من الأمور المتفق عليها بين العقلاء من كل الأمم والملل، أن في الاجتماع قوة ومنعة، وأن في التفرق ضعفاً وذهاب شأن، ومن القصص المشهورة في هذا المقام ما ينقل عن جنكيز خان أنه (لما احتضر أوصى أولاده بالاتفاق وعدم الافتراق، وضرب لهم في ذلك الأمثال، وأحضر بين يديه نشاباً وأخذ سهماً أعطاه لواحد منهم فكسره، ثم أحضر حزمة ودفعها إليهم مجموعة فلم يطيقوا كسرها، فقال: هذا مثلكم إذا اجتمعتم واتفقتم، وذلك مثلكم إذا انفردتم واختلفتم)(1)، وهذا الذي اتفق عليه العقلاء قد دل عليه شرع الله المطهر مَن تدبر كتاب الله وسنة نبيه عليه السلام، فمن ذلك قوله تعالى آمراً بالاجتماع وناهياً عن الاختلاف والتفرق: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]، قال ابن كثير: (فما أمرهم الله تعالى به ائتمروا، وما نهاهم عنه انزجروا، ولا يتنازعوا فيما بينهم أيضاً فيختلفوا فيكون سبباً لتخاذلهم وفشلهم)(2)، وقال السعدي رحمه الله: ({وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي: تنحل عزائمكم، وتفرق قوتكم، ويرفع ما وعدتم به من النصر على طاعة اللّه ورسوله)(3)، ومما يدل على ذلك أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الجماعة رحمة والفرقة عذاب"(4). وقد ضرب الله عز وجل مثالاً لذلك من واقع المسلمين فقال مبيناً لهم سبب ما أصابهم يوم أحد حين انقلب النصر في أول المعركة إلى هزيمة: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 152]، وجواب حتى: أي لما حصل ذلك منكم امتحنتم وأصابكم ما أصابكم من القتل وغيره(5). فإذا حصل هذا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرهم، وهم من هم في الفضل والمكانة، فكيف بمن هم دونهم في الفضل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
إن من شؤم الاختلاف -إضافة لما سبق- أن أثره قد لا ينحصر في أطرافه بل ربما تعداها إلى مدى بعيد لا يخطر ببال، ففي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وقال: "يا أيها الناس، إنها كانت أُبينت لي ليلة القدر، وإني خرجت لأخبركم بها فجاء رجلان يحتقَّان -معهما الشيطان- فنسيتها"(6)، قال النووي رحمه الله: (وفيه أن المخاصمة والمنازعة مذمومة وأنها سبب للعقوبة المعنوية)(7)، فانظر رحمك الله كيف أثر خلاف هذين الرجلين وتنازعهما على الأمة كلها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فكيف لو كان الخلاف بين قبيلتين أو جماعتين أو دولتين!
إذا تقرر ما سبق فمن العجيب أن نسمع اليوم كثيراً من الدعوات التي تفرق ولا توحد، وتضعف ولا تقوي، فبعد أن كانت الدعوة للقومية العربية بدل الرابطة الإسلامية، صارت الدعوة للقطرية والوطنية، ثم قامت داخل البلد الواحد دعوات لتجمعات مناطقية ثم قبلية وعشائرية، وهي دعوات قال عن مثلها النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوها فإنها منتنة"(8)، ومن أصغى لبعض ما يقال من أصحاب هذه الدعوات سمع كلاماً مريباً مخيفاً يزرع البغض والكراهية والتنافس بالحسب والنسب والحط على الآخرين، وقد نهى الله عز وجل عن ذلك كله فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]، ومن تدبر قوله تعالى: {ولا تلمزوا أنفسكم} ظهر له معنى بديع، إذ اللمز هو الطعن بالقول، فكيف يلمز المرء نفسه؟ والجواب أن المقصود هو نهي المؤمنين عن أن يلمز بعضهم بعضاً، فكأنه استعيض عن ذلك بهذا التعبير لأن من لمز أخاه فكأنما لمز نفسه، لما في ذلك من بث روح العداوة وإضعاف الجماعة، وبالتالي إضعاف كل فرد فيها.
إذا كان الأمر كذلك فلابد للأمة من الاجتماع على العقيدة والتوحيد، لأنه العامل الوحيد القادر على تجميع الأمة؛ لقد جربت الأمة الاجتماع على العروبة حيناً من الدهر فلم تجن شيئاً، وهاهي جامعة الدول العربية بعد مرور أكثر من ستين عاماً تعجز عن تحقيق الحد الأدنى من التوافق -الحقيقي لا الصوري- بين أعضائها، والحرب الأخيرة على غزة خير شاهد على ذلك.
إننا عندما نذكر بهذه النتيجة من انحرفت به قدمه عن سواء السبيل، فليس من باب الدعوة لخوض تجربة جديدة، لأن الاجتماع على التوحيد أمر حتمي لا مجال للتجربة فيه، بل لا بد من الإقدام عليه بيقين أنه الحق الذي لا محيص عنه، وهذه النتيجة واضحة جلية لمن تدبر قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 62،63]، فيفهم من الآيتين أن العرب لا يمكن أن يجتمعوا إلا على الله وشرعه ودينه، ومن طلب جمعهم على غير ذلك لم يمكنه ولو أنفق ما في الأرض جميعاً.
وليس هذا من باب التقليل من شأن العرب، فإن لهم فضلاً لا ينكر وشرفاً لا ينازع، ففي مسند الإمام أحمد من حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيركم بيتاً وخيركم نفساً"(9)، وفي صحيح مسلم: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم"(10)، ثم زادهم الله شرفاً بأن بعث فيهم خاتم النبيين عليه السلام، وأنزل عليه كتابه الخاتم بلسان عربي مبين، ثم كانوا مادة الإسلام وحملته للعالمين، فازدادوا شرفاً على شرف؛ لكنه من باب التبصير بحقائق الأمور ومآلاتها كي لا تضيع الجهود والأوقات والأموال جرياً خلف سراب.
وهذا الذي اختص الله به العرب من فضل لا يعني أن يفتخروا به على غيرهم، ولا أن يتنادوا فيما بينهم بعصبيات جاهلية أذهب الإسلام عنهم عبيتها، لأنه في الحقيقة تكليف فضلاً عن كونه تشريفاً، ولا بد لهم هنا أن يتذكروا مقولة عمر رضي الله عنه التي أثبت التاريخ صحتها بعد أكثر من ألف عام، حيث قال: "إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله"(11)، وهذا ما حل بالأمة منذ أكثر من قرن، لما خلفت دعوة الإسلام خلف ظهرها، وركضت خلف شعارات القومية والاشتراكية والديمقراطية وغيرها، والله المستعان.
________________
(1) البداية والنهاية لابن كثير 13/141.
(2) تفسير ابن كثير 4/72.
(3) تفسير السعدي 1/322.
(4) مسند أحمد بن حنبل 4/278 (18472)، وحسنه الألباني في الصحيحة 2/276 (667).
(5) ينظر فتح القدير للشوكاني 2/35.
(6) صحيح مسلم 2/824 (1167).
(7) شرح النووي على مسلم 8/63.
(8) صحيح البخاري 4/1861 (4622)، صحيح مسلم 4/1998 (2584).
(9) مسند أحمد بن حنبل 1/210 (2276)، قال الأرنؤوط: حسن لغيره.
(10) صحيح مسلم 4/1782 (2276).
(11) رواه الحاكم في المستدرك 1/130 (207)، وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.