في 25 أغسطس 1992 م أقدم المتوحشون الصرب على حرق المكتبة الوطنية في سراييفو، وإحالة مليوني كتاب، و300 مخطوط من أنفس المخطوطات العالمية التي لا تقدر بثمن، في مختلف مصادر الثقافة والمعرفة، إلى أكوام من رماد، بين أطلال مكتبة كانت زاخرة بالحياة.
المكتبة الوطنية، أو، سراييفسكا فياشنيتسا، أو" جبل المعرفة " باللغة المحلية، كانت رمزا من رموز سراييفو وأحد مفاخرها، ومن أجمل المباني، احترقت بالكامل في ذلك اليوم المشؤوم. والحقيقة أن حرق مكتبة سراييفو، جريمة لا تعادلها الكثير من الجرائم التي أخذت حيزا كبيرا في وسائل الإعلام الدولية، ووقتا طويلا في الحديث عنها. ففي خلال ساعات قليلة التهمت النيران أعظم الكنوز المعرفية في غرب البلقان عبر التاريخ، وكان من بينها آلاف الروايات، والكتب التاريخية، والرسائل الجامعية، وأمهات المصادر المعرفية.
بعد عقود طويلة من الإشعاع خمدت تلك الأنوار بنيران الحقد والكراهية والجهل والتعصب والعنصرية والبربرية المقيتة. لقد كانت المكتبة الوطنية رمزا لسراييفو، وهي بذلك أفضل من برج ايفل بباريس، وتمثال الحرية في نيويورك، وساعة بيغ بن، في لندن، وحتى سور الصين، فالمعرفة هي من صنعت البرج، ونحتت التمثال، وأتقنت الساعة، وبَنَتِ السور، والمعرفة كانت مجسدة في مكتبة سراييفو. وهو دليل على إيلاء هذه المدينة قضية المعرفة أهمية قصوى، والحفاظ على التقاليد عناية خاصة، والاحتفاء بالثقافة، سمة لازمة، وهي مفردات الهوية الحضارية لكل أمة من الأمم.
أجيال كثيرة ولدت في المدينة، وترعرعت بين سواري المكتبة الشامخة في الجزء العتيق من سراييفو، ولا سيما الجيل الذي شهد العدوان، وكان شاهدا على إحراق المكتبة. أي إحراق جزء كبير من الماضي والحاضر، والمستقبل الممتد في الزمن. كانت محاولة لإحراق الذاكرة، وإحراق الرموز، وإحراق الحياة، إذ ما قيمة الإنسان، وما قيمة الحياة ذاتها بدون كل ذلك.
لقد أحرق الجيش الصربي، سراييفو، بما في ذلك المكتبة الوطنية، وكان التركيز عليها واضحاً، بينما لم يمس مصنع إنتاج الخمور الذي بناه النمساويون، وبقي بعدهم بأي أذى، لأنه في صفهم، بينما العلم، والمعرفة، والتسامح، والثقافة، والإنسانية، فهي عدوهم. لذلك كانت أحد أهداف نيرانهم المشتعلة في داخلهم، والتي عبروا عنها بإحراق كل من يختلف معهم.. حتى الكتب. بل الكتب ورموز المعرفة، والخير، والحضارة، والمدنية، في مقدمة ضحاياهم.
لم يكن هناك ماء كاف لإخماد الحرائق المشتعلة في المكتبة آنذاك، كما لن يوجد ماء لإخماد الحرائق في تاريخ الصرب، أو لغسل العار الذي يتسربلون به، ومنه العار التاريخي المتمثل في حرق المكتبة الوطنية في سراييفو.
كان الناس يبكون دماً على قصور المعرفة التي كانت تحترق أمام أعينهم، أسماء الأماكن تحترق، أسماء العلماء تحترق، أسماء وخرائط تحترق، تواريخ وعلوم تحترق، وجدران تحترق، تحولت المجسدات المعرفية إلى أثر بعد عين.
كان مشهدا يُبكي الصخور، وتكرر مراراً بعد ذلك كلما دقت صفارات الإنذار في مساء 25 أغسطس من كل عام.. وكيف لا يبكون، والمكتبة كانت حارساً لتاريخ طويل، وخزانة للعلوم يستقي منه الباحثون والطلبة وأساتذة الجامعات، ويرجعون إليه كلما عنت لهم قضية، أو حفزتهم حادثة على البحث، أو اختلف المثقفون حول مسألة، أو تطلع الراغبون لمزيد من الفهم، والتبحر، والتعمق في المعرفة.