تمثل قضية الابتعاث والدراسة في الخارج نموذجا من القضايا التي تختلف فيها الآراء وتتداخل الأبعاد ويدلي فيها كثيرون برأيهم , تارة معتمدين على بيانات علمية وبحثية وهم قلة نادرة , وتارة أخرى مشاركين برؤيتهم الشخصية وتقييمهم الذاتي وخبرتهم الثقافية وهم الأكثرية الغالبة ..
والواقع أن الباحث الجاد في القضايا التي يختلط فيها الإشكال الثقافي بالاجتماعي لا يسعه إهمال آراء الطرفين , بل لا يسعه حتى أن يهمل آراء رجل الشارع الذي قد يرى المشكلة من بعيد .
لكن هذا الباحث الجاد لابد أن يعتمد في بحثه على المادة العلمية والبيانات الواقعية والاستدلال المنطقي المتفق عليه بينما هو يعرض رؤيته للآخرين .
من هنا أردنا أن نناقش موضوع الدراسة بالخارج ونحاول أن نصل لتقييم صائب لابتعاث طلابنا خارج أوطانهم , في رؤية نبغي أن تمثل إشارة بيانية لقادة الرأي في المجتمع وأصحاب القرار فيه ..
استثمار المعرفة :
لاشك أن نهضة التعليم ومواكبة التقدم العلمي إنما تمثل ملمحا بنائيا أساسيا في قدرة الأمم على التحضر ومواكبة مسيرة العالم من حولها
كما أن مكانة التأثير الإيجابي للدول والمجتمعات تجاه غيرها إنما اعتمادها بالدرجة الأولى على مدى قدرة أبنائها على تطبيق المناحي العلمية تطبيقا يدعم قدرتها وقوتها ويبدي تميزها ويفسح لها مكانا مناسبا للتقدير والاهتمام بحضارتها وقيمها ومبادئها .
ومع تقدم المحيط العالمي في المجالات العلمية والثقافية المختلفة صار هناك بون كبير بين المجتمع العربي والإسلامي وبين العالم من حوله سواء في مستوى التعامل العلمي مع البيئة والاستفادة منها أو في مستوى التطبيق التكنولوجي والثقافي والقدرة على استثماره فيما يخدم مصالحه .
ومثل التسابق في حركة نقل العلوم وتطبيقها خطا بيانيا واضحا يظهر القادرين على مواكبة حركة التقدم العالمي أو العجز عن ذلك , حتى جعلت الدول لنفسها خططا واستراتيجيات تسابق بها غيرها لنقل المعارف والعلوم من كل مصدر متميز بها ومن ثم تحاول الدخول في مضمارها .
من جانب آخر مثل الاستثمار في عناصر التعليم نوعا من أفضل أنواع الاستثمار, المضمونة نتائجه .
انتاج المعرفة :
هناك سبيلان بالتقدير المنطقي لامتلاك المعارف يستحوذان على الخطط التنموية في شتى المجتمعات الباحثة عنها, السبيل الأول هو استيراد المعارف عن طريق شرائها بالمال , واستقدام العقول العلمية من الخارج لتقوم بتنفيذها والإشراف عليها و الاستفادة بها , وههنا تكمن عدة أزمات حاصلة أهمها وضع قدراتها تحت تصرف الغريب المستقدم والكشف الكامل عن حقيقة ما يمكنها أن تتميز به في المجالات المختلفة والتي ربما تكون حساسة لأقصى الدرجات كالمجال العسكري والاستثمارات المالية وغيرها مما يجعل الدول كالكتاب المفتوح أمام الآخرين , ويسهل على أعدائها كشف قدرتها ومعرفة نقاط ضعفها ومن ثم التأثير سلبا في مسيرتها ..
السبيل الثاني لامتلاك المعارف هو انتاج المعرفة انتاجا ذاتيا , كما قام بذلك المجتمع المسلم في بدايات نشأته , وحقق السبق الكبير في هذا السبيل , وأضاءت العالم ابتكاراته واختراعاته وعلومه في وقت لم تكن فيه أوربا تستطيع إلا أن تكون له تابعة وناقلة لعلومه وقدرته المعرفية .
ولاشك أن خيار انتاج المعرفة هو الخيار الذي تدعمه الرغبات النفسية عند أبناء مجتمعاتنا الإسلامية التي هي في بالغ الشوق لعودة عزتها وسبقها وتقدمها , كما تدعمه كثير من النوايا الطيبة عند كثير من المخلصين من أبنائه سواء من المسئولين أو من عامة الشعب .
لكن خيار إنتاج المعرفة لم يعد كسابق العهد في أزمان التاريخ الماضي , ولم يعد الاختراع والإبداع يخرج من المعامل الشخصية في بيوت النابهين والفذين من العلماء كما كان سابقا , كما لم يعد مجرد فكرة جديدة , بل صار بحاجة أساسية لدعم مجتمعي كبير ورعاية علمية كاملة ..
ومن جهة أخرى كذلك صار انتاج المعرفة يتأثر بعدة مؤثرات فعاله ومعيقه في نفس الوقت من أهمها تعمد الغرب القبض على رؤوس تلك المعارف وأسرار التقدم فيها , مع احتفاظهم بالحق في الاستفادة من نقلها كمنفعة لهم فيما يختارونه سواء كانت مادية – كشروط الانتفاع أو الشراكة وحق الإدارة - أو ثقافية – كشروط التدخل الثقافي وبث الرؤية التغريبية وغيرها –
كما يحتاج خيار إنتاج المعرفة أيضا إلى قدرة المجتمع على امتلاك المنتجات المتقدمة والاضطلاع بما تم الوصول إليه عالميا من نظريات علمية ومشاهد تطبيقية حديثة , وهو الأمر الذي يحتاج إلى نوع من تفاعل إيجابي مع مراكز العلم والتكنولوجيا العالمية ومع العلماء في العالم .
كما يحتاج خيار إنتاج المعرفة لدعم العملية التعليمية في البلاد عموما وإنشاء الجامعات المتطورة لاستيعاب تلك العملية بنجاح , وتفعيل منظومة تعليم متطورة كذلك تنتظم السلك الدراسي من البدء وحتى الانتهاء , والاهتمام الخاص بالدراسات العليا والمتقدمة , وإتاحة الفرصة والإمكانات لكل متميز من الطلاب للمشاركة بعطائه وجهده .
الدراسة بالخارج
بدأت الحكومات في الابتعاث للخارج أولا للدول العربية ثم إلى بعض الدول الأوروبية ثم إلى أمريكا ثم ابتعثت إلى كندا وأستراليا ، واستمرت في الزيادة فيما بعد مع بداية الترتيبات المستقبلية
ومع تزايد عدد الخريجين من الثانوية العامة وزيادة خريجي الجامعات ونقص الدراسات العليا في الداخل تعالت الأصوات المنادية بزيادة الابتعاث للخارج حتى شمل الابتعاث أيضا ألمانيا والصين واليابان وبعض الدول الأخرى
وظل الداعمون لفكرة إرسال الطلاب للدراسة بالخارج يعزفون على وتر الرغبة في التوازن بين خريجي الجامعات السعودية وخريجي الجامعات العالمية الكبرى مما يقولون أنه سيجعل المملكة في مصاف الدول المتقدمة وينتظرون بهذا تقليلا من فجوة التنمية بين البلاد وبين الدول المتقدمة , ويعتبرون ذلك يمكن أن يدعم المزيد من البحوث العلمي والتطوير ..
ووصل عدد المبتعثين الرسميين من المملكة للولايات المتحدة وحدها في العام الماضي إلى 12661 طالبا بحسب تصريح وزارة الخارجية الأمريكية واعتبرتها أمريكا في المرتبة العاشرة ، بزيادة نسبتها 28 في المئة مقارنة بزيادة 25 في المئة في العام السابق
وحقيقة القول أن هناك بعض التوقعات الإيجابية قد حصلت بالفعل , واستطاع بعض الطلاب أن يشكلوا رافدا علميا جديدا لتأهيل الكفاءات الداخلية ودعمها وتطويرها , لكن مع تطور فكرة الابتعاث - ورغبة الكثيرين من أبناء الوطن في السفر للخارج للدراسة والاحتكاك بمجتمعات غربية وشرقية تختلف ثقافيا واجتماعيا عن مجتمعهم وتحتاج الدراسة فيها إلى فترات طويلة لايستبعد فيها التأثر السلبي ثقافيا وقيميا - ظهر ما يمكننا أن نسميه أزمة ظاهرة الابتعاث !
محاولات التنظيم :
وحاول القائمون على الخطط الابتعاثية من تأطير منظومة الابتعاث الخارجي من خلال بعض ضوابط للحد من ىثارها السلبية بناء على شكاوى نقدية من علماء ودعاة وغيرهم , وحاول الجهاز الحكومي وضع ضوابط لاختيار المبتعثين وحدد المواصفات التي يمكن من خلالها اختيار الطالب للدراسة الممنوحة .
لكن تعرضت تلك الإجراءات لنقد من جهات مختلفة تمثلت في رؤيتهم أن هناك عدم وضوح لضوابط ومبررات الاختيار أو الترشيح للبعثات التي تتبناها وزارة التعليم العالي ، وكيفية اختيار الأشخاص المرشحين في ظل التنافس والطلب المتزايد للالتحاق .
كما ظهرت الشكوى من عدم التكافؤ بين المبعوثين الحكوميين والدارسين الأحرار – الغير مرتبطين ببرنامج ابتعاثي – من حيث فترة الدراسة أو الإمكانات المتاحة , وكذلك ما يتعرضون له من مشكلات , مع مطالبات بتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص لجميع الطلاب المتقدمين، و اشتراط توافر التفوق العلمي وحسن السلوك واجتياز مقابلة شخصية دقيقة و اختبارات قوية ، مع إلمام بلغة البلد المقصود ما يظهر جديته ورغبته الأكيدة في العلم .
كذلك اشتكى بعض دارسي العلوم النظرية مما اعتبروه إهمالا لتخصصاتهم وأبدى بعضهم الرغبة في إكمال مسيرتهم العلمية بعد الإطلاع على آخر المستجدات العالمية في تخصصاتهم .
وتساءل البعض الآخر حول وجود برامج ودراسات تقويمية بالفعل لبرامج الابتعاث , وسط مطالبات متلاحقة نحو الحاجة إلى وضوح أكثر في رؤية الابتعاث في الجوانب العلمية المختلفة , وأهدافها والحاجة الى التعمق في فهم برامج الدراسات والتدريب .
الرؤية المضادة :
بالتوازي مع محاولات دفع عجلة الابتعاث و الاستفادة منها ظهرت انتقادات كثيرة لبرامج الابتعاث جميعها من وجهة نظر أخرى ومن رؤية مضادة لما تقوم عليه رؤية الدعوة إلى الدراسة بالخارج .
قال أصحاب تلك الرؤية أن الابتعاث إنما هو نوع جديد من أنواع الثغرات التي يستطيع التغريب أن يدخل منها دخولا في عمق المجتمع ويستطيع من خلالها الغرب التغيير في منظومتنا الحياتية والثقافية عبر تغيير ثقافات المبتعثين الذين ربما يعودون فيتقلدوا مناصب ومراكز مرموقة في المجتمع ويصبحوا في مكان القدوة لأبناء الوطن وعندئذ تتعرض القيم والمبادئ لهزة عنيفة من هؤلاء الذين غالبا ما يكونون قد صاروا غربيين فكرا وثقافة وتكون القيم الإيمانية الإسلامية عندهم قد أصابها كثير من الضعف والوهن
بل حذر أصحاب تلك الرؤية من تكوين ولاءات سياسية لدى بعض المبتعثين مع الغرب تجعلهم يدا للسياسي الغربي في توجيه مجتمعنا نحو رغباته بشكل عام .
كذلك طعن أصحاب تلك الرؤية في برامج الابتعاث ذاتها من حيث قدرتها على دعم التقدم العلمي مستدلين بفشل كثير من المبتعثين في الحصول على الدرجات العلمية ورسوبهم في دراساتهم وعدم قدرتهم على نقل ماكان مأمولا منهم علميا
مع عودة كثير منهم وقد تأثر تأثيرا سلبيا على مستوى الأخلاق والمبادىء , الأمر الذي جعلهم يعتبرون برامج الابتعاث نوعا من الإنفاق الاقتصادي الفاشل ونوعا من الأمل العلمي الغير واقعي .
وطالب أصحاب تلك الرؤية ومعظمهم من الدعاة وعلماء الشريعة باستبدال برامج الابتعاث الخارجي بما أسموه بالابتعاث الداخلي عبر إنشاء جامعات متقدمة داخليا تقوم بالدور المطلوب .
الأزمة وفلسفة الحلول المعروضة
إذا حاولنا عرض الأفكار المتفاعلة بخصوص قضية الابتعاث عرضا موضوعيا , فإننا بصدد عدد من الآراء الداعمة والمعارضة لابتعاث ابنائنا بالخارج وبينها نوع من غمامية وضبابية ينبغي إزالتها , كما يلزم فض الاشتباك بين الداعمين والمعارضين للفكرة فضا علميا رصينا .
وابتداء فلست مع الذين يهاجمون المخالفين لهم ويسبونهم ويصفونهم بالفسوق والمجون وانعدام الأخلاق وغيرها , ولست كذلك مع الفريق الذي يتعرى من مبادئه ويتبرأ من ثوابته وينسى قيمه الدينية والثقافية والعرفية ويتكلم بمبررات بعيدة عن كل ذلك ..
فالدعاة إلى الله وهم أصحاب مبدأ وقيم عليا وأصحاب ثوابت إيمانية ينبغي أن يتناولوا موضوع الابتعاث عبر محورين الأول الإلمام بالرؤى التي يعرضها الطرف الآخر وفهم مبرراته , ومن ثم تقييمها من جهة الصواب والخطأ الفعلي , والثاني أن يعدلوا من لغة الخطاب التشنيعي ويجعلوه أكثر هدوء وأدعى للحوار والإقناع
وأصحاب الرأي الآخر المنفتح على الابتعاث بلا حدود ينبغي عليهم أيضا أن ينطلقوا من منطلقات متفق عليها وإلا صاروا غربيين أكثر من الغرب , فحتى الغربيون لهم قيمهم ومنطلقاتهم التي على اساسها يتخذون القرارات , أما بعض هؤلاء فيكادون يتعرون من كل ثابت أثناء تقليدهم للغرب في السلوك والتفكير , إن على هؤلاء أن يضعوا لأنفسهم إطارا مرجعيا معلوم الملامح يظهروا من خلاله في حواراتهم وآرائهم , كما ينبغي عليهم كذلك إعلان الالتزام بالقيمية الإسلامية الإيمانية التي نعتبرها جميعا ثابتنا وخلفيتنا السلوكية والعقائدية .
إن سبب التعارض في الرؤى من الابتعاث برأيي هو أمران : الأول عدم استيعاب كل طرف حجج الفريق الآخر ومبرراته والثاني اختلاف المنطلقات والثوابت .
فإن المنافحين عن فكرة الابتعاث الداعمين لها هم نوعان ايضا , نوع قد تربوا في ديار الغرب معظم حياتهم واستقوا منه قيمهم وطرائق حياتهم , فهم يرون الفكر الغربي وأسلوب الحياة الغربية هي الأمثل وأنه على حضارتنا لتستطيع التفوق أن تلحق بالغرب , وهم في ذلك يهونون ويقللون كثيرا من خطر المزالق والأخطار التي يمكن أن تنجم عن ذلك
ونوع آخر هم في حقيقتهم أصحاب نوايا لايمكن وصفها بالخبيثة , بل يريدون مصلحة بلادهم وأمتهم ويبغون لها التقدم والازدهار بحسب ما وصلت إليه رؤيتهم , وهؤلاء يرون الابتعاث الخارجي نوعا من التقدم والرقي , وهو نقل للعلوم والتكنولوجيا التي لايمكن أن تنتقل إلا به , كما يرون فيه اتصالا بالشعوب واحتكاكا بالثقافات وتعريفا لها بقيمنا وفضائلنا , وتعرفا عن قرب على مجتمعات لها صورة مقولبة لدى البعض عنوانها الانحلال الاخلاقي والحريات غير المنضبطة أو العكس على أنها مجتمعات مثالية خارقة مذهلة يصعب منافستها، فهم يرون أنه عندما يسافر أبناؤنا الى هناك فإنهم سيكونون أكثر إدراكاً ومعرفة بمُحددات تحضّر وتقدّم تلك المجتمعات , ويظنون أنه عندها سيختفي كثير من الأفكار التي تُعيق العلاقة مع الآخر وتساعد في ترميم الصورة التي تم تشويهها من خلال الأحداث المختلفة .
كذلك يرون أن في هذا السفر تقويم للاختيار العقلي تجاه عالمية الدعوة للقيم وعدم التقوقع , إذ إنهم يرون أن صاحب العقلية المنفتحة يكون على استعداد أكثر لتقبل الأفكار، والشجاعة في الحوار وتقبل المعارضة والمقابلة لأفكاره بالنقد والرأي الآخر.
كما يرون أن الاغتراب يمكن أن يؤثر في الشخص فيصبح أكثر اعتمادا على نفسه وأكثر استقلالية في أفكاره وقادرا على الحوار مع مختلف العقليات .
لكنهم أيضا يقللون من الآثار السلبية المترتبة على ذلك والتي من أهمها وضع خيرة الشباب وأصحاب الهمم العالية من بلادنا أوطاننا الإسلامية تحت ضغط التوجيه الغربي بقيمه الاجتماعية الغير منضبطة وتقاليده الشخصية التي تميل إلى الانحراف أكثر من ميلها للاستقامة بمعناها الإسلامي .
الرأي الآخر وهو الداعي إلى منع الابتعاث , يتحدث عنه شخصيات معظمهم من الدعاة والعلماء كما سبق , وهم ينظرون إلى الابتعاث نظرة سلبية , بناء على آثاره الواقعية , ويعتبرون المعاني الإيجابية التي يذكرها الداعمون للفكرة نوعا من وهم لايمكن تحقيقه ويستدلون على ذلك بالإحصاءات الحقيقية والتي يمكن أن تدعم موقفهم من كثرة رسوب وفشل المبتعثين , وانتشار الانحراف الخلقي بينهم , وضعف الوازع الإيماني في سلوكهم , وخلخلة المعاني الإيمانية والإسلامية في أفكارهم وغير ذلك .
فالأولون يهتمون بالظواهر ومناحي التقدم ويقللون من غيرها , والآخرون يهتمون بالقيم والديانة والاستقامة ويدعون للبحث عن طرق مختلفة لسد ثغرات التأخر العلمي والتكنولوجي .
وعلى أية حال فإننا نستطيع أن نلحظ على حركة الابتعاث عدة نتائج واقعية :
أولا : عدم الدقة في اختيار المبتعث المناسب , سواء حيث مستواه العلمي وقدرته على التفوق والابتكار , أو من حيث استعداده الفعلي ودافعيته نحو التميز أو من جهة وضوح رؤيته وهدفه من هذا الابتعاث بما يخدم وطنه , خصوصا مع تزايد أعداد الدارسين على نفقتهم الشخصية , مما يعتبرون السفر للخارج والدراسة به نوعا من الزخرف والتميز الاجتماعي , كما يعتبرون الحصول على الدراسات العليا نوعا من التفاخر والتباهي فحسب , ولاشك أن كثيرا من هؤلاء تضعف قدرتهم الشخصية على صيانة أنفسهم من الأخطار الفكرية والقيمية والأخلاقية .
ثانيا : تزايد عدد الدارسين بالخارج بشكل مطرد وكثرة أعداد الدارسين في تخصصات ضعيفة وقليلة الأثر في دفع المسيرة الحضارية لأمتنا , حتى صار هناك اقبال كبير على دراسة ما يسمى بالميتافيزيقا والسحر وعلم ما يسمونه بما وراء الطبيعة والتنويم المغناطيسي وغيره في الجامعات الأمريكية والبريطانية التي تمتص أموال الطلاب وتبيع لهم الوهم مكتوبا في شهادة ورقية . ( انظر تقرير جامعة ميتافيزيكس بنسلفانيا عن عدد المبتعثين العرب الدارسين فيها )
ثالثا : تأثر كثير من المبتعثين الذين يعيشون بمفردهم في الخارج تاثرا سلبيا كبيرا بنوعية الحياة الغربية الشخصية , والتي تقلل من أهمية القيم الإيمانية وتدعو إلى الحرية المطلقة في التعامل الفردي والجماعي , ومن ثم تأثرهم بدعوات الحرية الشخصية في العلاقات الجنسية بلا ضابط , ودعوتهم إلى التحلل من الضوابط القيمية والإسلامية والعرفية , وتنظر إلى ابناء مجتمعهم نظرة دونية غير متكافئة معهم إذ يرون أنفسهم قد تميزوا كثيرا بدراستهم في الخارج لهذه المعاني .
رابعا : رفض كثير من المبتعثين الذين قد قضوا سنين في دراستهم بالخارج لسيادة الفكر الإسلامي وسيطرته على المجتمع , ورفضهم لفكرة التدين الشخصي , وما يتعلق بها من المظاهر الإسلامية المختلفة .
خامسا : ارتباط عدد كبير من هؤلاء المبتعثين بالبلاد الخارجية التي درسوا فيها , ورغبتهم في استمرار المعيشة فيها والدعوة إلى الهجرة إليها وترك أوطانهم , ومن ثم نقل أموالهم ومشاريعهم إلى الخارج بشكل غير مدروس .
الابتعاث رؤية خاصة :
أستطيع بعد تلك النظرة حول الابتعاث للخارج أن أكون رؤية للموضوع يمكنني أن أطرحها على أصحاب القرار وقادة الراي في المجتمع لعلها أن تضيف تصورا إيجابيا حول الموضوع :
1- هناك أهمية فعليه لنقل العلوم والتكنولوجيا الغربية والشرقية إلى بلادنا ونحن بحاجة ماسة إلى ذلك .
2- لايمكن نقل هذه المعارف والعلوم إلا عن طريقين الأول استيرادها وشراؤها والاستعانة بالخبراء الأجانب لتسييرها وتنفيذها في بلادنا وهو مبدأ له آثاره السلبية الكبيرة , أو انتاج تلك المعارف في بلادنا انتاجا ذاتيا وهو المبدا الأكثر قبولا على المستوى الشعبي والنخبي لكنه يحتاج دعما فائقا ويستلزم الخطط القوية والإمكانات والتضحيات الكبرى .
3- يحتاج إنتاج المعرفة إلى قيادات تاريخية فذة تضع نصب عينيها تقدم البلاد وازدهارها وتتحرر من الخضوع أو التبعية للخارج , وتدين بالولاء لدينها وتتصف بالإخلاص لربها ولعل هناك بالفعل من هم على تلك الصفات .
4- الخطوة الأولى لبناء المعرفة هي بناء المنظومة العلمية القوية والحديثة , على أسس دقيقة وأساليب قد ثبت نجاحها بالفعل , مع منظومة فعالة للمتابعة والتقويم , على أن تبدا هذه المنظومة منذ بدايات سني التعليم وحتى نهايته , مع توفير الفرص والإمكانات للمتميزين والمبتكرين ودعمهم من كافة المناحي .
5- الخطوة التالية هي إنشاء الجامعات ذات الإمكانات العالية , والتي يمكن من خلالها متابعة الدراسة العالية بتميز .
6- يمكننا عند الحاجة استيراد الخبرات الأجنبية التعليمية من معلمين ومتخصصين بشروط دقيقة ومنضبطة , أهمها اختيار الكفاءات الفعلية , مع حسن السيرة والسلوك المشهود لها مع التزامهم بقيم ومبادىء البلاد , وعلى ألا تكون لهم صفة إدارية أو إشرافية
7- يمكننا تفعيل مايمكننا أن نسميه بالابتعاث الجمعي , وهو الابتعاث المؤقت بفترة محدودة القاصر على بعض التخصصات الضرورية والهامة , ويكون من خلال مجموعات محدودة من المهم أن تكون مشروطة بشرط التميز والتفوق ووضوح الهدف والقدرة اللغوية الأجنبية مع شرط إنهاء الدراسة الداخلية في البلاد قبل الابتعاث و ان يكون السفر بصحبة زوجة , ومن خلال مجموعة تشرف عليها لجان متخصصة وتقوم معها بدور المتابعة والتقويم .
8- بالتالي نؤيد الدعوة إلى تضييق السماح على صغار السن والذين لم يتموا الدراسة الداخلية والدارسين بعيدا عن البرنامج الرسمي والمغتربين فرادى والدارسين في تخصصات غير ضرورية لما ثبت من سلبيات ناتجة من فتح هذا الباب .
9- محاولة سد ثغرات الحاجة للاطلاع على الانجازات البحثية والعلمية العالمية عن طريق تفعيل دور المؤتمرات البحثية العلمية المشتركة والندوات العلمية سواء في الداخل أو الخارج , والتي يمكن أن يوضع لها ميزانية خاصة بها من خلال خطة علمية مدروسة تضع نقاط الحاجة وخطوات الإحاطة بالمنجزات المختلفة وتخصص لذلك لجان متخصصة .
10- وضع خطة للاستفادة بالخبرات العلمية الوطنية المهاجرة بالخارج من خلال دعوتهم لاداء واجبهم تجاه أمتهم لنقل ما تعلموه من معارف وعلوم وما تخصصوا فيه ونجحوا فيه من إنجازات , عن طريق الاستفادة بهم في برامجنا الجامعية في الدراسات العليا والإشراف على رسائل الماجستير والدكتوراة , ومتابعات المؤتمرات المنتظمة والإشراف على البرامج العلمية المتخصصة كل في مجال تخصصه وإبداعه .