الفتنة والدجال وإخوان أبي عمر
25 محرم 1431
إبراهيم الأزرق

لو لم أكن أعرف أُنُفاً صاحب الفضيلة الشيخ أبا عمر إبراهيم بن عمر بن إبراهيم السكران، لخمنت أنه من بني تميم، أولئك القوم الذين لم أزل أحب صالحيهم منذ علمت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: ما زلت أحب بني تميم منذ ثلاث سمعتُهنَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيهم؛ سمعته يقول: "هم أشد أمتي على الدجال"، قال وجاءت صدقاتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذه صدقات قومنا"، وكانت سبيِّة منهم عند عائشة فقال: "أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل" [متفق عليه].

 

ويبدو أن في بني تميم رجالاً أشداء على دجاجلة كثيرين وفتن ليست بالقليلة وإنما نُبِّه في الحديث بالأكبر على الأصغر!
ولله كم من فتنة اقتلعها من جذورها الإمام المجدد شيخ تميم رحمه الله.

عهودٌ مِن الآباءِ يُورَثُها الأبنا *** بَنَوا مجدَهم لكنْ بَنُوهُم له أَبْنَى!

وقد عرفتُ أبا عمر قديماً أيام الدراسة الثانوية فقد جمعتني به حلقة كنت من طلابها أمداً يسيراً، سافرنا فيه وجئنا، واتفقنا واختلفنا، واجتمعنا وافترقنا، وتناقشنا وتشاجرنا، وذاكرتي الكليلة لا تحفظ إلاّ أنها لا زالت تذكر غيرته، وفعاله الدالة على إرادته الحق ودورانه في فلكه، فالعجب من مثله إذا عثر، أما الفيئة فلا تُستعجب ممن كان لزوم الجادة ديدنه وهو في كُنِّ الصبا وعنفوان الشبيبة، أما إن كان الحديث عن غير مثل الشيخ إبراهيم:

فالدَهـرُ  يَكبو  بِالفَـتى وَتـارَةً *** يُنهِِـضُـهُ مِـن عَـثرَةٍ إِذا كَبا
لا تَعجَبن مِن هالِكٍ كيفَ هَـوى *** بَل فَاعجبَن  مِن سالِمٍ كَيفَ نَجا

 

ولا أسترسل في الثناء على أبي عمر فقد قيل:

إذا صَفَتِ المودَّةُ بين قومٍ *** ودامَ ولاؤُهم سَمُجَ الثناءُ!

بيد أني أسأل الله له المزيد من فضله..

 

وعوداً لموضوع الدجاجلة فإن فتنة المسيح الدجال أعظم فتنة سوف تأتي على الأمة، وسوف تشرئب إليها أعناق كثير من الناس، وسوف يتبع الدجال مِن الرجال مَن قد كان صادق الإيمان، وكان يظن بنفسه خيراً، كما صح عند أحمد وأبي داود وغيرهما عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سمع بالدجال فلينأ منه، فإن الرجل يأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فلا يزل به لما معه من الشبه حتى يتبعه"، وقد وعى عمران رضي الله عنه الدرس فكان من أنأى الناس عن الفتن، فلم يتقحمها مع سابقته وعلو مكانه وظاهر كراماته، وما ضرته الفتنة الأولى بين عسكَرَي الإسلام، وكان حاجزاً لكثير من الناس عنها.

 

وشأن الفتن عظيم والتعويل في العصمة منها لا على الذكاء والعقل بل على الله الذي لا عاصم من أمره إلاّ من قد رحم! ولله كم من ذكي سقط، بل الفتن قد يخفى أمرها على أفاضل أذكياء أزكياء ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، وتأمل التاريخ البعيد بل القريب وقل لي إن كنت ذا معرفة وبصيرة: كم من فاضل أتى فتنة وخاض غمارها وهو يحسب نفسه أبا الحقيقة وابن بجدتها وأخا عذرتها فلما انجلى أمرها تبين أن بعض الدهماء والعامة ومن يسميهم بالهمج الرعاع وأنصاف المتعلمين كانوا أبصر منه بها وأعقل إذ أنكروها ونأوا بأنفسهم عن نصرها وأبوا أن يكونوا من جملة حطبها.

 

وتأمل فتنة الاختلاط بالنساء، وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أسامة المتفق عليه: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء"، وانظر كم سقط فيها من فاضل كان يَظُن بنفسه أو يظُن به الناس خيراً، وما درى أنه يمهد للأمة شراً، بنظره القاصر عن إدراك ما أدركه أصحاب الخبرة بالواقع الناظرون في سير الوقائع المراعون لـ(مآلات) الأمور، والله أسأل أن يغفر للمتأولين، وأن يفيق الغافلون، وأن يحول بين الأمة ومراد الذين يعملون على إمالتها ميلاً عظيماً.

 

ولنعلم أنه قد قام لكثير من الفتن القديمة والمعاصرة رجال يمسكون بحجز الناس ويذبون من تهافت عليها فلا يهنأ مع وجودهم دعاة الفتنة، وبمثل تلك الثلة المباركة العبقرية الظاهرة يَشْرَق الفاتنون ويغصون، ويعانون ما يعانون، وبمثلهم يرفع الله البلاء عن الأمة، ويحفظ شريعته ويظهر ملته، فاحرص أيها المبارك أن تكون منهم أو معهم أو لهم لا عليهم، فإن أبيت فاعلم أن الحق ظاهر منصور!

 

واعلم أخيَّ أن الله حكيم عليم، يَمُنُّ فيختار من يشاء وييسره لليسرى، ثم لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى، فيثبه ويجزيه الجزاء الأوفى مع أن الفضل له في الأولى والأخرى.
أما أنت أيها الكاتب! فاعلم أن التاريخ يكتب..
ومن تأمل صفحاته الماضية لم تعسر عليه قراءة ما يثبت..
ولو استضأنا بأضواء الشريعة لعلم كل واحد منا في أي جملة وضمن أيِّ سطرٍ من كتاب تاريخ الأجيال التالية قد وضع نفسه!

 

فاترك اللجاج وتبصر! فكم من مسكين يخادع نفسه، يزعم أنه  سالك سبيل المجددين المحققين، سائر ضمن ركب السابقين الصالحين، فلما انجلى الغبار علم الناس أنه (طائر في العجة)، طليعة تغريب، ومطية غريب، ولو تأمل ذلك المغرور بنتف من العلم حازها وشهادات أحرزها،  أحوال المجددين على مر التاريخ، وميز بينها وبين أحوال المفتتنين، الذين تذرع ببعض اجتهاداتهم الشَّر في الأممِ القريبة لأدرك على أي خطى يسير، وإلى أين ييمم! {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، والموفق من وفقه الله فترك الدعاوى والأماني وتبصر.

 

ولنتذكر بأن الفتن في آخر الزمان تتكاثر، والكل خاسر {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3]، ويتأكد هذا ونحن نعيش نصف الفتن من القرن الخامس عشر بعد أن ذهب جمهور مجددي القرن الماضي، فيا عباد الله اثبتوا واصبروا وصابروا، ويا مشايخ الإسلام سدوا ثغوره، ويا أبا عمر ارم وإخوتك فإن أباكم كان رامياً! والله أسأل أن يسدد سهام أقلامكم، ويعظم النفع بكم.