الذين تابعوا تصريحات الرئيس الليبي معمر القذافي الأخيرة بشأن تقسيم نيجيريا كحل يرتئيه للخروج من حالة العنف بين الغالبية المسلمة في نيجيريا والأقلية "المسيحية"، والتي تغذيها أسباب قبلية واقتصادية أيضاً، يلفتهم توقيتها وردة فعل السلطة النيجيرية عليها، وتوظيفها من قبل أطراف ترى الحل لمشكلات نيجيريا يكمن في تقسيمها.
ورغم أن معظم المراقبين قد لا يسترعي اهتمامه كثيراً تلك التصريحات لاعتبارها ربما خرجت "عفوية" من فم "الزعيم الليبي"، كغيرها من التصريحات التي تثير ضجة إعلامية في العالم لكنها لا تحظى بالاهتمام ذاته لدى خبراء السياسة الغربية، الذين يتعاملون مع العقيد من منطلق براجماتي لا يقف كثيراً عند تصريحاته وخواطره التي يبوح بها لوسائل الإعلام، إلا أن بعضاً من تلك التصريحات يترك أثراً واضحاً، أو يفتح ملفات تهوى أطراف أن تراها مطروحة أياً كان مصدرها ومناخها ما دامت تتيح فرصة لتجديد مطالب معينة تخص طموحات أعراق أو طوائف تجد بغيتها في ترديدها.
بعض تلك التصريحات "العفوية" يوماً، وضعت رئيس وزراء تركيا الأسبق نجم الدين أربكان الذي كان يسعى خلال فترة رئاسته القصيرة للحكومة التركية إلى تكوين نظام اقتصادي إسلامي عالمي يضاهي مجموعة الدول الثمانية الكبرى في العالم في موقف بالغ الحرج عندما انتقده مضيفه القذافي أثناء زيارته لليبيا بسبب معاملة تركيا لمواطنيها الأكراد؛ ما أثار ضغوطاً هائلة على أربكان من علمانيي بلاده ساهمت مع ضغوط أخرى في الإطاحة به.
وإن جاز لنا ألا نبالغ في تأثيرات تصريحات العقيد في على تسريع جهود تقسيم نيجيريا؛ فإنه في المقابل يمكننا أن نلمس "مستوى" الانزعاج الذي بدت عليه الحكومة النيجيرية إزاء تلك التصريحات، كما الأثر لدى القوى الانفصالية في الجنوب النيجيري، والمناوئة لها على حد سواء، لاسيما مع ما يتركه النشاط الشعبوي للعقيد في مناطق وسط إفريقيا، ومحاولاته تكريس زعامة إفريقية له، تلقى ترحيباً جزئياً من قوى تقتات على ما يُنفق في هذا الاتجاه من تسويق ودعاية.
لكن بالالتفات بعيداً عن هذه التصريحات نجد أن مسألة التقسيم تتجاوز كونها حلماً يراود قطاعات من قبائل جنوبية لاسيما قبيلة إيبو التي تدعو إلى قيام دولة "بيافرا" في مناطقها بالقرب من دولة الكاميرون، إلى تحضيرات تجري بخطى حثيثة لا تقف عند وجود التنظيمات المسلحة بشكل جيد، والتي تتغذى على الفوضى، وتفيد من تشجيع من بعض الدول، إقليمياً ودولياً، وإنما تتعدى إلى طرح مسألة التقسيم بشكل واضح في المراكز البحثية التي تؤسس للاستراتيجيات الدولية القائمة والقادمة.
والصخب الذي يواكب تصريحات كهذه، أو حتى أعمال عنف يقل ضحاياها كثيراً عن ضحايا الحرب في الجنوب النيجيري التي استمرت ما بين العامين 1967 و1970 وقتل فيها مليون شخص، يخفي ترتيبات تجري بشكل دقيق ومحسوب لتغيير النظام النيجيري بما يناسب المرحلة القادمة التي تتجه فيها أنظار الولايات المتحدة صوب منطقة غرب إفريقيا، التي يعتبرها الكونجرس الأمريكي وفقاً لتقرير سابق عن "خليج غينيا" وهو شريط ساحلي مليء بالنفط بين أنجولا ونيجيريا "منطقة اهتمام حيوي" للولايات المتحدة، حيث أضحت تلك المنطقة التي يلامس إنتاجها النفطي الآن نحو 6 ملايين برميل يومياً، نظيراً محتملاً وصاعداً للخليج العربي، ومرشحاً لتبوء مكانة اقتصادية هائلة، ومن ثم ترتيب دولي وإقليمي جديد، يتواءم مع الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في المنطقة، والتي ارتسمت أولى ملامحها مع زيارة الرئيس الأمريكي (الإفريقي الأصل) باراك أوباما المبكرة للمنطقة في مستهل زياراته الخارجية في سنة حكمه الأولى، ثم تجلت أكثر مع التدخل الأمريكي اللافت في تثبيت مقاليد الحكم في يد نائب الرئيس النيجيري غودلاك جوناثان الذي أبرزت وسائل الإعلام الأمريكية نبأ استقبال الرئيس الأمريكي له في قمة الأمن النووي التي سيكون من أبرز نتائجها "الهامشية" تأكيد "المشروعية الدولية" لسلطة جوناثان، بعد شهرين من "الانقلاب الدولي الأبيض" الذي أطاح بالرئيس النيجيري المسلم المريض عمر يارودا الذي عاد إلى بلاده من دون صلاحيات تقريباً وما زال بعيداً عن الأعين على إثر لقاء مساعد وزيرة الخارجية جوني كارسون مع نائب الرئيس، وتصريح مساعد وزيرة الخارجية للشؤون العامة فيليب كراولي الذي لا لبس فيه في مؤتمر صحافي، بقوله :"ما يهم أولا وأخيرا من هو القائد المعترف به لنيجيريا وحاليا اعتقد انه الرئيس المؤقت غودلاك جوناثان"، وتشديده على ضرورة تغييب الرئيس النيجيري المنتخب بقوله: "الرئيس عمر يارودا عاد إلى نيجيريا وأعتقد أن مساعد وزيرة الخارجية جوني كارسون وآخرون رحبوا بهذه الخطوة، لكن نحن قلقون من أن عودته ليست جهدا من كبار مستشاريه لزعزعة الاستقرار في نيجيريا ومحاولة لتقديم مصالحهم الخاصة"؛ فبحسب المسؤول الأمريكي فإن نيجيريا "تحتاج في هذه المرحلة إلى قائد قوي وفعال لضمان استقرار البلاد وإدارة الكثير من تحديات نيجيريا السياسية والاقتصادية والأمنية"، وهذا كله لن يتحقق إلا حالما تنزع السلطة من يد الرئيس المريض، ويخل بالاتفاق الضمني الذي أقر على إثر مذبحة طالت نحو مليون نيجيري، وتقضي بتبادلية السلطة بين المسلمين و"المسيحيين".
أمريكا الآن تنسف هذا الاتفاق بدعمها للحاكم الفعلي الجديد لنيجيريا بعد سنتين فقط من حكم "المسلمين" من الشمال، على إثر ثماني سنوات كاملة حكمها "المسيحي" أوليسون اوباسانجو، وهو بدوره دعا الرئيس الحالي إلى التنحي "إن كانت صحته لا تسمح بالبقاء في منصبه" وهو للعلم من اختاره ليحل محله من قبل بسبب ضعفه ومرضه!!
وقد كانت أعمال العنف الأخيرة والتي ترك بعضها ليتفاقم، فرصة للحديث عن أوضاع خطيرة قد تترتب على بقاء الرئيس خلف الكواليس، ومنحت المتربصين مساحة لنزع أسنان الموالين للرئيس شبه المخلوع، ومنهم مستشار الأمن القومي المقرب من يارودا بحجة عجزهم عن حل مشكلة العنف. وخلاصة القول أن ما يجرى منذ وجهت وزيرة الخارجية الأميركية اتهامات حادة أواخر يناير الماضي للقيادة النيجيرية بسوء الحكم والإخفاق، ووصفت مستوى الفساد بـ"المذهل"، وتبعها بيان غربي مشترك صدر باسم وزراء خارجية أمريكا وبريطانيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي، هيلاري كلينتون وديفد ميليباند وبرنار كوشنر وكاترين أشتون حث نيجيريا على "مواصلة احترام المبادئ الديمقراطية وفقا للدستور"، أو تنحية عمر يارودا بمعنى أدق!
لكن هل الترتيبات الأخيرة، واختلال التوافق الداخلي حول "ديانة وجهوية" الرئيس، يفضي بالضرورة إلى رغبة في التقسيم أو إحداث فوضى يمكنها أن تفرض ضغوطاً على القرار النيجيري أياً كانت هويته؟ وثم، هل يسهم تقسيم نيجيريا في تعزيز المكانة الأمريكية في الغرب الإفريقي، بما يعني أن هذا التقسيم قد يكون من أسس الترتيب الجديد للمنطقة؟
الجواب صعب في الحقيقة لمحددين متعارضين، يعود أولهما إلى هذه الكتلة البشرية الإسلامية الكبيرة التي ستكوّن حزاماً إسلامياً عريضاً جنوب الصحراء الغربية حال تفكك نيجيريا، والثاني يتعلق بمسألة تطبيق الشريعة في الشمال النيجيري ولو كانت رمزية نوعاً ما، واحتمال انتقال "العدوى" في حس الغربيين إلى الدول المجاورة، والنشاط الإسلامي المتوقع في تلك المنطقة، لاسيما مع معلومات شبه مؤكدة تفيد بوجود ما يمكن تسميته "صحوة إسلامية" في دول كغانا والسنغال، وفي الشمال النيجيري أيضاًَ.
أما الثاني؛ فهو ما يتعلق في المقابل بما ستجلبه هذه النظرية من نهضة مالية "مسيحية" في الشريط النفطي واحتمالية الإفادة من ذلك في تعزيز الاستثمارات الغربية وفتح الأسواق الإفريقية لامتصاص جزء من العوائد النفطية، مع تعزيز قوة الدول ذات الغالبية "المسيحية" في الغرب الإفريقي، والتي سيكون منها "بيافرا" أو "دولة نيجيريا الجنوبية" كوريث لاقتصاد نيجيري هائل يعفي "أغنياء الجنوب" من التنمية لدى "فقراء الشمال"، مع أن من المهم التذكير بأن منطقة دلتا النيجر بالجنوب التي تمنح نيجيريا 75% من صادراته، ذات غالبية مسلمة، لكنها ستذوب في غالبية مسيحية للجنوب حال انفصاله.
وكلا المحددين له وجاهة التفكير فيه، والتطلع إليه لدى مخططي السياسة الغربية عموماً، والأمريكية خصوصاً، كما أن الأخير سيعززه فقدان مسلمي جنوب نيجيريا، كأقلية كبيرة تبلغ نحو 15 مليون مسلم لمزية الدعم المعنوي والتشريعي الشمالي، ووقوعهم تحت طائلة ضغوط هائلة تتعلق بالهوية، وفي قلبها قضيتي التنصير والتغريب.
لكن استلهام التجارب الماضية في إفريقيا وآسيا، ربما قربنا أكثر من فهم مآلات الاستراتيجيات الغربية بالنسبة لنيجيريا، وقد يكون من المناسب استحضار النموذج الهندي والانفصال التدريجي للمسلمين في باكستان وبنجلاديش، ثم احتمالات تقسيم باكستان ذاتها، وما يجري غير بعيد في الحالة السودانية المتأرجحة ما بين الرغبة في التقسيم والحذر منه لدى واضعي السياسة "الاستعمارية" الجديدة في شرق إفريقيا.
ومهما يكن من شيء؛ فإن نيجيريا الدولة التي تمثل أكبر كتلة بشرية مسلمة في إفريقيا، والتي تتوافر على ثروة هائلة، وتعتبر أكبر منتج نفطي في إفريقيا وخامس أكبر مصدر نفطي للولايات المتحدة، وثاني قوة اقتصادية في القارة الإفريقية، والدولة المحورية الموكولة بالعديد من عمليات حفظ السلام في إفريقيا لاسيما في ليبريا وسيراليون، والقائدة لمجلس السلم والأمن الإفريقي، وصاحبة الباع الكبير كأشهر حركة نهضوية إسلامية في القرن قبل الماضي في غرب ووسط إفريقيا على يد الزعيم الإسلامي عثمان بن فودي، والبلد الذي يعج باختلافات عرقية كبيرة والذي يعيش نصف سكانه تحت خط الفقر بسبب الفساد المرتبط بشبكات التهريب النفطي وغسيل الأموال والمخدرات والقرصنة، والذي يمهد للتدخل الغربي السافر هذه المرة، بات مهدداً بمزيد من الاضطرابات التي غالباً ما تكون مقننة بهدف الدفع أكثر في اتجاه سحب جميع مراكز النفوذ من بين أيدي الغالبية المسلمة فيه، إن لم يكن عزلهم تماماً.
ما يلوح في الأفق ليس باعثاً على التفاؤل، لاسيما أن الظرف الدولي ليس في صالح مسلمي نيجيريا، وهو ما دعاهم لإطلاق أكثر من صرخة، وصفها بعضهم بـ"بوسنة جديدة" في الجنوب النيجيري، وقد تكون الاكتشافات النفطية الأخيرة في غرب إفريقيا ونيجيريا على وجه الخصوص عامل استقرار دولي، أو وقود حرب أهلية قادمة، وفي أيهما، فالخيار محصور بين السرقة والحرب، وكلاهما تجسيد لحالة مؤسفة في عالمنا الإسلامي ليست حكراً على نيجيريا وحدها..