الأمين العام لهيئة علماء المسلمين بالعراق الدكتور حارث الضاري، آثرنا بهذا اللقاء المطول، الذي أجاب فيه عما يختلج في صدور الكثيرين من المهتمين بالشأن العراقي؛ فحدثنا عن فترات تمر بها المقاومات عموماً، تضعف أحياناً، وتقوى أحياناً، لكنها تظل حالة ملازمة للاحتلال، وتنهك قواه عبر سنواته، التي بشر بأنها ستتلوها هزيمة للأمريكيين وأعوانهم بما يشفي صدور العرب والمسلمين.
أكد لنا خلال حوار أجريناه معه على تعافي المقاومة العراقية التي خضعت لمؤامرات متعددة، من بينها الاختراق وقلة النصير وتداعي الأمم، وذكر فيه بالهم الواحد للأمة، الذي يجعل من العراق ملهمة لغزة، ثم يجعل من الأخيرة حافزاً للأول، متمنياً على العلماء المسلمين، الذين التئم بهم الجرح في اسطنبول، أن يعاودوا هذا التنادي إلى عمل مشترك بناء، يضخ الدم حاراً في الأمة، ويبلور رؤى مشتركة ـ على ما بين العلماء والجهات من اختلافات فرعية ـ تجمع الأمة حول أهدافها المشتركة، وتضعها أمام مسؤوليتها.
أوضح سماحته أنه ليس حريصاً على لقاء رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، بخلاف بعض الشائعات التي روجتها بعض أدوات الدعاية المضادة، ورهن هذا اللقاء بشروط بدت تعجيزية في الحقيقة بالنظر إلى نسفها للأسس التي قامت عليها حكومة المالكي، وتحدث عن رؤيته للخلاف مع الطائفة الشيعية في العراق، لافتاً إلى كونه لا يعدو أن يكون فتنة سياسية لا طائفية، نفخ في نارها المحتلون لاسيما بعد تفجير المرقدين بسامراء.
تحدث ـ كذلك ـ عن الشأن الكردي، وتناول توقعاته عن مرحلة ما بعد الاحتلال، وعن نظرته لمستقبل الميليشيات الطائفية، وكشف عن أن الكثيرين من أبناء الصحوات هم من المغرر بهم، وأن العملاء فيهم قلة، ولاحظ خيبة ظن شيعة العراق ـ لاسيما عشائر الجنوب العربية ـ في قيادة البلاد السياسية من قادة الأحزاب الشيعية التي قامت على يد الاحتلال، كما لاحظ أيضاً خيبة أمل الأكراد في الحزبين الحاكمين المرتبطين بالخارج، إلى جانب تفاصيل أخرى في الحوار..
وهذا نصه:
هل ترون أن المقاومة العراقية قد استفادت من أحداث غزة؟
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، لقد استفاد الجميع ـ وليست المقاومة العراقية فقط ـ بثبات وصمود أهل غزة ومقاومتهم، وصمود غزة أمام العدوان الصهيوني المجرم كان في وقت نحن بحاجة إليه، وكذلك الأمة كلها لرفع معنوياتها، وللقضاء على بعض الأشياء الذي أحدثتها بعض الأحزاب في العراق وخارج العراق، ولهذا أستطيع أن أقول: إن أحداث غزة وما نجم عنها من ثبات وصمود بطولي وأسطوري قد أفاد الأمة كلها، ورفع معنوياتها، وجدد ثقتها بنصرها على أعدائها بعون الله تعالى.
تبلور خلال مؤتمر "غزة النصر" باسطنبول ومن قبل، أثناء أحداث غزة، ارتفاع صوت للعلماء أعلى من ذي قبل، هل تتوقعون أن يوازي ذلك تحرك آخر للعلماء في اتجاه غزة وفي اتجاه العراق؟
لعل هذا التجمع العلمائي في اسطنبول الفكري الذي ضم المئات من علماء الأمة ومثقفيها ومفكريها، يكون البداية لجمع كلمة علماء الأمة على كلمة سواء، لنصرة قضاياها العادلة وأتمنى أن يكون هذا الاجتماع بداية لتنسيق عملي بين هؤلاء العلماء وأن يتجاوزوا كل ما بينهم من حساسيات فكرية أو سياسية وأن يضعوا مصلحة الأمة في المرتبة الأولى، ومصالحهم الفكرية والفئوية في المرتبة الثانية أو الثالثة، نحن لا نعترض على من يتجه اتجاهًا في الفكر يناسبه أو يناسب تربيته أو حاله النفسية، ولكن نعترض على أن يكون هذا الفكر حائلاً بينه وبين أخيه المسلم في المواصلة وفي الاجتماع وفي إبداء الرأي واتخاذ الموقف الواحد في القضايا الهامة والمصيرية، نرجو أن لا يكون هذا الاجتماع هو الأول والأخير، بل نرجو أن يكون هذا الاجتماع الأول الذي تتلوه اجتماعات مماثلة للتشاور ولاتخاذ المواقف ولإعداد المناهج الموحدة التي تجمع بين كلمة العلماء وتهذب خطابهم المتفاوت الذي رأيته في هذا المؤتمر في النظر إلى القضايا ونوفق بين الثوابت والمصالح، بين الواقع وبين النظر، حتى نخرج بمواقف موحدة فعلينا ان نقبل الرأي والرأي الآخر، وأن نصحح الأفكار الخاطئة وننمي الأفكار الصائبة، والمفيدة.
البعض قد رأى أن التفاعل مع غزة كان أكبر بكثير من التفاعل مع القضية العراقية، مع أن العراقيين ضحاياهم أكثر ومشكلتهم أعمق، ربما لسبب أن قضية فلسطين قضية مركزية، لكن إلام تعزون هذا الوضع؟
نحن لا نستكثر هذا الموقف لغزة، غزة تحتاج لهذا وأكثر، لأن غزة جزء من أرض فلسطين التي هي أرض القدس والمقدسات، ولكن نقول ينبغي أيضًا أن نعنى بالعراق، وأن العراق جزء هام من الأمة، وأن العراق بتأريخ ماض وفاعل في الحضارة الإسلامية، وفي الدعوة الإسلامية وحمى الأمة على ما يقرب من خمسة قرون أو يزيد عن خمسة قرون لأنه كان بلد الخلافة الثانية للأمة الإسلامية، وأن العراق وقف مع قضايا الأمة كلها، فلذلك، وإن كانت البداية (للغزو الأمريكي للعراق أن) وقفت الشعوب العربية مع العراق، لكن هذا الوقوف انحسر، وأرجو أن لا ينحسر هذا الوقوف أيضًا في غزة، بعد انتصارها، وأن تتراجع المشاعر والمواقف، نحن نريد المزيد من المواقف لغزة، ونريد أيضًا المواقف للعراق، لأننا نرى أن العراق وغزة هما وجهان لعملة واحدة هي الأمة العربية والأمة الإسلامية وأن احتلال العراق كان هو بسبب غزة وبسبب فلسطين، وأن العدو المباشر في غزة هو الاحتلال الصهيوني وأن الاحتلال الصهيوني هو عدو غير مباشر (للعراق)، لأنه هو المحرك للاحتلال الأمريكي لغزو العراق، وهو المساند، والمخابرات "الإسرائيلية"، والموساد "الإسرائيلي" بالذات موجود بالعراق بسبب احتلال العراق.
إذن العدو واحد، والاستهداف واحد، لذلك نرجو من الأمة العربية والإسلامية أن تنظر إلى العراق نظرة إيجابية وأن تقف منه موقفًا إيجابيًا قبل أن يفوت الأوان وقبل أن يتحرر العراق، لأن العراق سيتحرر وبعون الله لأن له إله سينصره، ولأن له شعبًا عنيدًا، وشعبًا مصممًا على تحريره إلى النهاية، لكن هذه المواقف السلبية من إخواننا العرب والمسلمين لها أثر في نفوس العراقيين، وفي ذاكرتهم وأصارح الجميع بأن هذا الأثر سلبي وسيء للأسف الشديد، وليعلم الجميع ـ وأنا قلتها في البداية ـ أنه إذا أكل العراق ستؤكل الأمة شعبًا بعد شعب، وبلدًا بعد بلد، ولكن الآن دفع عنها الخطر، وزال عنها الشر الأمة، بفضل صمود العراقيين، وبفضل جدهم وجهادهم، فالعراقيون قدموا للمعركة إلى الآن ما يزيد عن المليون وربع مليون شهيد، العراقيون أوقعوا في الاحتلال خسائر لم تقع به ربما حتى في حربه في فيتنام ولا في حروبه فيما بعد ذلك، وستظهر الأيام مدى خسائر هذا العدو في المجال العسكري وفي المجال الاقتصادي وفي المجال السياسي، الذي تراجع فيها العدو في كل هذه المجالات، وهذا بشهادة الكثير من المراقبين الخارجيين، ومنهم أمريكان، كلهم أقروا على أن ما تشهده اليوم أمريكا من تراجع سياسي، وتراجع اقتصادي، بل وحتى تراجع عسكري، هو من خلال ما عاناه الاحتلال، ومن خلال ما لحق بالاحتلال في العراق من خسائر وهزائم عسكرية ومادية.
نعم، البعض يعيد عدم التفاعل الشعبي العربي القوي، لضبابية المشهد المقاوم لديهم، وعدم وضوح الصورة، حين يجدون الفصائل مختلفة، وعدم وجود غطاء سياسي واضح ربما لبعض الفصائل، أو خطاب إعلامي قوي؟
للأسف هذا عذر للمعتذرين، وإلا فإن المقاومة أو الجهاد ـ حسبما يرى البعض وهو الحق ـ معروفة، هناك نعم فئات دخلت العراق، ولها أجندات، وهناك فئات سخرها الاحتلال لإثارة الشبهات، هناك إعلام معادٍ، وإعلام موالٍ للاحتلال، وإعلام منافس وإعلام مأجور، ساهم في كل هذا، ولكن إخواننا الإسلاميين وإخواننا العروبيين الذين يهمهم شأن العراق هم يعرفون الأوضاع كما هي، (يعرفون) هذه الخسائر الفادحة للاحتلال، وهذه الخسائر التي وضعت الاحتلال الأمريكي في الوحل العراقي كما يقول البعض أو حصرته في الزاوية الضيقة كما يقول البعض، وهذه المقاومة أو هذا الجهاد المتفاعل الذي أسلفنا عن مدى خسائره للاحتلال. هذا ليس خافيًا على الكثير من أبناء أمتنا، ولكن للأسف الشديد الأنظمة ربما لا تستطيع التدخل لظروف الضغط الأمريكي القوي عليها.
ونأتي (بالحديث) للشعوب التي كان ينبغي أن تكون أكثر قربًا من العراق، ومن المقاومة العراقية، ولها قيادات معروفة، ولها جهات سياسية تنطق باسمها معروفة، ولكن للأسف تفشت في صفوفنا الشعبية العربية والإسلامية الحزبية والفكرية الضيقة التي جعلت كل فئة من المسلمين في الخارج ينظر من خلال الفئة التي تتفق معه في المشرب ويهمل الآخرين، ولم يعلموا أن غالبية الشعب العراقي ليسوا مؤدلجين بالأفكار الإسلامية السائدة، وليسوا هم حزبيون مثل غيرهم، وليسوا هم فئويون، كأن يكونوا سلفيين أو إخوانيين أو متصوفة أو تبليغيين أو تحريريين أو ما إلى ذلك، هذه العناوين للأسف جعلت إخواننا في الدول العربية المهتمين بالقضايا الإسلامية، ينظرون إلى هذه القضايا هذه النظرة الضيقة ولا أن ينظروا إليها على أنها قضية شعب ولا أنها قضية أمة في النهاية.
نعم، وهل تتعاطف الشعوب مع من ينتصر أو يرتفع صوته أكثر، وبالتالي لا تتشجع للتعاطف أكثر مع الفصائل عند حالة انكسار؟
أنا أعتقد أن المقاومة في العراق لم تنكسر، المقاومات في كل العالم شأنها شأن الإنسان لأنها حالة إنسانية، والإنسان يمر بالضعف وبالقوة، بالشباب وبالكهولة والشيخوخة، فالمقاومة بدأت بسيطة ثم اشتدت ثم ضعفت نتيجة التآمر ونتيجة الهجران التي هجرها فيه إخوانها.
أنت تعلم أن المقاومة العراقية محاصرة من دول الجوار كلها، ومنسية من إخوانها العرب والمسلمين، وأنها كما سماها البعض بأنها المقاومة اليتيمة الوحيدة من بين حركات التحرر أو حركات الجهاد في العالم، وهي بالمناسبة واجهت وتواجه أقوى قوة في العالم، يضاف إليها الكثير من الأعداء الآخرين المساعدين للاحتلال خدمة له أو خدمة لمصالحه؛ فإخوانكم في العراق واجهوا خمس أو ست جهات معادية تهدم في بنيانهم، وتعارض مقاومتهم، ولكن المقاومة صمدت، ونعم تعرضت في بعض السنين الماضية، ولاسيما في أواخر سنة 2007 وبداية سنة 2008 إلى تآمر خطير وإلى اختراقات في صفوفها معروفة لا نريد أن نذكرها، ولكن المقاومة تجاوزت ذلك، وتماثلت اليوم والحمد لله من الشفاء، وهي مستمرة، وتوقع في أعدائها خسائر يومية وخسائر كبيرة والحمد لله، ولكن الكثير منها لم يعلن نظرًا للظروف الأمنية ونظرًا للتضييق الإعلامي والتكتيم الإعلامي عليها.
تحدثتم عن خسائر كثيرة أو شهداء كثيرين في العراق بالملايين والجرحى والمفجرين وما إلى ذلك، وتعزون ذلك إلى الاحتلال بينما يعتقد البعض أن زوال الاحتلال سيبقي الميليشيات الطائفية التي يمكنها أن تعاود ذلك باعتبار أن هؤلاء لم يقتلوا بيد أمريكية مباشرة؟
هذه الميليشيات التي عاثت في أرض العراق فسادًا وتسببت في الفتنة الطائفية، وأنا أسميها الفتنة السياسية، وليست الطائفية، ولكن الإعلام سماها الطائفية، فلم تكن في العراق طائفية بالمعني المعروف، لم يتقاتل السنة والشيعة مثلا مذهبيًا، وإنما هناك فتنة سياسية قامت بها بعض الفئات السياسية يدعمها في ذلك الاحتلال، استغل الكثير من البسطاء والسذج واستخدمت فيها الغطاء الطائفي السياسي لتحقيق مصالح الاحتلال، ومصالح هذه الفئات السياسية الحاكمة لأن الاحتلال كان يدفع لهذه الفتنة التي حدثت ولاسيما بعد هدم المرقدين في سامراء، كان الاحتلال يدفع بهذه الفتنة إلى أن تكون حربًا أهلية واسعة تشغل العراقيين عنه لينفذ أهدافه، وخططه في العراق، وأيضًا المتعاونين معه كانوا يهدفون منها إلى الحرب الأهلية، وتقسيم العراق لتحقيق مخططاتهم ومخططات أسيادهم وحلفائهم في الخارج، هذه الفتنة تراجعت اليوم، والعراقيون اليوم بأفضل حالاتهم الاجتماعية من حيث التسامح ومن حيث التوادد بعد أن اكتشفوا أن الاحتلال ومن جاء بهم الاحتلال لا يريدون خيرهم، ولا يريدون خير العراق، وإنما جاءوا لإحداث الفتنة فيما بينهم لتقسيم العراق وتقسيم الشعب العراقي الذي لا يمكنه أن يقسم لأن تركيبة الشعب العراقي الجغرافية والديموغرافية والاجتماعية والمصاهراتية كانت أقوى من الاحتلال، وأقوى من عملائه ولن تفلح في كل محاولاتها، والموضوع الطائفي الذي افتعلوه تراجع وتراجع إلى الأبد والحمد لله.
إذا رحل الاحتلال هل سترحل معه الميليشيات؟
إذا رحل الاحتلال سيرحل معه العملاء، ولن يبقى إلا من لم تتلطخ يداه بدماء العراقيين، وهذا مرحب به، وسيعفو عنه العراقيون، لأن شعار العراقيين عمومًا سيكون بعد الاحتلال "عفا الله عما سلف" نحن إخوة كما كنا، وسنعود إخوة وإلى الأبد بعون الله تعالى، ومن يعارض ذلك فإنه سيواجه غضبة الشعب وجماهير العراقيين المحرومين الذين أضيروا وأوذوا في عهد الاحتلال وعهد حلفائه وعملائه.
لكن هذه الميليشيات تمثل أجنحة عسكرية لأحزاب طائفية مازالت تحكم العراق اليوم، هل يتوقع أن تتغير الخريطة السياسية بعد زوال الاحتلال؟
أعتقد أنه إذا رحل الاحتلال فهذه لم تصمد أمام رغبة الشعب في التغيير، وأمام رغبة الشعب في الإقناع، لأن وجود هذه الفئات أو هذه المجاميع هي بوجود الاحتلال، ولا أدل على ذلك من انتباه شعبنا لهذه الفئات في الانتخابات الأخيرة؛ حيث تراجعت هذه الفئات، وخسرت الكثير من مواقعها التي عملت من أجل تثبيتها على مدى السنوات الماضية من سنين الاحتلال.
هذه التجمعات وهذه المجاميع لأنها مجاميع مصلحية، ولأنها مجاميع عميلة، ولأنها مجاميع لا تعمل بإيمان وإنما بالمصلحة الشخصية والذاتية والحزبية، فأعتقد أنها ليس لها القدرة أمام إرادة جماهير شعبنا التواقة إلى الحرية والوحدة والاستقلال والعيش الآمن والمستقر.
البعض اعتقد أن الميليشيات لم تنكسر، وإنما انخرطت في المؤسسات الرسمية، وأن مشكلتها بعد أصبحت مشكلة مزمنة لا يمكن حلها؟
هي مشكلة، هي ميليشيات مفتعلة، كانت مأجورة، وهذه الميليشيات لما أدت شيئًا من دورها وأراد الاحتلال أن يوقفها عند حدها ويترك الحكم له ولمن جاء بهم ومخابراتهم، أدخلوهم في قوات الاحتلال، وهم مجاميع لا تجمعهم إلا المصلحة، لا تجمعهم عقيدة، ولا تجمعهم رؤية صحيحة للمستقبل وهم قد أثروا على حساب الشعب العراقي وبنوا في العراق وخارج العراق، وأودعوا الكثير من الأموال، فأعتقد أنهم لا يضحون بها من أجل أن يحكم فلان أو أن يسيطر فلان.
يعني أنهم أصبحوا واقعًا في المؤسسات، في مؤسسات الجيش، فهل ستتغير تركيبة هذه الأجهزة بعد الاحتلال؟
إذا بقوا في العراق، وأرادوا أن يعيشوا مع إخوانهم العراقيين، وأن يكفروا عما مضى، وأن يقلبوا صفحات جديدة للتعايش مع إخوانهم، فمرحب بهم، وإلا فليذهبوا مع أسيادهم، وإذا اختاروا الطريق الثاني، الطريق الأصعب، طريق العناد، فإنهم سيضعون أنفسهم أمام غضب الجماهير وغضب الشعب العراقي بكل أطيافه، بكل تكويناته، بكل فئات مذاهبه وأديانه وطوائفه.
هل ترون أن الطائفة الشيعية قد خاب ظنها بقياداتها الطائفية؟
بالتأكيد، وخاب ظنها ليس اليوم، ولكن منذ ثلاث سنوات كانت قريبة، فحينما رأت أن هذه القيادات التي ادعت نصرتها وادعت إخراجها مما كانت فيه من ظلم وعسف مزعوم أو مبالغ فيه في عهد النظام السابق تنكرت لها واهتمت بشؤونها الخاصة وبشؤون أحزابها وأسيادها الذين جاءوا بها من هنا وهناك لهذا خاب ظنها، وهي اليوم في أكثريتها الغالبة، ثمانون بالمائة، إخواننا الشيعة في العراق في جنوبه ووسطه، وهم اليوم ليسوا مع هذه الأحزاب، وليسوا مع هذه المشاريع التي طرحتها هذه الأحزاب، ليسوا مع الفيدرالية، ولا مع التقسيم، ولا مع الدستور المقسم للعراق والمشرذم لأبنائه.
لكن هل الشخصيات الإسلامية والوطنية أمثالكم تعول على شخصيات أخرى موازية في الطائفة الشيعية يتوقع أن يصوت لها أو تتزعم المشهد الشيعي في العراق في مرحلة ما بعد الاحتلال؟
بالتأكيد، هناك زعامات شيعية من البداية هي في الصف الوطني ومعنا، ووقفت في وجه الفتنة الطائفية أمثال الشيخ الخالصي والشيخ الحسن البغدادي والشيخ الحسن الصرفي، وأمثالهم، هذا على مستوى العلماء إنما على مستوى العشائر فأغلب عشائر العراق في الجنوب والوسط من إخواننا الشيعة هي معنا وهي مؤيدة لمشروعنا، المشروع الوطني العراقي الذي يجمع كل العراقيين، فهم الآن على استعداد لأن يشاركوا في بناء العراق وفي قيادة العراق في المستقبل بعد رحيل الاحتلال بعون الله تعالى.
تعرضتم لانتقادات مع هيئة علماء المسلمين بسبب كون الهيئة قد رفضت منذ البداية الانخراط في العملية السياسية، وإذا كان الآخرون من السنة الذين شاركوا قد أصيبوا بخيبة أمل مع ممارستهم السياسية في ظل الاحتلال، إلا أن الناتج في النهاية قد أدى إلى أن يكون الموقف السني ليس موحدًا في التعامل السياسي، فيما كانت الطوائف الأخرى سواء إن كانت قومية كردية أو الطائفة الشيعية الدينية كانت لهم مواقف موحدة إن اختلفوا جزئيًا لكن اتفقوا على المشاركة، فهل ذلك سبب في أن يتراجع حظ السنة كثيرًا في العالم السياسي العراقي؟
نحن عارضنا العملية السياسية لأنها بنيت على الطائفية وعلى الإقصاء من الأيام الأولى، وهذا شيء معلن ومعروف من مواقفنا من البداية، عارضنا دخول العملية السياسية لأن من دخلوا من السنة في العملية السياسية وافقوا على العملية السياسية وعلى ما احتوته على مناهج مقسمة ومقصية لكثير من الفئات العراقية، وعلى الأقلية السنية التي وافق عليها المشاركون في الحكومة، عارضنا العملية السياسية لأن الدخول فيها هو تشريع لها وبالتالي هو تشريع للباطل الذي بني على غير حق من حيث تقسيم العراق إلى طوائف وقوميات وبالتالي، كانت العملية فيه عملية المحاصصة الطائفية والعرقية، ثم إن دخول هؤلاء من دخل كان هو تشريع للعملية السياسية فقط وليس لهم في القرار السياسي شيء فنسبتهم أشبه بعشرين بالمائة فقط، فهذه النسبة لا تؤهلهم لأن يقترحوا مشروعًا يفيدهم ويفيد أتباعهم، ولا يستطيعون أن يردوا مشروعًا مقصيًا لهم أو ضارًا بهم؛ إذن دخولهم في العملية السياسية ما هو إلا تشريع للعملية السياسية حتى يقال كما قال بوش حينما وافق الحزب الإسلامي على الدستور، قال نحن اليوم سعداء وفرحون جدًا لأن العراقيين جميعًا وافقوا على الدستور من شيعة وسنة وأكراد، فلو لم يوافق إخواننا في الحزب الإسلامي على الدستور لما مرر الدستور المجحف، نحن حذرنا من هذا منذ البداية.
أما السنة فهم بخير، حيكت ضدهم مؤامرات، ومؤامرات من القريب والبعيد من أعدائهم وممن ينسبون إليهم، ولكنهم اليوم بخير، ثبتوا لأن البعض كان يظن أن السنة في العراق أقلية، ولم يعلموا أنهم (أي غيرهم) هم الأقلية، وبعضهم أراد أن يساير الوضع العام ولا يعارض التيار فوافق على هذه الأقلية، وأيا ما كان نحن لا نتكلم في الأقلية والأكثرية لأننا نعتقد أن الكلام في الأقلية والأكثرية هو كلام طائفي وكلام مقسم، ولذلك ترانا في سياستنا في الهيئة لا نعرض لهذا الموضوع إلا إذا أحرجنا وفي مواقف محدودة.
أهل السنة بخير، وكل أمة تتعرض لفتنة، أهل غزة اليوم تعرضوا للفتنة لأنهم سنة أم أنهم شيعة؟، تعرضوا لأنهم أصحاب حق يطالبون به، (والاحتلال) هو مغتصب الحق ظالم جبار، فلا يريد الاعتراف بهذا الحق فضلاً عن أن يعطيه له، ولذلك أقول إن مستقبل أهل السنة، ومستقبل العراقيين جميعًا هو في وحدة العراق، وأن شر السنة، وشر غيرهم، هو في تقسيم العراق، لأنه إذا قسم العراق، فإنه سيتقسم هذا الشعب وبالتالي ستكون كل أقسامه ضعيفة، وكل أقسامه مهيمن عليها، ومستغلة من هذا الطرف الإقليمي أو ذاك الطرف الدولي.
ميدانيًا، هل تتحرك هيئة علماء المسلمين الآن في العراق بحرية؟
لا، لا تتحرك بحرية، ولذلك ترى أن بعض رموزها هم خارج البلد، وإن كان خروج بعض من خرج منهم، وأكثرهم والحمد لله اليوم في الداخل، ويزاولون نشاطهم المعروف ولكن بكل حذر، وبشيء من السرية لتأمين العمل المطلوب في هذه المرحلة هناك. أما من خرجوا فهم بحمد الله يؤدون واجبهم السياسي والإعلامي والفكري لقضيتنا في الداخل.
تعرضتم لانتقادات عنيفة من الإعلام الطائفي ومن المواقع الطائفية بسبب عدم تجاوبكم مع رغبات المالكي في التقارب أو في اللقاء كما قيل في الإعلام؟
طبعًا نحن أصحاب تجربة مع المالكي ومع زملائه في العملية السياسية أنهم لا يريدون التقارب الحقيقي؛ لأن طرق التقارب الحقيقي وسبله معروفه، و(هم) يعرفون مقدمًا ماذا نريد، وماذا يريد الشعب العراقي بغالبيته العظمى، فهم يريدون التقارب الذي يخدمهم ويخدم مصالحهم، واستمرارهم في السلطة ولو على رؤوس أبناء جلدتهم.
لقد اجتمعنا مع المالكي وزملائه في مؤتمرين في القاهرة في سنتي 2005 و 2006، واتفقنا على أمور لو هداهم الله تعالى وأخذوا بها لكانت أساسًا جيدًا لمصالحة وطنية حقيقية، ربما كانت قد غيرت الأوضاع عما هي عليه الآن، لكنهم بعد لقاءاتنا وتوقيعنا على هذه الاتفاقات تنكروا لها بعد عودتهم للعراق، وكأنهم جاءوا ليقولوا للدول العربية نحن حريصون على المصالحة الوطنية وها نحن حضرنا، وللحق للمرة الأولى ما كانوا راضين للمجيء، ولكن أكرهوا على المجيء إلى جامعة الدول العربية، لأنهم لا يريدون اللقاء بالدول العربية، ولا يريدون أي علاقة بالدول العربية، ولكن بعد ذلك حينما ضعفوا، وحينما اشتد ساعد المقاومة وأوقعت بهم وضعفت قبضتهم على العراق، وساورهم الخوف من النتائج النهائية بدأوا يتوددون إلى بعض الدول العربية، ويظهرون لها الرغبة في المصالحة الوطنية، ولكنهم لم يجدوا فيها، بل كانت هذه واجهة، وهم كاذبون، ولهذا أقول: المالكي يكذّبُنا، وله مبرر في أن يكذبنا؛ لأنه قد يستحي من شركائه؛ لأنه قد مد يد الحوار، أو أنه أراد أن يتحاور مع من أصدر من قبل عليه مذكرة إلقاء القبض (عليه)، أو أنه يخاف من أسياده ولذلك، نفى ونفى، ولكن الحقائق ثابتة ومثبته لدينا، ونحن لسنا حريصين على لقاء المالكي إلا إذا أنهى الاتفاقية التي وقعها، اتفاقية الذل والعار وإلا إذا طالب الاحتلال بجلاء سريع، وإلا إذا أطلق الموقوفين، والسجناء عنده، الذين بلغوا مئات الآلاف إلى اليوم في سجونه المعروفة وفي سجونه السرية، وإلا إذا أعاد المهاجرين والمهجرين إلى العراق، ووفر لهم الأمن الغذائي والأمن على حياتهم ووجودهم، وإلا إذا غير الدستور عندئذ نرحب بكل من يفعل هذا بجدية سواء كان المالكي أو غيره، نحن لا نضمر عداء للمالكي لذاته، وإنما نحن مخاصمون للمالكي سياسيًا لأفعاله، وبالتالي فالمالكي وإن تظاهر اليوم ببعض المواقف التي قد تداعب مشاعر المعارضين للاحتلال، كقوله بإعادة النظر في الدستور أو بدفاعه عن الأراضي العربية التي يريد السياسيون الأكراد الضالعون في مشروع الاحتلال السيطرة عليها.
أقول هذه المواقف لا يمكن أن تغير رأينا في المالكي؛ فالمالكي يسعى إلى حكم ويسعى إلى أن يبقى هو الحاكم في العراق، لذلك نحن نعارض المالكي لمواقفه السياسية، نعارض المالكي لتبعيته للغير، لتبعيته لأمريكا، ولتبعيته الواضحة لإيران، بل لتحكم أمريكا وإيران من خلاله ومن خلال زملائه الآخرين المشاركين له في العملية السياسية.
فرقتم في نظرتكم للصحوات بين من هم يقاتلون دفاعًا عن أنفسهم، وبين من هم عملاء، فلمن كانت الغلبة؟ من هم الغالبية في الصحوات؟
الغالبية للمغررين، ولمن كانوا يدافعون عن أنفسهم خشية للأذى من القاعدة أو غيرها من الفئات الأخرى، أما العملاء، فهم أقلية لكن الجميع عملهم كان في صالح الاحتلال، وأفاد الاحتلال وأفاد الحكومة وعلى أي حال فمن تراجع منهم ومن تاب منهم فهو مرحب به وهو مقبول لدى الشعب العراقي، ومن بقى على عناده وعمالته وتعاونه مع الاحتلال فهو مرفوض من قبل الشعب العراقي وهو معروف بشخصه ومعروف بمواقفه ومعروف بمدى صلته بالاحتلال وبالجهات الأخرى التي لا تريد خيرًا للعراق.
عودة إلى السؤال الخاص بعمل هيئة علماء المسلمين وحريتها أو عدم حريتها في العراق، هل ذلك ينطبق أيضًا على كردستان؟
طبعًا كردستان من البداية لم تكن علاقاتنا بالحزبين المسيطرين عليها جيدة، وازدادت سوءا مع الأيام؛ لأن مواقف الحزبين كانت سيئة؛ فالحزبان كانا سببًا رئيسًا في احتلال العراق، الحزبان تعاونا مع الاحتلال في كل شيء، الحزبان يخضعان لتقسيم العراق، وكانا وراء الدستور وكانا وراء الاتفاقية الأخيرة، الحزبان طامعان في ضم الكثير من الأراضي العربية في العراق التي أغلبيتها من العرب وغيرهم إلى إقليمهم لأنهم اتفقوا في الخارج مع القيادات الحزبية الشيعية على تقسيم العراق إلى ثلاثة أقسام، فيهيمن المتحالفان: الأحزاب الشيعية والأحزاب الكردية السياسية، على ثمانين بالمائة من العراق ويترك جزءاً بسيطاً من العراق، وهو محافظة الأنبار لأهل السنة، فلذلك الأكراد كانوا بالنسبة لنا طرفًا رئيسًا في كل المصائب التي جرت على العراق وعلى شعبة، الأكراد طبعا السياسيون الحزبان الكرديان وليس شارع أو الشعب الكردي، فالشعب الكردي اليوم بالعكس متعاطف معنا، الكثير منهم لا يريد الانفصال من العراق، بل الكثير منهم لا يريدون حتى الفيدرالية بعدما رأوا من سياسات الحزبين الكرديين وخلافتهما بالخارج وعمالتهما للخارج واهتمامهما بشؤونهما الخاصة وبشؤون أحزابهما ومنسوبيهما ومحسوبيهما؛ فذلك في الطرف الثاني يقال مثل هذا القول، الشارع الشيعي الحمد لله كله مع العراق ومعنا لأننا منذ البداية مع العراق صوتنا هو صوت العراق، لم نتحيز، لم نتحزب لفئة ولا لطائفة وإنما تحيزنا وتحزبنا للعراق من البداية إلى النهاية؛ لأننا نرى أن مصلحة أبناء العراق كلهم في تحرير العراق، وفي وحدة العراق، فسعادتهم وعزهم وسيادتهم مرتهنة بحرية العراق ووحدة العراق سنة وشيعة، عربًا وأكرادًا تركمانا، مسيحيين ومسلمين.
كنت أسأل عن كردستان من ناحية حرية العمل الدعوي والاجتماعي الذي تمارسونه، فهل يتم ذلك؟
ليس لنا في كردستان لا عمل دعوي ولا عمل تربوي ولا حتى وجود، كما قلت لك السلطات الحاكمة في كردستان معادية لنا بل وتتآمر علينا وتحرض ضدنا لن تكتفي بتحريض الاحتلال علينا وإنما حرضت بعض أبناء جلدتنا علينا، ولا زالت تمارس هذا الدور، لأننا وقفنا أمام أطماعها وأمام أجندتها التقسيمية في البلاد.
هل قربت الأزمة العراقية الشعب العراقي من دينه وإسلامه؟
نعم كثير من أطياف الشعب العراقي وفئاته هي قريبة من دينها وإسلامها، وازدادت قوة بعد أن رأت من الأعداء وتكالبهم ضد الدين وضد القيم وضد الأخلاق، هناك فئات سياسية اليوم أخذت تلوح برغبتها في وجود حكومة علمانية في العراق، كنتيجة لسوء أداء وتصرفات الأحزاب الإسلامية أو التي تدعي الإسلام، التي تمالأت مع الاحتلال وسارت في مشروعه واهتمت بمصالحها الخاصة ومصالح الاحتلال على حساب مصالح شعبها، تجد اليوم بعض الأصوات تنادي بتغيير الحكم من حكم إسلامي إلى حكم علماني، وكأن الحكم في العراق هو حكم إسلامي!!، فهو ليس حكمًا إسلاميًا ولا علمانيا ولا ديمقراطيًا إنما هو حكم احتلالي استبدادي مبني على القوة وعلى المصالح، لا يسير على نظام، ولا يسير على دستور، حتى الدستور هذا الذي نعارضه لم يسيروا عليه كثير من الأحزاب إذا تعارض مع بعض مصالحهم، فالحكم في العراق اليوم يسير على رغبة الاحتلال وعلى توجيه الاحتلال وبناء على الرغبات لمن ينفذون مشروع الاحتلال في العراق.
كنت بدأت في الحديث عن غزة شعبيًا، وأنهي بغزة رسميًا على المستوى الإقليمي والمحلي والدولي، قيل إن ما بعد غزة يغاير ما كان قبلها، تماماً مثل أحداث سبتمبر، وأن العالم ستغيره غزة على المستوى الرسمي والدولي والشعبي؟
نتمنى هذا، نحن قلنا على مستوى المقاومة العراقية وما أحدثته في صفوف الأعداء من خسائر وهزائم أجبرت بعضهم إلى أن يقول كنا في سنة 2006 على وشك الهزيمة والانسحاب، وأكد ذلك بوش في بداية السنة الماضية 2008 بقوله: كنا نروج لمزاعم النصر في العراق خشية أن تستولي الهزيمة على نفوس أبناء شعبنا في أمريكا، هذه الهزائم وهذه الانتصارات رفعت المعنويات ولكنها للأسف لم تسهم في أن تلمع هذه المعنويات فتصل إلى غزة وترتفع أو تزداد أيضًا لنصر غزة، أتمنى أن يكون نصر غزة عاملاً من عوامل استمرار رفع المعنويات والآمال في أن تكون هناك انتصارات أخرى لاحقة في فلسطين وفي العراق وفي أفغانستان وفي كل مكان يرفع إن شاء الله معنويات هذه الأمة، ويؤكد لها أنها بخير، وأنها قوية ماديًا واقتصاديًا وبشريًا، وما عليها إلا أن تستغل هذه الطاقات في خدمة نفسها، وفي إيجاد مشروع خاص بها يواجه المشاريع الأخرى المستهدفة له.
شكرا لكم
الشكر لله، بارك الله فيك.