اختلف الحداثيون في الإجابة عن سؤال: هل الحداثة صيرورة أم إيديولوجية؟ فبعضهم اعتبروها صيرورة (مثل الحتمية التاريخية في النظرية الشيوعية) ولكنهم انقسموا بين قائل بحاجتها "للعنف السلطوي" (العنف الثوري في النظرية الشيوعية) وقائل بالتطور النوعي الذاتي. واختلفوا حول ما إذا كانت التجربة، من خلال الديمقراطية، هي الكفيلة بصنع الحداثة، أو عبر السلطات القائمة لأن "الديمقراطية لا تصنع حداثة في نظر بعضهم" وبالتالي يجب الركون لقوتين قوة السلطة المستبدة، وسلطة الاحتلال غير المباشر للأوطان. وأغلب أصحاب الرأي الأخير هم من يعملون لصالح أنفسهم من خلال تنميط المجتمع وجعله نسخة طبق الأصل لما يرغبون فيه، وليست لديهم مقدسات، بل لا يؤمنون بوجودها، وإنما مصالحهم فقط من تملي عليهم نوعية التحالفات التي وجدوها في الاحتلالين الداخلي والخارجي.
والذين اعتبروا (الحداثة) إيديولوجية جاهزة للتطبيق، هم من يعملون على تدمير المجتمع لاقتلاع الأنماط السلوكية والفكرية السائدة وإحلال تصورهم للحداثة محلها. وهم لا يختلفون عن النوع الأول في النظر إلى خرائط التحالفات، وإن كاونا أشد حماسةً للتحالف مع أعداء الأمة في الداخل والخارج. وهم على عجلة من أمرهم لتحقيق أكثر ما يمكن من المكاسب الشخصية التي تأخذ نفاقاً طابع المشروع المجتمعي البديل!!!
وليس هناك مجال لاعتبار أن كلا الفريقين يؤمنان بالتفاعل الحر بين الأفكار، أو بالأجواء السلمية للصراع الفكري والمطارحات العقلية، فالفريقان (دعاة الصيرورة ودعاة الأدلجة)، مقتنعان بضرورة قمع المخالفين وهو ما أكد عليه أدونيس صراحة في (دبي؟!!!) سنة 2009 م.
أما الصيرورة فلا تعني حتمية تاريخية تفرضها تطورات الأوضاع، وإنما هي مرحلة تفرضها طبيعة المجتمع المشبع بالقيم الإسلامية، ولو على المستوى الذهني،فتأخذ طابعاً تسلطياً، يتم تمويهه وراء مشاريع براقة كإقامة إذاعة للقرآن الكريم، أو طباعة مصحف على نفقة سيادته....، مقابل زيادة الجرعات الإعلامية المشككة بثوابت الإسلام والمشجعة على انفلات الغرائز الدنيا على الفضائيات وإحلال المناهج الدراسية، والمؤسسات التعليمية التي تخالف وتتناقض مع قيم القرآن وتعاليمه ومبادئه.
فغلاة الحداثويين، لا يرغبون في انغماس المسلمين في الحرام فحسب، لتحقيق المجتمع الحداثوي، بل في عدم اعتباره حراماً، والعيش بدون الشعور بالذنب. حتى لو كان خيانة عظمى، أو جريمة كبرى.. وسن قوانين حداثوية تكون هي المرجعية وليس الشريعة أو الحلال والحرام، هدفهم النهائي.
إن الإسلام لا يتعارض مع إقامة مجتمع حديث من خصائصه قيام العلم والمعرفة على التجربة الحسية والوقائع المادية الملموسة، وظهور أنظمة اقتصادية بديلة للرأسمالية المتوحشة، تحقق القدر الكافي من العدالة، وإيجاد أنماط إنتاج مستجدة فحسب، بل إنه يدعو إلى ذلك ويحض عليه باعتباره من لوازم عمارة الأرض.
والبعض من الحداثويين يرغب في إعادة مسار الآخرين نحو (الحداثة) من حيث بدأ الآخرون، لا من حيث انتهوا. ولذلك يعطون مدلولاً مخادعاً لمفهوم ما بعد الحداثة. تماما كما لو أنهم يدعون لنبدأ من عصر البخار لنصل إلى ما وصل إليه الغرب. ولا نعرف إن كانوا يقولون ذلك وهم في كامل وعيهم، أم أن إرهاصات فشل المشروع جعلتهم يتشبثون بالوهم. فالقول بالصيرورة يعني أن أمامنا ملايين السنين الضوئية (لنصل لما وصل إليه الغرب). والقول بالإيديولوجيا، يتعارض مع الديمقراطية، وبالتالي يقدمون الحداثة مشروعاً شمولياً كالشيوعية أو كنيسة كالتي ثارت عليها أوربا زمن حكم ملوك الحق الإلهي، فأي حداثة هذه؟!!!
لقد أدركت المجتمعات التي تحقق نموا اقتصادياً مطرداً وإنتاجاً ثقافياً متزايداً ومتمايزاً عما هو سائد في العالم وإنجازات تكنولوجية على صعيد المعلوماتية والتصنيع الشامل، خارج الحيز الغربي، أن الأبنية الثقافية والاجتماعية لا يمكن استيرادها، وإنما تنبثق من المجتمع وتنمو بنموه في كل المجالات. بينما الحداثويون عندنا يقولون بلسان الحال "موتوا لنستورد أناساً آخرين يعيشون في أرضكم بأفكارهم" فالموت الثقافي لا يختلف عن الموت البيولوجي. وهي مقولة يمكن فهمها عند قول الأم أو الأب للابن العاق " هذا ليس ابني "أو قول أحد السلاطين في القرن العشرين عن ابنه الذي انقلب عليه "الابن ابني والفعل ليس فعلي"..
وهنالك خطأ متعمد آخر يقترفه الحداثويون، عندما يحاولون إسقاط التاريخ الأوربي، والدور الذي لعبته الكنيسة، على مجتمعاتنا، كما لو أنها شهدت ذلك الفصام النكد بين الدين والعلم، وذلك الصراع الدموي بين علماء الدين وعلماء الطبيعة كما كان بين العلماء والكنيسة في الغرب، بل تراهم يفتعلون الصراعات، ويمثلون دور الضحية، وربما اعتبر بعضهم نفسه غاليليو، مع أنه لا يعرف استخدام الحاسب الآلي، أو إصلاح أبسط عطل في سيارته.
لو توجهت همة الحداثويين للتنمية الاقتصادية كما يفعل الصينيون، وعملوا على تحقيق نهضة مستدامة، لا تعتمد على المواد الخام والثروات الطبيعية فحسب، ولو أنهم عملوا على إيجاد بنية تحتية قوية تكون أساساً للنهضة الشاملة، كما تفعل الأمم الصاعدة، ولو أنهم ركزوا على نظافة شوارع بلدانهم، ومحاربة الآفات الاجتماعية التي تعصف بأقطارهم كالسرقة، والرشوة، والمحسوبية، والبيروقراطية،والاستبداد لوجدوا التفافاً جماهيرياً وقوى مساندة كبيرة في مقدمتها الإسلاميون. ولكنوا ركنوا لمشروع تقويض أركان مجتمعاتهم ثقافياً ومجتمعياً، والذي تسعى القوى المعادية للأمة إلى جعله حقيقة واقعة.
خطيئة أخرى يرتكبها الحداثيون عندما يربطون الوسائل بالثقافة التي أنجزت في ظلها. فقد أنتجت الشيوعية كماً هائلاً من الوسائل التكنولوجية والصناعية في ظل ثقافة شمولية، رغم تعارض الشيوعية مع الكثير من المسلمات الحداثوية الغربية على الصعيد الثقافي.
لقد برر الحداثيون لأنفسهم وحلفائهم الكثير من الجرائم بحق المواطنين الآخرين، فسجنوا وقتلوا وهجروا آلاف الناس من مختلف الأقطار، سواء بشكل مباشر أم عبر التحريض، والسكوت والتبرير والرضى. فباسم رفض (الجمود والانغلاق) وباسم (الانفتاح والتفاعل مع الثقافات الإنسانية) دُمرت أسر، ورُمّلَتْ نساء، ويُتّم أطفال وشرد شباب في عمر الزهور.. وإذا تحدث القوم عن الحرية فهي لا تعني مدلولات الكلمة، وإنما كبت الحرية الحقة ليعيش أدعياء الحداثة وتنمو ثرواتهم وسلطاتهم في ظل الدماء وآلام الآخرين.. الحداثوية لا تؤمن بأهمية إفساح المجال لكل التعبيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية للقيام بدورها في اختيار النموذج الذي يسود بالانتخاب الطبيعي لا القسري.. وهي ليست مشروعاً مفتوحاً لكل قيم المساهمة والمشاركة، وإنما نوع من الجمود والتكلس والهروب من الواقع والابتعاد عن معادلاته وتحدياته الحقيقية.. وأصحابها ينظرون إليها كما لو كانت مجموعة من السلع والمواد المستوردة.. هذه الحداثوية جريمة ضد الإنسانية، وهي كنيسة جديدة مصيرها الموت والعدم.