تونس نيوز و10 سنوات من الجهاد الإعلامي.. الاستبداد أبو الهزيمة والتخلف..
4 جمادى الثانية 1431
عبد الباقي خليفة

ترددت في استخدام كلمة شمعة وشموع في التعبير عن الذكرى العاشرة لانطلاق مسيرة " تونس نيوز " الميمونة، بسبب كراهية ومقتي الشديد للانطفاء والمنطفئين، وحبي لما يكبر ولا يصغر، ويتقد ولا ينطفئ، ويقوى ولا يضعف. ومن ذلك شجر البلوط الذي إذا رمى جذوره في الأرض، وصعد قليلا لا يعود القهقرى، وكذلك الزيتونة المباركة " زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور..." وكذلك النخلة " أصلها ثابت وفرعها في السماء ".

 

إذاً مثال الشموع لا يضرب بشكل صحيح إلا في ميدان التضحية والفداء، فيقال عنها: إنها" تحترق لتنير ظلام الآخرين " أو " من أجل الآخرين " ولكن الإنسان الذي يحاكي الشمعة في احتراقها، لا يحترق، فالشهداء مثلا " أحياء عند ربهم يرزقون ". بل الإنسان الذي يحاكي الشمعة في احتراقها يزداد قوة وتألقا، ويكبر ويستنير وينير للآخرين دروبهم، لعصور وعصور، ولا يحترق، بل يشع أكثر، وينير أكثر كلما تباعدت الأزمنة واختلفت الأمكنة.

 

لقد أطلقت " تونس نيوز-ولا نقول: أطفأت-، شمعتها العاشرة " فالشموع المنطفئة تذهب للعدم، أما ما أوقدته " تونس نيوز " وغيرها من المواقع الالكترونية، الحوار، وتونس أونلاين، والفجر نيوز، والسبيل، وغيرها، إنما هو سجل وتراكمات للديمقراطية وحرية التعبير في بلدي السجين تونس. هو ممارسة حقيقية لهذه القيمة، وهذا المبدأ الذي يتعرض للتدنيس بأشكال مختلفة في بلدي الحبيب.

 

في دول غير إسلامية مثل أمريكا اللاتينية، بوليفيا، كوبا، فنزويلا، وغيرها، وفي دول بجنوب شرق آسيا، ولا سيما في فيتنام، قدم الناس أرواحهم، وتعرضوا للسجون، ومصادرة ممتلكاتهم، وتعرضوا لكل أصناف القمع والتنكيل " إنهم يألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون ".. قدموا أرواحهم دون ضمانات، ودون مقابل كالذي يرجوه المؤمن في الدنيا والآخرة، شهادة على الناس، وعمل للتمكين لمبادئه، أداء للأمانة ورجاء ما عند الله. ولكننا نجد من يجبن عن قول كلمة الحق، (هذا إذا لم يتواطأ بهذا الشكل أو ذاك) تحت أي لافتة إسلامية، كما نؤمن، أو قومية كما فعل آخرون جادوا حتى بأرواحهم من أجل بلدانهم وأممهم، كغاريبالدي، الذي صاح في شعبه " لا أعدكم بالسمن والعسل، ولا بالمال والعمل، (...) ولكن من يحب بلاده فليتبعني " أو نضال تحت العناوين المعروفة كما سبق الحديث عن أمريكا اللاتينية وغيرها، أو وطنية والأمثلة على ذلك كثيرة، كديغول، ومصدق، ومانديلا، وقد جمع شهيدنا فرحات حشاد، بين جميع أصناف النضال وعناوينها الملونة، لكنه مات إسلاميا رغم أنف من ينكر ذلك. ولذلك قتلته فرنسا، بينما كانت تهيئ المتغرب بورقيبة، لسلطة بدون معارضة، وأكمل بنفسه تهيئة الأرض التي بدأت بشق صفوف الحزب الدستوري، وإبعاد الشيخ عبد العزيز الثعالبي، وانتهت باغتيال صالح بن يوسف، واستمرت في قمع الأحرار وتدميرهم حتى اليوم.

 

تميزت تونس نيوز خلال مسيرتها بالعديد من الإيجابيات، وهي فتح فضائها لكل الأقلام، على تعدد مشاربها وتوجهاتها. وهي تختلف عن كثير من التجارب الإعلامية السابقة، التي كانت موجودة في ظل هامش الحرية الذي قضى عليه نظام بن علي نهائياً منذ وصوله إلى السلطة في انقلاب 7 نوفمبر المشؤوم. فجريدة " الرأي " على سبيل المثال، كانت منحازة ضد الإسلاميين ليس في المساحة المخصصة للآراء المختلفة فحسب، بل حتى في الألوان، وكنت وأنا صغير أستغرب من مقال يخرج في أحسن حلة لأن كاتبه ليبرالي أو يساري، ومقال لإسلامي يكون بالأسود فقط!

 

وهذا الماضي الذي نوجه له هذا النقد العابر، زال نهائياً، فقد حوّل " بن علي " تونس إلى أبيض وأسود، رغم كل المساحيق والأصباغ الكاذبة والمزيفة من الرأس إلى أخمص القدمين.

 

لقد أفسحت، تونس نيوز، في مسيرتها المظفرة الناجحة المجال لكل الآراء. ودارت نقاشات مستفيضة وأحيانا كانت متوترة، وخارجة عن نطاق اللياقة، وهذا شيء مفهوم من أناس قادمين من بلد تحكمه الدكتاتورية منذ أكثر من نصف قرن، وهي قد خَلَفَتْ ديكتاتوريةً استعمارية مقيتة، تصرفت بعنصرية كريهة حيال الشعب التونسي بل نحو شعب المغرب الإسلامي قاطبة، عندما منحت شعبها الديمقراطية والحرية، ونصبت على بلداننا ديكتاتورية بغيضة تعبر عن أسوأ الفترات التاريخية حلكة في تاريخ الإنسانية.

 

وإذا كانت تونس نيوز لم تقدم غير ذلك، فهو عمل كبير وجليل وتاريخي. فهذا الفضاء الإعلامي، الذي لا يخضع للحسابات الحزبية، والأطر الضيقة، التي حببت إلي الحرية والانطلاق، إذ أنها (أي: الأطر الضيقة) ليست هي المحضن الحقيقي للتعبير عن الرأي. ولذلك لم أعد أستغرب كما هو الحال في السابق، عدم وجود جرائد ناطقة باسم الكثير من الأحزاب السياسية في الدول "الديمقراطية" (داخلياً)، والتي هي

 

ديكتاتورية في تعاملها مع شعوب الأمة الإسلامية، وغيرها من الأمم المغلوبة على أمرها.
أمر آخر في غاية الأهمية، أريد التركيز عليه في هذه المشاركة المتواضعة، وهو دور الديكتاتورية في تدمير الأمم وتفتيتها، وإلحاق المصائب الدائمة بها. ولا أتردد أبدا في تحميل الديكتاتورية المسؤولية عن انهيار الاتحاد السوفياتي، ويوغسلافيا، والعراق، على سبيل المثال. فعندما ألتقي بأي من أنصار الاتحاد السوفياتي، أوالرئيس اليوغسلافي الأسبق جوزيف بروز تيتو، أو جمال عبد الناصر، أو الرئيس العراقي السابق صدام حسين، أحمل الديكتاتوريين ما حصل لأممهم وشعوبهم من هزائم، وتفتت، وانقسام، وانهيار.

 

لقد كان بإمكان الاتحاد السوفياتي أن يظل متماسكا لولا الديكتاتورية السياسية المتمثلة في قمع الحريات، ولولا سيطرة الروس على جميع الشعوب الأخرى. وكانت يوغسلافيا تستطيع أن تظل موحدة أو تنفصل في هدوء كما حصل بين تشيكيا وسلوفاكيا، ولكن الإرث الديكتاتوري هو الذي ألجأ الشعوب وتحديداً الصرب لاستخدام السلاح للحفاظ على مصالحهم الخاصة، وامتيازاتهم التي كانت قائمة إبان حكم تيتو، وليس من أجل بقاء يوغسلافيا، وسعيهم لإقامة صربيا الكبرى أكبر دليل على البعد العنصري للنظام الديكتاتوري (وذلك دون التهوين من حجم الجرائم التي ارتكبوها وحملات الإبادة التي مارسوها في البوسنة وكوسوفا) ولو تدرب العراقيون على حسم خلافاتهم بالطرق السلمية، والتعبير عن آرائهم عن طريق البرلمان والإعلام الحر لما لجؤوا للتصفيات الجسدية للوصول لمبتغاهم على جثث خصومهم بعد انهيار نظام صدام حسين. ولأنهم لم يتدربوا على ذلك نجدهم لا يحسنون استخدام الآليات الديمقراطية حتى الآن. ولو أن جمال عبد الناصر كان يحب مصر، ويحب العرب، ويريد تحرير فلسطين حقا، لأشرك الشعب في القرارات المصيرية التي كان تفرده بها السبب الرئيس في هزيمة 67 الكارثية، والتي لا يزال المصريون والفلسطينيون والعرب والمسلمون يعانون من آثارها.

 

الدكتاتورية، جريمة بحق الوطن والجماعة والفرد، بقطع النظر عن (حسن النية). وهي المسؤولة عن التخلف الذي تشكو منه الأمة، وهي اليوم حارسة له. ولذلك فإن النضال ضد الديكتاتورية هو الجهاد الأكبر في عصرنا.

 

لقد ساهمت تونس نيوز من الناحية الإعلامية بجزء من هذا الجهاد الإعلامي الذي يعد جهاد العصر بحق. وإن كان هناك من خاتمة، فهي دعوتنا لأن تكون تونس نيوز لسان حال المعارضة بكل أطيافها. وأن تفسح المجال لأصحاب الأقلام الحرة. وهو ما تقوم به فعلا منذ انطلاقتها المباركة، ولكن بشكل مختلف أي بشكل رسمي يكون معلوما للجميع. وأن تغير من الشكل القديم الذي تظهر به باستمرار، أي أن تكون موقعا ديناميكيا متحولا ومتغيرا باستمرار. وهذا من باب التحديث، الذي لا يتوقف عند شكل معين، وإن احتفظ بالجوهر الإنساني الذي لا يتغير.

 

ليس مهما من يقرأ، وعدد من يقرؤون، ولكن المهم شعور من يكتب أنه لم يقف مكتوف اليدين. ولم ينطفئ، ولم يخرج من الوجود، فالكتابة هي الحياة، والقراءة هي الحياة، والموت هو أن لا تكتب ولا تقرأ. ولكن الأهم بالتأكيد ماذا تكتب وماذا تقرأ، وكذلك ماذا تسمع وماذا تشاهد؟

 

أخيرا هنيئا لتونس نيوز، وهنيئا لنا ولتونس، فهذا الأرشيف سيكون أحد مصادر الأجيال القادمة. وقد منحتنا، الانترنت، فرصة تاريخية لايصال صوتنا للأجيال القادمة، وأننا لم نسكت، حتى وإن خنس البعض، وباع البعض، وانسحب البعض، وحايد البعض، وانقلب البعض، وأصبح يزحف على بطنه " أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم ".