أحد كبار رجال الاستخبارات "الإسرائيلية"، ولم يأت على لسان من قد يوصفون بالمعارضين لسياسات أولئك الحلفاء في التودد إلى "إسرائيل"، فإذا كانت السياسة "الإسرائيلية" تهين وتزدري حتى من يتقربون إليها، ومن يقدمون إليها التنازلات تلو التنازلات، فهي بلا شك لن تذهب أبدًا إلى تقديم اعتذارِ حول إساءة لمعتقدات ومقدسات الشعوب في تلك البلدان المتحالفة معها.