أنت هنا

عندما فازت "العدالة"
3 ربيع الثاني 1430







تتوق شعوبنا الإسلامية المهيضة إلى العدالة أو حتى إلى شيء منها، وتشتاق إلى من يحمل عنها مشاكل الاقتصاد، ومن يسوسها نظيف اليد نقي السيرة، وهي لا تكاد تصادف من يواطئ قوله عمله، أو من تراه يسعى لحفظ كرامتها بين الأمم، ولا يحملها على التبعية البغيضة التي تذيب هويتها وتقتل طموحاتها، وحينما تجد من يقترب من ذلك تمنحه مرة بعد أخرى تفويضاً بالحكم عبر صناديق شفافة.. والشعب التركي قد فعل الليلة الماضية (29 مارس) مع حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي فاز بالانتخابات البلدية وهو في السلطة بضعف أصوات المعارضة العلمانية تقريباً.

المألوف كثيراً ألا يحصل حزب حاكم بسهولة على نسبة عالية من الأصوات في انتخابات محلية ينظر فيها المواطن عادة تحت قدميه، ولا يتسامح مع أي إضرار بحاجات يومية الرئيسية أو حتى الكمالية، والمعروف أن فترتي رئاسة للحكومة في كثير من البلدان كفيلة بأن تبدد أحلام الحزب الحاكم في الحصول على نسبة مقاربة لما حصل عليه في آخر انتخابات برلمانية.. والمفارقة أن رجب طيب إردوغان ورجاله قد فعلوها.

بالطبع، هم يحاولون تصوير المشهد من زاوية التراجع المحدود في شعبية العدالة والتنمية باعتباره إخفاقاً من الحزب الحاكم في الحصول على النسبة التي حصل عليها في آخر انتخابات، وتسعى الآلة الإعلامية العلمانية لترويج فكرة ترتبط ببطء "الإصلاحات" التي يقوم بها الحزب الحاكم في تركيا، وصلتها بالتراجع النسبي له، وأن ذلك ربما عدوه تقدماً للمعارضة العلمانية، لكن الصورة في حقيقتها معاكسة تماماً لما يعتقدون؛ فالتراجع الطفيف في شعبية العدالة والتنمية إنما هو من إحدى بنيات النظام الرأسمالي الجائر.

النتائج التي أعلنت في أنقرة إنما جسدت في الحقيقة تأثراً ما بالنظام الاقتصادي العالمي الذي جرف برعونته الفقراء وخرق أسيجة العدالة والتكافل التي كان يقدمها لهم نظام عادل كالنظام الإسلامي عندما كان يحكم نصف الأرض أو قريباً من ذلك، ولم يكن أمام أي مصلح "واقعي" إلا أن يمر عبر أطر وقنوات سياسية من الممكن أن تجعله يقوم بشيء من العدالة وقدر من التنمية لدفع الضرر عن شعوب مهيضة، وهكذا فعل "العدالة والتنمية"، ولعله في الحقيقة لا يؤمن بهذه الأنماط الاقتصادية التي قهر على اتخاذها، وسار بطريق لا يؤمن بكل علاماته، ولا منعطفاته.. لكنه وفقاً لقاعدة المصلحة هكذا سار.

ومثله، أو ضمنه، من يؤمن بأن هذا النظام العالمي الاقتصادي، فضلاً عن كونه غير شرعي، لا يحقق إلا شيئاً من الإنصاف، ولكنه مضى، ويمضي خلافه في بلدان كثيرة ضمن حدود المتاح؛ فإذا ما تراجعوا قليلاً؛ فلأنهم بعدُ في دائرة الحصار.

إن الأزمة الاقتصادية العالمية التي ضربت بجرانها في عطن النظام الرأسمالي العالمي، ليس العدالة والتنمية مسؤولاً عنها، لكنها المسؤولة عنه، وعن البشرية كلها التي تسوق الجموع منها نحو حتفها. ولا يجوز تحميل المصلحين فاتورتها الباهظة، لذا كانت شعوبنا الإسلامية أذكى مما يتصورون، وكانت في تركيا تلقن الجميع درساً واضحاً.. التفويض ممنوح ـ لم يزل ـ للعدالة والتنمية، لأنه حلمها كما هو لغيرها، لكن حكومته قد ربطت ذاتها بفلك النظام الأوروبي؛ فنالت من شؤمه، واتخذت لنفسها جذراً إسلامياً عميقاً؛ فحظيت بشيء من بركته، وخلطت عملاً صالحاً وآخر سيئاً؛ فعسى الله أن يتوب عليها.. وهكذا انتصرت "العدالة" وانتصر حزب العدالة..