هل التمشعر سنَّة؟
11 شعبان 1430
لا نزاع أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، والحديث عن المذهب الأشعري بعلم وعدل كافٍ في تحقيق الجواب، وزوال الإشكال، ومن طوامِّ هذا العصر أن يتصدَّر أقوام للخوض في هذه المسألة، فيبعثوا أحكاماً جزافاً وفق ظنون كاذبة أو أهواء جامحة؛ فإطلاق القول بأن الأشاعرة هم أهل السُّنة والجماعة، قد يكون ناشئاً عن قصورٍ بمعرفة السُّنة النبوية وسبيلِ الاعتصام بها، وربما كان باعثه الجهل بحقيقة مذهب الأشاعرة؛ وأسوأ من ذلك كله إن كان جهلاً بسبيل السُّنة و الاتباع وسبيل التمشعر والابتداع!
وقد ينفر بعضهم من تلك القضايا، ويبدي امتعاضه وأسفه، ويتعلل بأنّ في ذلك إذكاءً للطائفة المذهبية، وتوهيناً من وحدة المسلمين، واجتراراً للخلافات القديمة!
وما عَلِمَ هؤلاء المتدثرون بوحدة المسلمين أن الاجتماع الصحيح لا يتحقق بقلب الحقائق ومجانبة الصراط المستقيم، وتهوين المحْدَثات في الدين، ومصانعة أرباب البدع ومداهنتهم،ولـمَّا قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- لأبي بكر الصديق- رضي الله عنه-: يا خليفة رسول الله! تألّف الناس! أجابه الصديّق الأكبر: علامَ أتألَّفهم: أعلى حديث مفترى أم على شعر مفتعل [1]؟
بل إن ترك السُّنة وتنكُّب الصراط المستقيم في العقائد والشرائع يوقع تفرقاً وتشرذماً، ومتى آمنوا بالكتاب كله واعتصموا بالسُّنة تحقق الاجتماع والوئام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وهذا التفريق الذي حصل من الأمة: علمائها و مشائخها، وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله ، كما قال- تعالى-: { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة: ٤١] فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرّق القوم هلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب، وجِماع ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..»[2].
وقال أيضاً: «متى تركوا الاعتصام بالكتاب والسُّنة فلا بد أن يختلفوا؛ فإن الناس لا يفصل بينهم إلا كتاب منزَّل من السماء، كما قال- تعالى-: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ{٢٠١} وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّن َالنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آلعمران: ٢٠١- ٣٠١]»[3].
وقال في موضع ثالث: «أَتْبَعُ الناس للرسول أقلُّ اختلافاً من جميع الطوائف المنتسبة للسُّنة، وكل من قَرُبَ للسنة كان أقل اختلافاً ممن بَعُد عنها، كالمعتزلة والرافضة، فنجدهم أكثر الطوائف اختلافاً»[4].
والمقصود أن موجبِ الاجتماع هو الاعتصام بالكتاب والسُّنة ولزوم الشرع المنزَّل، وأما الاجتماع على إهدار أصول مذهب السلف في المسائل والدلائل، فليس مشروعاً، بل هو إجماع هش على جرفٍ هار سرعان ما يعتريه التعثر والسقوط.
ومع تأكيد أهل السُّنة على لزوم السُّنة النبوية و اتِّبـاعها، إلا أنهم يرحمون الخلق، كما يعلمون الحق، حتى إن أهل السُّنة لكل طائفة ومن أهل البدع خير من بعضهم لبعض، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض[5].
وكان ابن تيمية يقول: «والناس يعلمون أنه كان بين الحنبلية و الأشعرية وحشة و منافرة، وأنا كنت من أعظم الناس تأليفاً لقلوب المسلمين، وطلباً لاتفاق كلمتهم، و اتباعاً لما أُمرنا به من الاعتصام بحبل الله، وأزلت عامة ما كان في النفوس من الوحشة..»[6].
وإذا انتقلنا إلى مفارقة الأشاعرة للسُّنة، ومجانبتهم سبيل الشرع والعقل والفطرة، فإن هذه المفارقة في قضايا رئيسة وعديدة، ومبسوطة في مواضعها، وقد أجاد الشيخ سفر الحوالي- شفاه الله وعافاه- في تحرير ذلك، بأسلوب بليغ، وتقرير متين، كما في رسالته«منهج الأشاعرة في العقيدة»[7].
ومن هذه المفارقات أن السُّنة تُقرر أن أول واجب هو توحيد الله- عز وجل- وعبادته وحده كما في حديث معاذ مرفوعاً« فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله» أخرجه البخاري ومسلم، وأما أول واجب عند الأشاعرة؛ فهو النظر أو القصد إلى النظر[8].
فــإن كـان القـرآن- و هـو الهــدى والنــور والـرحمــة والشفاء- لا يُحقق بَرْدَ اليقين، ولا يحصل بالسُّنة العلم والرسوخ.. أفيظن أن العلم واليقين متحقق بفلسفة اليونان الوثنية أو زندقة المعتزلة الكلامية؟
ولذا حلّب القوم الوحشة والقلق، والحَيرة والشكوك؛ فالآمدي حائر واقف في المسائل الكبار،والرازي يستوحش من روحه التي بين جنبيه! وتلميذه الخسروشاهي يبكي قائلاً: والله ما أدري ما أعتقد.. (قالها ثلاثاً!)[10].
وافتعل الأشاعرة تعارضاً بين النقل والعقل، كما في«القانون الكلي» للرازي وسَلفه، فقدموا ما ظنوه معقولاً- وهو في الحقيقة وهمٌ ومجهول- على نصوص الوحيين، وأعملوا التأويل الفاسد في المنقولات[11]، أو سلكوا سبيل التجهيل والتفويض والتضليل! بدعوى التوفيق والتلفيق بين النقل والعقل!
والحق أن النقل الصحيح يتفق تماماً مع العقل الصريح، كما بسطه ابن تيمية في كتابه النفيس«درء تعارض النقل والعقل».. ولا عجب أن يجعل ابن القيم هذا القانون الكلي طاغوتاً يتعيّن كسره وإبطاله، كما فعل- رحمه الله- في كتابه(الصواعق المرسلة).
ومن نماذج المفارقات أن القوم يثبتون سبعاً من الصفات الإلهية، وينفون سائرها، مع أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، والقول في الصفات كالقول في الذات. وفارقَ الأشاعرة السُّنَة في القَدَر، فمالوا إلى الجبر، ونفوا الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى، وأنكروا الصفات الاختيارية، ونفوا التحسين والتقبيح العقليين.
وأما في الإيمان فقد نصروا قول الجهم بن صفوان، فجعلوا الإيمان مجرد تصديق، فأخرجوا أعمال القلوب والجوارح وقول اللسان من تعريف الإيمان! وحجَّروا دلائل النبوة- والتي هي أكثر من أن تُذكر وأشهر من أن تحصر - وضيقوا ماوسَّع الله، فزعموا أن النبوة لا تثبت إلا بالمعجزة..
والمقصود أن مفارقات الأشاعرة للسُّنة كثيرة وشنيعة، حتى قال بعضهم: إن الأشاعرة خالفوا أهل السُّنة في جُلّ مسائل الاعتقاد إلا الصحابة والإمامة..
والحقيقة أن الصحابة- رضي الله عنهم أجمعين- لم يسْلَموا من لمزٍ وتعريض.. إذ زعم الأشاعرة أن مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم«فيصفون إخوانهم بالفضيلة في العلم والبيان والتحقيق، والسلفَ بالنقص في ذلك والتقصير فيه،ولا ريب أن هذا شعبة من الرفض»[12].
أفبعد هذه المفارقات والضلالات يقال: إن الاشاعرة أرباب سُّنة واتباع؟! إن بين هذا التمشعر المتهافت وبين السُّنة النبوية مفاوز بعيدة وشاسعة تنقطع فيها أعناق المطي!
إن من دواعي الانخداع بالمذهب الأشعري أن التمشعر مذهب تلفيقي توفيقي بين الوحي والعقل- على حدّ زعمهم- فهو يختار التلوّن والمصانعة للفريقين(أهل السُّنة والجماعة وأهل الاعتزال)، وعند التحقيق وتجلية الأمور، فهو إلى المعتزلة أقرب وألصق، لكنهم يكتمون ذلك! حتى قال ابن قدامة: «ولا نعرف في أهل البدع طائفة يكتمون مقالتهم ولا يتجاسرون على إظهارها إلا الزنادقة والأشعرية»[13]، وقال الإمام السجزي(ت444هـ): «والمعتزلة مع سوء مذهبهم أقل ضرراً على عوام أهل السُّنة من هؤلاء؛ لأن المعتزلة قد أظهر تمذهبها ولم تموِّه.. وكثير من مذهب الأشعري يقول في الظاهر بقول أهل السُّنة مجملاً، ثم عند التفسير والتفصيل يرجع إلى قول المعتزلة، فالجاهل يقبله بما يظهره، والعالِم يكشفه لما منه يخبره،والضرر بهم أكثر منه بالمعتزلة لإظهار أولئك ومجانبتهم أهل السُّنة، وإخفاء هؤلاء ومخالطتهم أهل الحق. نسأل الله السلامة من كلٍّ برحمته»[14].
والمذهب الأشعري لا يزيده تصرّم الأيام إلا انحرافاً وانحداراً، حتى أفضوا للتسول باليهود في إنكار الصفات، وكما يقال: طافوا بأخس المذاهب ونالوا أخبث المطالب والمكاسب، ومن ذلك أن موسى بن ميمون(ت601هــ) من ملاحدة اليهود وفلاسفتهم[15]، ألّف«دلالةَ الحائرين» وهو طافح بتعطيل الصفات الإلهية وإنكارها، وقام التبريزي- أحد تلاميذ الفخر الرازي- بشرحه والتعليق عليه، ثم نشره محمد زاهد الكوثري- أشهر دعاة البدع والضلال في هذا العصر- سنة1369هـ[16]، واحتفى به! وفي الوقت نفسه كان الكوثري المأبون في دينه ونقله يدَّعي أن أهل الحديث في الهند أضر على الإسلام من اليهود[17]!
وأخيراً: فمع شناعات المذهب الأشعري وكثرة عواره وتناقضاته، إلا أننا نستصحب في نفس الوقت مراتب الشرور،وأن في أهل الأهواء من هو شر منهم كالرافضة والخوارج ونحوهم، كما أن الحديث ها هنا عن التمشعر مذهباً ومعتقداً، وأما أربابه فقد يعتريهم ويلحقهم من عوارض الأهلية كالجهل والتأوّل ما قد يُعذَرون به عند الله تعالى، واللهتعالى يغفر لنا ولهم، والواجب أن نكون أكثر شجاعة وبذلاً في سبيل إظهار السُّنة ونشرها، ومدافعة البدعة وإزهاقها. فاللهم أحينا على الإسلام والسُّنة حتى نلقاك .
[7] طبعت الرسالة مختصرة قبل أكثر من عشرين سنة، ثم ألحق الشيخ مسائل جليلة وزيادات نفيسة، فبلغت أكثر من مائتي صفحة، وهي من مطبوعات دار الحجاز للنشربالقاهرة.
[11] جملةمن تأويلات الأشاعرة كابن فورك والفخر الرازي وأشباههما هي عين تأويلات بشر المريسي «اليهودي»! انظر: مقدمة الحموية لابن تيمية.
[16] قال د. سفر الحوالي: «نشره سنة 1369هـ وهيالسُّنة التي قامت فيها دولة إسرائيل بفلسطين ولسان حال الكوثري يقول: إذا لم تكن هذه الدولة على مذهب الحشوية فلتكن ما تكون» منهج الأشاعرة في العقيدة ص 179.