أنت هنا

من زلزال العيص إلى زلازل المدينة
13 جمادى الثانية 1430
أ.د. سليمان بن حمد العودة

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على لا من لا نبي بعده.. وبعد
تغيرات مُناخية تمر ببلادنا، بل ظواهر كونية تعم أرجاء هذا الكوكب.. رياح عاتية، وسيول جارفة، وفيضانات مدمرة، زلازل مرعبة، وبراكين مخيفه، تُصحِّر بعد خضرة، وخضرة ونماء بعد يبس وموات، حر وبرد، ونجوم تتعاقب، وأفلاك تدور، نفوس تحيا وأخرى تموت.. ولله الأمر من قبل ومن بعد، وكل شيء هالك إلا وجهه.

 

حين يكون حديث الناس – هذه الأيام – الهزات الأرضية في (العيص) وما حولها، فجميل بنا أن نشارك إخواننا همومهم، وأن ندعوا الله أن يؤمن روعهم وأن يحفظ عليهم أمنهم وإيمانهم ويسلم لهم أموالهم وأولادهم وديارهم..
وجميل كذلك أن نقوم بما نستطيع لمساعدتهم، ونشكر الدولة حيث اهتمت بشأنهم، ووفرت البديل المناسب لإيوائهم، ووفرت لهم حوائجهم.
ولكنا مع هذا وذاك لا بد أن نتأمل في عظيم صنع الله الذي أتقن كل شيء، ولا بد أن نتذكر قدرة الله حيث بسط الأرض ودحاها، واخرج منها ماءها ومرعاها، والجبال ثبتها وأرساها.

 

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: ثم تأمل خلق الأرض على ما هي عليه حين خلقها واقفة ساكنة لتكون مهاداً ومستقراً للحيوان والنبات والأمتعة، ويتمكن الحيوان والناس من السعي عليها في مآربهم، والجلوس لراحاتهم، والنوم لهدوهم، والتمكين من أعمالهم، ولو كانت رجرارجة متكفئة لم يستطيعوا على ظهرها قراراً ولا هدوّا، ولا ثبت لهم عليها بناءً، ولا أمكنهم عليها صناعة ولا تجارة ولا حراثة ولا مصلحة، وكيف يتهنون بالعيش والأرض ترتج من تحتهم.. إلى قوله: واعتبر بذلك بما يصيبهم من الزلازل على قلة مكثها كيف تصيرهم إلى ترك منازلهم والهرب عنها، وقد نبه الله تعالى على ذلك بقوله {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (15) سورة النحل وقوله تعالى {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا......} (64) سورة غافر {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا.....} (53) سورة طـه

 

إلى أن قال: ثم تأمل الحكمة البالغة في ليونة الأرض مع يبسها، فإنها لو أفرطت في اللين كالطين لم يستقر عليها بناء ولا حيوان، ولا تمكنا من الانتفاع بها، ولو أفرطت في اليبس كالحجر لم يمكن حرثها ولا زرعها ولا شقها وفلحها، ولا حفر عيونها ولا البناء عليها، فنقصت عن يبس الحجارة وزادت على ليونة الطين فجاءت بتقدير فاطرها على أحسن حال (ابن القيم: مفتاح دار السعادة 1 / 217 – 218).

 

ثم يلفت ابن القيم إلى عجيبة أخرى من عجائب خلق الله في الأرض في مهب الشمال وارتفاعه عن الجنوب حيث قال: ثم تأمل الحكمة البالغة في أن جعل مهب الشمال عليها ارفع من مهب الجنوب، وحكمة ذلك أن تنحدر المياه على وجه الأرض فتقيها وترويها ثم تفيض فتصب في البحر، فكما أن الباني إذا رفع سطحاً رفع أحد جانبيه وخفض الآخر ليكون مصباً للماء ولو جعله مستوياً لقام عليه الماء فأفسده، كذلك جعل مهب الشمال في كل بلد أرفع من مهب الجنوب ولولا ذلك لبقي الماء واقفاً على وجه الأرض فمنع الناس من العمل والانتفاع وقطع الطرق والمسالك وأضر بالخلق، أفيحسن عند من له مسكة من عقل أن يقول هذا كله اتفاقُ من غير تدبير العزيز الحكيم الذي أتقن كل شيء (السابق 1 / 218).

 

ويستجيش القرآن العقول بأسئلة متلاحقة تشهد على عظمة الخالق وتفرده بالخلق والتدبير وحده في مشاهد على وجه الأرض يراها العالم والعامي ويقر بها المسلم ولا يستطيع إنكارها الجاحد الكافر.
تأمل في قوله تعالى {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (61) سورة النمل

 

لقد خاطب القرآن - حين نزوله – قوماً ليس لديهم من العلم والتجربة الحضارية ما يمكنهم من فهم أسرار الأرض وما عليها كلها.. لكنهم كانوا يدركون استقرار الأرض ويستمتعون بما عليها ولا يملكون أن يدّعوا أن أحداً من آلهتهم كان له شرك في خلق الأرض على هذا المنوال، وهذا وذاك كافٍ لإقامة الحجة ووقوع المعجزة والبرهان.. ويبقى النص القرآني بعد ذلك مفتوحاً لعقول الأجيال تتأمله، وكلما اتسع علم البشر أدركوا شيئاً من معناه الضخم، ويتقاصر العلم والعلماء عن إدراك الحقيقة كاملة فضلاً عن عجزهم وتقاصرهم أمام تدبير الله وصنعه جل وعلا (بتصرف من ظلال القرآن 5 / 2657).

 

إن للمخلوقات طبائع وخصائص غالبة عليها ولكن الله بقدرته يغيره، وطبيعة النار الإحراق والحرارة، ولكن الله إذا شاء جعلها برداً وسلاماً كما كانت لإبراهيم عليه السلام، والبحر شأنه الرطوبة والغرق ولكن الله بقدرته قد يحيله يبساً منجياً كما حصل لموسى ومن معه من المؤمنين، والشمس عادتها الجري والمسير ولكن الله بقدرته قد يوقفها متى شاء،وكذلك الأرض فهي ذلول مسيرة بأمر الله حتى يمشي الناس في مناكبها {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا....ُ} ومن تذليلها وتسخيرها انبساط سطحها، والهواء المحيط بها مشتمل على العناصر التي تحتاجها الحياة والأحياء وبنسب دقيقة، وكذلك حجمها وحجم الشمس والقمر وبعدها عنهما، ودرجة حرارة الشمس، وسمك قشرة الأرض، كل ذلك بتقدير العزيز العليم، ولكن هذه الأرض الذلول قد تثور بأمر الله وتتزلزل فلا يستقر عليها حياة ولا أحياء، إنها آية من آيات الله يخوف الله بها عباده {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} فهل نتذكر عظمة الله، وهل نشكره على نعمائه ونعبده في السراء والضراء؟

 

على مدى الزمان واتساع المكان تتكرر الأحداث الكونية، ويتجدد التخويف بالآيات والنذر، ولكن الناس متفاوتون في تعاملهم مع الأحداث، وفي خوفهم وإنابتهم إلى الله مجري النواميس ومقدر الكائنات.
وفي صفحة من صفحات التاريخ يقص علينا الحافظ ابن كثير رحمه الله نبأ حادثتين كونيتين وقعت إحداهما في بغداد ووقعت الأخرى بالمدينة النبوية ويوصف الرواة مع الحادثتين آثار الدمار وحجم الهلع والأهم موقف المؤمنين تجاه الأحداث الجارية ويقول: في أحداث سنة أربع وخمسين وستمائة " 654 " للهجرة أصاب بغداد غرق عظيم حتى طفح الماء من أعلى أسوار بغداد إليها، وغرق كثير منها،ودخل الماء دار الخلافة وسط البلد، وانهدمت دار الوزير وثلاثمائة وثمانون داراً، وانهدم مخزون الخليفة، وهلك من خزانة السلاح شيء كثير وأشرف الناس على الهلاك، وعادت السفن تدخل إلى وسط البلدة، وتخترق أزقة بغداد.

 

وأما المدينة فقد جرى فيها أمر عظيم، فلما كان بتاريخ الثالث من جمادى الآخرة ليلة الأربعاء،و من قبلها بيومين عاد الناس يسمعون صوتاً مثل صوت الرعد فانزعج لها الناس كلهم وانتبهوا من مراقدهم، وضج الناس بالاستغفار إلى الله وفزعوا إلى المسجد وصلوا فيه، وتمت ترجف بالناس ساعة بعد ساعة إلى الصبح، وذلك اليوم كله وليلة الخميس كلها وليلة الجمعة، وصبح يوم الجمعة ارتجت الأرض رجة قوية إلى أن اضطرب منار المسجد بعضه ببعض، وسمع لسقف المسجد صرير عظيم وأشفق الناس من ذنوبهم، وسكتت الزلزلة بعد صبح يوم الجمعة إلى قبل الظهر، ثم ظهرت عندنا بالحرة وراء قريضة من الصبح إلى الظهر نار عظيمة تنفجر من الأرض، فارتاع الناس لها روعة عظيمة، ثم ظهر لها دخان عظيم في السماء يتعقد حتى يبقى كالسحاب الأبيض، ثم ظهرت النار لها ألسن تصعد في الهواء إلى السماء حمراء كأنها القلعة وعظمت وفزع الناس إلى المسجد النبوي، وكشفوا رؤوسهم وأقروا بذنوبهم وابتهلوا إلى الله تعالى، وأتى الناس إلى المسجد من كل فج، وخرج النساء من البيوت والصبيان، واجتمعوا كلهم وأخلصوا إلى الله وغطت حمرة الناس السماء كلها حتى بقي الناس في مثل ضوء القمر، وبقيت السماء كالعلقة وأيقن الناس بالهلاك أو العذاب، وبات الناس تلك الليلة بين مصُل وتالٍ للقرآن وراكع وساجد، وداعٍ لله عز وجل، ومتنصل من ذنوبه ومستغفرا، ولزمت النار مكانها وتناقص تضاعفها ولهيبها، وصعد الفقيه والقاضي إلى الأمير يعضونه فطرح المكس وأعتق مماليكه وعبيده، ورد علينا كل مالنا تحت يده، وعلى غيرنا.. وبقيت النار على حالها وهي كالجبل العظيم أياماً ثم سالت سيلاً إلى وادي أجلين تنحدر مع الوادي، والحجارة معها تتحرك حتى كادت تقارب حرة العريص، ثم سكنت ووقفت أياماً ثم عادت ترمي بحجارة خلفها وأمامها حتى بنت جبلين.

 

أيها المسلمون: بقي أن نقول ما هو موقفنا نحن تجاه هذه الأحداث والزلازل والأعاصير ونحوها من آيات الله؟
هل نراجع أنفسنا.. وهل نتوب إلى بارئنا.. هل نتناصح فيما بيننا والدين النصيحة.. وهي لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وهل نعود عن مظالمنا.. هل نعمد إلى الصلاة والذكر والاستغفار إذا حزبنا أمر – كما كان يفعله الصالحون من قبلنا -.
أمر ترانا ننشغل بتحليل الكائنات جيلوجياً فقط.. ويشغلنا مقياس رختر عن مقاييس أخرى؟؟..
إن توجيه القرآن يقول لنا (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا..) وواعظ القرآن يذكرنا (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير).

 

لا ينبغي أن نشمت بأحد ولا نرحل الأخطاء إلى الآخرين.. فكلنا خطاء وكلنا محتاج إلى التوبة والاستغفار والإنابة إلى الله والفرار إليه (ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين) وإذا أرعبتنا زلازل الدنيا فزلزلة الساعة شيء عظيم وإذا أفزعتنا حمم البراكين فنار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون.

 

لنعتبر ونتذكر.. ومن تذكر فإنما يتذكر لنفسه.. ومهما طال ليل أو يوم فإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون.. ألا وإن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين.. وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين.. يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله..
رحماك ربي رحماك، وعفوك وحلمك وأنت أهل العفو والمغفرة.