فرنسا والسكرة الكبرى
14 جمادى الثانية 1431
د. محمد يحيى

بينما كانت الطبقة السياسية الفرنسية مشغولة حتى آذانها بالقضية التي اخترعوها وأسموها قضية الحجاب السابغ أو البرقع أو النقاب حسب توصيف الإسلاميين لها، ظهرت فجأة قضية اجتماعية في أواسط شهر مايو الحالي لم تكن في حسبان هذه الطبقة السياسية الفرنسية أو بالأصح فإنها تجاهلتها لأنها لا تصب في مجرى اهتمامها الراهن للنيل من الإسلام والكيد له وإنما تكشف وتفضح جوانب من المجتمع الفرنسي لا يفضل أصحابه هذا التوجه العلماني ضد الإسلام أن تسلط الأضواء عليها.

 

وهذه القضية هي أصبحت فجأة يسيطر على بعض وسائل الإعلام الفرنسية ويوصف بأنه السكرة الكبرى، وهي عبارة عن تجمع لعدة مئات أو لعدة آلاف من الشباب في بعض الأماكن العامة مثل الميادين الكبرى والحدائق العامة لكي يمارسوا معًا حفلة ضخمة لشرب الكحوليات أو الخمور بمختلف أنواعها ثم ينصرفوا بعد أن يصابوا بالسكرة التام أو الناقص لكي يصخبوا ويعبثوا في الأماكن المحيطة بهذا الجمع أو الحفل وهو صخب تقع فيه حوادث وخسارة في الأملاك العامة والخاصة، وقد ظهرت فجأة هذه القضية المسماة بحفلات السكر الكبرى عندما توفي شاب في مدينة بعد سقوطه من فوق كوبري للمشاة وهو مخمور عقب إحدى هذه الحفلات.

 

لكن ما يلفت النظر أساسًا هو رد فعل الإعلام الفرنسي والطبقة الحاكمة هناك والسياسيين على هذه الظاهرة وهي ظاهرة اجتماعية خطيرة ليس فقط لأنها تعطل الإنتاج أو أحد مقدسات النظام الرأسمالي بل أنها كذلك تكشف عن قرائن في المجتمع الفرنسي وهو المجتمع الأوروبي الوحيد بالذات أو المجتمع الأوروبي الرائد الذي كان يصر على أنه مجتمع يملأ حياة أفراده بالثقافة المفيدة وبالأفكار المتجددة ومنها فكرة العلمانية والجمهورية والثقافة الإنسانية وما شابه، ولكن تجلى غبار هذه الدعاية العلمانية عن أن هذا المجتمع وأفراده وبالذات الشباب وهم الجيل الصاعد لا يمتلئون أفكارًا وإنما يمتلئون خواءً وفراغًا يبحثون عن قضائه وتزكيته في ظاهره عبثية مقلقة هي ظاهرة الإقدام على التجمع بالمئات وبالآلاف لأن يستمعوا إلى محاضرة أو عظة حتى ولو عظة علمانية وإنما فقط لكي يشربوا الخمر بكميات كبيرة يصابون بعدها بالغثيان وبالسكر التام وينصرفون إلى صخب وتدمير للممتلكات.

 

ورغم الخطورة الواضحة لهذه الظاهرة ومآلاتها المقلقة على مختلف المستويات فإنها لم تحظَ بذلك الاهتمام وبصرخات التحذير والفزع والرعب التي حظيت به ظاهره ارتداء النقاب في المجتمع الفرنسي في وقت لا يرتدي فيه هذا النقاب سوى عدد لا يتجاوز الألفي فتاة أو سيدة معظمهن أو كلهن ممن يحملن الجنسية الفرنسية وممن يحق لهن وفق ذلك التمتع بكل حقوق الحريات الشخصية المعروفة والمنصوص عليها في القانون الفرنسي.

 

لقد حول السياسيون الفرنسيون وعلى رأسهم الرئيس ساركوزي وأفراد حكومته الوجهة، ورأوا في ذلك الإعلام اليميني اليساري على حد سواء ظاهرة البرقع كما أسموها وجعلوها الخطر الأعظم الذي يتهدد فرنسا ويتهدد كيانها التي أسموها بكيان الاستنارة والحضارة وحرية المرأة وما أشبه، وصاروا يعملون على قمع هذه الظاهرة بكل الوسائل الممكنة ومنها استصدار القوانين في بلد لا تصدر القوانين فيه إلا للضرورة القصوى وبقدر محسوب وبعد أن تراجع وتتم مناقشتها على كل الأصعدة والمستويات، وقد قطعوا في هذا شوطًا بعيدًا برغم أن مجلس الدولة الفرنسي، وهو أعلى سلطة فتوى واستشارة قضائي في البلاد قد أفتى بأنه لا يجوز إصدار قانون يحرم ارتداء النقاب عمومًا وفي الأماكن العامة بالذات لأن هناك بالفعل قوانين أخرى تحرم ارتداءه في بعض الأماكن المحددة مثل المدارس أو أماكن العمل، ورغم ذلك صدر القانون أو صدرت على الأقل حتى الآن توصيات من البرلمان بحظر النقاب.

 

أما الظاهرة الجديدة وهي ظاهرة السكرة الكبرى والتي أصبحت الآن مسار تندر ومسار فضيحة للفرنسيين ولمجتمعهم ولدولتهم حتى في إعلان الدول الأوروبية والأمريكية الصديقة لهم فإنها لم تحظَ إلا ببعض التأسف أو ببعض النصائح التي تدعو الشباب إلى عدم التجمع على هذا النحو الكبير وتقليل التجمع أو إلى أن يحيطوا هذه السكرات الكبرى بنوع من الحماية لكي لا ينصرفوا بعدها في صخب وضجيج أو في شجار وإحداث تلف للممتلكات.

 

وهكذا فإن ظاهرة محدودة الأثر مثل ظاهرة النقاب في فرنسا قد تحولت إلى قضية كبرى بل إلى قضية الساعة وتحولت إلى القضية التي تحجب ما غيرها إلى حد أن سياسيًا فرنسيًا من أهل اليسار صرح في إحدى المحطات التليفزيونية مؤخرًا بأن إثارة هذه القضية وأعني أنها قضية النقاب إنما يقصد بها تحويل الانتباه والأنظار عن فشل الحكومة الفرنسية في إيجاد حلول للمشاكل العاجلة والمهمة في المجتمع الفرنسي مثل مشاكل البطالة وتدهور الاقتصاد وما أشبه بذلك.

 

أما قضية اجتماعية كان ينبغي أن تدق لها أجراس الإنذار وهي قضية تجمع الآلاف من الشباب بلا هدف ولا مغزى ولا معنى سوى شرب الخمر حتى الثمالة وإحداث تلفيات في الممتلكات وصخب في الشوارع بعدها، هذه القضية لم يهتم بها أحد ولم تثر من أجلها سوى بعض عبارات الشفقة أو التحذير البسيطة بدون أي التفات إلى عواقبها على المجتمع ودون أي محاولة ولو بسن مجرد لائحة بلدية تحظر هذه التجمعات التي لا طائل من ورائها.