دموية الأمريكان في أفغانستان .. والسيناريوهات الامبريالية
20 رمضان 1431
عبد الباقي خليفة

أصبح من المسلم به الآن، أن أحد أهداف الاحتلال الأمريكي لأفغانستان، هو ممارسة أشكالا من الإبادة الجماعية، ولم يعد مقنعا الحديث عن الحوادث العرضية لجرائم الاحتلال في أفغانستان، ولا نعتقد بأن هناك شخص يحترم نفسه سيعود مرة أخرى ليدافع عن الاحتلال، حتى وإن كان يقبض راتبا مقابل ذلك . فبعد الوثائق المسربة التي نشرت على موقع، ويكيليكس، لم يعد هناك مجال للتستر على جرائم الاحتلال، الذي يعاني بدوره من الخسائر البشرية، والمادية، حيث قتل أكثر من 68 جنديا خلال شهر يوليو، كما يعاني من إساءته لصورته في العالم، وهي صورة لا تنفع معها أي مساحيق، أوبالونات حرارية لإبعاد القذائف الموجهة إليها على الصعد المختلفة وفي مقدمتها العنصر الاخلاقي . فلدينا الآن آلاف الوثائق التي تتحدث عن جرائم الاحتلال في أفغانستان، والمذابح بحق المدنيين والتي ارتكبتها قوات الغزو الأمريكي في عدد من مديريات أفغانستان .

 

الحقيقة أكبر من الظاهر:
ولا شك بأن الحقيقة الكاملة عن جرائم الإبادة التي ترتكبها قوات الاحتلال في أفغانستان، أكبر مما يتم تسريبه ونشره، ومع ذلك رأينا حجم الارتباك والهلع الذي انتاب الإدارة الأمريكية، من نشر بعض الوثائق التي تم فيها مراعاة الجانب الأمني و" تهديد حياة الجنود " و" تعرض حياة الجنود والأمن القومي الأمريكي للخطر " ! كما ورد في الصحف الأمريكية والالمانية والبريطانية التي نشرت هوامش من تلك الوثائق وليس الحقائق كاملة . وقد سارع وزير، العدوان الأمريكي، روبرت غيتس، إلى التعبير عن خطورة النشر، وتهديده لحياة الجنود وما وصفه بالأمن القومي الأمريكي، ورجا وسائل الاعلام التوقف عن الاستمرار في نشر فضائح سياسات بلاده الاجرامية في أفغانستان، والعراق، والبلاد الاسلامية، وفي مقدمتها العربية وغيرها .
ترى لماذا يخشون الاعلام، ويراقبون مواقع الانترنت، ويسجنون الجنود الذي يسربون معلومات، ويسارعون بردود مرتعشة، كما تفعل المافيات، وعصابات الجريمة المنظمة، عندما يتحدث عنها في وسائل الاعلام، لولا إدراكها لحجم الجرائم التي قامت وتقوم بها بحق الانسانية في أفغانستان، والعراق وغيرها ؟!!!.

 

لقد كشفت الوثائق المسربة عن حجم وكيفية قيام قوات الاحتلال بقتل ميآت المدنيين،إن لم يكن الآلاف في حوادث لم يتم الاعلان عنها، وعن تصاعد هجمات المجاهدين الأفغان، وفي مقدمتهم طالبان، ضد الاحتلال البغيض لبلادهم . ومحاولة اتهام باكستان وايران بدعم المجاهدين، يكشف أيضا عن الأعداء لا يفرقون بين المسلمين، وتقسيمهم إلى متطرفين ومعتدلين، ليس سوى تكتيكا لتفريقهم، وضرب بعضهم ببعض، وإلا فإن استهدافهم جميعا هوالاستراتيجية النهائية للتعاطي معهم، وحتى وإن صدقهم أضراب أبوعبيد الله الصغير.
إن ما نشرته،" ذي غارديان " البريطانية و" نيويورك تايمز" الأمريكية و" دير شبيغل " الألمانية، من ملفات وسجلات بلغ عددها 90 ألفا، ليس سوى قطرة من بحر جرائم الإبادة المرتكبة بحق الشعبين الأفغاني والعراقي، ولا سيما الفلوجة .

 

وإذا كانت بريطانيا قد فقدت أكثر من 320 جنديا، وزاد عدد القتلى الأمريكان عن الألف جندي، فإن عدد الضحايا الافغان من المدنيين يعدون بشكل غيبي، ميآت أوآلاف، كما لو أن حصرهم غير ذي جدوى، أو لا يكتسي أيهأ همية، وهي جريمة أخرى بحق الانسانية، ترتكبها قوات الاحتلال وحكوماتها، أي إخفاء حقيقة عدد الضحايا من المدنيين بحجة زائفة ومقززة وتعبرعن اجرام يفوق الوصف . وعندما يبرر إخفاء الحقيقية بالخشية على أرواح الجنود أوالأمن القومي، يستشف من ذلك أن الإبادة الجماعية بحق الإفغان هي أيضا من متطلبات الأمن القومي الأمريكي أو غيره، كما أبيد الهنود الحمر لنفس الغرض .

 

وعوض الاعتراف بالحقيقة ونشرها كاملة، تم تجريم عملية تسريب الوثائق، وفتح تحقيقات حول ذلك، وتقدير حجم الضرر، الذي ألحقته بالاحتلال على الصعيدين الاخلاقي والأمني، مما يزيد من مخاوف الانسانية من التوحش الأمريكي، رغم أن ما كشف عنه كان قطرة من بحر جرائم الإبادة التي ارتكبتها قوات الاحتلال في أفغانستان، وكانت صحف ألمانية قد نشرت بدورها في وقت سابق صورا لجنود يحتضنون جماجم ضحاياهم . وما ينطبق على الجنود الأمريكان ينسحب أيضا على الفرنسيين، والبريطانيين، والايطاليين، والدنماركيين، والاسبان وغيرهم .

 

حلفاء ظرفيون:
لم تدرك الأنظمة في البلاد الاسلامية، كباكستان ( مثلا ) أن الأمريكان، لا ينظرون إليها كحليف استراتيجي، بل كحليف تكتيكي، تفرضه المصالح الدائمة، وليس هناك صداقات دائمة، كما نقل عن ملكة بريطانيا، إليزابيت الثانية " ليس هناك صداقات دائمة وإنما مصالح دائمة ". فالتعامل بدافع المبادئ لا يكون سوى بين الحلفاء الاستراتيجيين، كبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، أو بين الاثنتين وبقية دول أوربا، والكيان الصهيوني . فمهما حصل من خلافات، وتباين في وجهات النظر، وحتى خيانات، يبقى الجميع،حلفاء استراتيجيين .

 

تجسس الكيان الصهيوني على جميع الدول بما في ذلك الاوروبية والامريكية، وسرق وثائق عسكرية حساسة، وباع أسلحة ممنوعة للصين وروسيا، وجورجيا وغيرها، واستخدم جوازات جميع هذه الدول في جرائم استخبارية وظل الحليف الاستراتيجي، أما باكستان فإنها تدفع اليوم ثمن فشل أمريكا وحلف شمال الأطلسي في أفغانستان، باتهامها بمساعدة الجهاد الأفغاني . وربما كان الهدف من وراء نشر الوثائق السرية،هو وضع باكستان في دائرة الاستهداف،بعد أن فشلت استراتيجية تفجير باكستان من الداخل عبر دفعها لحرب أهلية في وزيرستان، ومع القبائل البشتونية الحليف الاستراتيجي لها بعد سقوط نظام الملك، ظاهرشاه، في أفغانستان . فقد تحدثت بعض الوثائق عن دعم باكستاني مزعوم لطالبان، وهو مانفته اسلام آباد، واتهم قائد الاستخبارات الباكستانية السابق الجنرال حميد غل، البنتاغون، ووزارة الخارجية الأمريكية بتسريب الوثائق المتعلقة ببلاده، ودوره شخصيا لتبرير الهزيمة في أفغانستان . و" تشويه صورة المخابرات الباكستانية " التي حالت ( ربما ) دون توسع الصراع في باكستان، وهمينة قوات أجنبية على مفاعلاتها النووية في ظل فوضى ( خلاقة ) كما وصفها وزير دفاع أمريكا السابق، دونالد رامسفيلد . بينما تستمرالإبادة في باكستان، وأفغانستان، فقد قتل من المدنيين أكثر مما قتل من جنود الاحتلال، مع فارق كبير، واختلاف في الحجم والنوع، فالمدنيين يقتلون بالجملة، غيلة وحقدا وانتقاما للقتلى من جنود الاحتلال، الذين وصل عددهم إلى 408 قتيلا حتى شهر يوليو 2010 م، فقد قتل يوم 26 يوليو الماضي 45 مدنيا أفغانيا جملة واحدة في هجوم صاروخي ارتكبته قوات الاحتلال في اقليم هلمند، وتحديدا في بلدة سانجين، جنوب أفغانستان . وقد أعترفت قوات الاحتلال بالجريمة وإن سمتها " حادثا "ولم تزد عما تخرصت به من قبل بأنها " تحقق في الأمر " .

 

على خطى هولندا:
لم يعد لقوات الاحتلال ما تبرر به بقاءها في أفغانستان، فمنذ وجودها ارتفع معدل الفقر والحرمان، وارتفع عدد الجرائم، وزاد عدد الضحايا، وعادت أفغانستان ليس إلى القرون الوسطى، ولكن إلى المجتمع البدائي ما قبل الحضارة، وزادت نسبة الفساد في الحكم، وهو وفق " هيئة النزاهة ومكافحة الفساد " غير الحكومية في أفغانستان " يبلغ حوالي بليون دولار من النتاج المحلي الاجمالي " وكذلك زراعة الحشيش . لذلك لم يبق للاحتلال سوى أن يعجل بالرحيل، دون انتظار سنة 2014 م، كما فعلت هولندا التي أعلنت أنها ستسحب كامل قواتها بداية من 31 يوليو، واعلان كندا بدء الانسحاب سنة 2011 م . وهو ما رحبت به طالبان وفق صحيفة " فولكسكرانت " نقلا عن الناطق الرسمي باسم الحركة، قاري يوسف أحمدي . والذي دعا بقية الدول للنسج على نفس المنوال، وعدم التورط في حرب امبريالية تقوم بها الولايات المتحدة، على حد وصفه .

 

والحقيقة هي أن الاحتلال فشل في القضاء على طالبان، وهو هدفه الاستراتيجي، إلى جانب إحداث إبادة جماعية في صفوف المدنيين الأفغان، فلم تخل حرب أمريكية منذ اكتشاف كريستوفر كولومبو، أمريكا، وحتى اليوم من قتل للمدنيين، فقد قتل في الحرب العالمية الثانية أكثر من 60 مليونا 90 في المائة منهم مدنيون، وهذه طبيعة الحروب التي خاضها ويخوضها الغرب سواء حروبه الداخلية، أو حروب الهمينة والاحتلال . وقبل أكثر من 250 سنة قتل 110 ملايين من الهنود الحمر، أي لو بقوا على قيد الحياة لزاد عددهم عن المليار. وكل ذلك ليهنئ المستعمر الغربي بالعيش الرغيد والأمن في أمريكا .

 

سيناريوهات النهاية الدموية:
إذا كان خروج الاحتلال من أفغانستان مسألة وقت، وحتمية لا جدال حولها، فإن السيناريوهات المتوقعة لنهاية أطول حرب تخوضها أمريكا في تاريخها ( 9 سنوات )، والتي تعمل أمريكا لإنفاذها في أفغانستان، تبدو اليوم أكثر وضوحا من ذي قبل . ومن ذلك إعادة أفغانستان لفوضى الاقتتال الداخلي، من خلال نشر البلبلة وزرع عدم الثقة بين المجاهدين الأفغان، كالزعم بأن قائد" الحزب الاسلامي " الأفغاني، قلب الدين حكمتيار، زود الاحتلال بمعلومات عن طالبان .
وتشكيل ميليشيات محلية، والتي سميت في العراق ب " الصحوات " لقتال طالبان، كمقدمة لخلق حرب أهلية تفضي إلى تقسيم أفغانستان بين جنوب بوشتوني، وشمال طاجيكي، أزبكي،هزاري، وهي خطة استخدمها الاحتلال الروسي من قبل ومنيت بفشل ذريع . وهو ما ينتظرأمريكا التي فضحت الوثائق المسربة عملاءها في أفغانستان والذين وصلت أسماؤهم إلى طالبان بطرق مختلفة، وهم بين التوبة، والهروب من البلاد .

 

ومن السيناريوهات إقصاء الدور الباكستاني من أفغانستان، أو تحجيمه، وتمكين الهند من لعب دور في راهن ومستقبل أفغانستان، بعد رحيل الاحتلال وفي ظله، وهو ما أشار إليه المبعوث الأمريكي إلى باكستان وأفغانستان، ريتشارد هلبروك، يوم 22 يوليو 2010 م، أثناء زيارة قام بها للهند . وقال بوضوح يعبر عن استراتيجية فاشلة " لا باكستان ولا طالبان يمكنهما السيطرة على السلطة في ظل وجود حكومة شرعية حاليا ... وأن الولايات المتحدة " تدرك الدور المركزي للهند في المنطقة " أي جعلها شرطي على المسلمين في المنطقة كما يهيئ الكيان الصهيوني منذ وعد بلفور لمثل هذا الدور في الشرق الأوسط، بمباركة الحكام العرب . ولكن الهند لن تلعب هذا الدور، كما يمكن اجهاض خطة الشرطي الصهيوني، لوعقلت باكستان، وشفي العرب من اعتلالهم .