التعليم والثقافة وجناية وسائل الإعلام عند علي عزت بيجوفيتش
28 ذو القعدة 1431
عبد الباقي خليفة

الرئيس البوسني الراحل علي عزت بيجوفيتش عَلَمٌ كبير وشخصية نادرة، فهو مفكر عميق ومثقف فذ، لكن جهاده ضد الإلحاد الشيوعي ثم التعصب الصربي الصليبي الذي سعى لاجتثاث الإسلام من البلقان، جعل شهرته كقائد ورجل دولة أوسع من صيته الفكري السامق.

بعد سبع سنوات من رحيل هذا الرجل المجاهد، نتناول أبرز ملامح عطائه في دنيا الثقافة وميادين الأدب والفكر، في جملة موضوعات أعدها الزميل عبد الباقي خليفة الخبير في شؤون البلقان والقلم الإسلامي الذي عايش آلام البوسنيين وآمالهم عن كثب.

المحرر

*******

 

تأتي الذكرى السابعة لرحيل المفكر علي عزت بيجوفيتش، (1925 / 2003 م) والرجل حاضر بقوة في المشاهد كلها. ثقافيا، واجتماعيا، وسياسيا. إذ كان رحمه الله يؤكد أن التعليم وليس السياسة، هو ما كان يشده، ويسيطر على تفكيره. وأنه كان ينوي التفرغ لهذا العامل الاستراتيجي في رقي الأمم، والطواف على البلاد الإسلامية لترسيخ هذه الحقيقة، لكن الظروف السياسية، وأوضاع بلاده بعد انهيار يوغسلافيا فرضت عليه نسقاً آخر لحياته، هو الاهتمام بالسياسة من موقع حماية هوية أمته في أبعادها المحلية والإقليمية والعالمية.

 

علي عزت رحمه الله، لم يكن مذيعا يبحث عن الشهرة، ولا كاتبا يسترزق بقلمه، ولكنه كان مناضلا ومشاهدا قدم زهرة شبابه لما يؤمن به من داخل زنزانات السجون في عهد الشيوعي تيتو، وعاش حياته حتى آخر لحظة من دون أن يحيد عن مبادئه، وعندما زاره رئيس وزراء تركيا الحالي رجب طيب أردوغان في مرض وفاته، لم ينس ما نذر نفسه له، حيث طلب منه الاهتمام بالتعليم، وإقامة جامعة تركية في سراييفو وهو ما كان بالفعل.

 

إن علي عزت له تأثير كبير، وما تحققه تركيا هو جزء من نشاطه وأحلامه وتوجيهاته، فليس بالضرورة أن يحقق المصلحون كل ما يصبون إليه في بلدانهم الأصلية، وإن كانت تركيا ضمن مجاله الأممي.

 

التعليم الأعرج:

ينتقد علي عزت بيجوفيتش التعليم العلماني، الذي يجعل من الإنسان مجرد آلة ضمن أدوات الإنتاج، وليس إنساناً له مشاعر ومآرب روحية أخرى فيقول " في هذه الأيام من الممكن جدا أن تتخيل شابا قد مر بجميع مراحل التعليم في المدرسة الابتدائية حتى الكلية دون أن يكون قد ذكر له ضرورة أن يكون إنسانا خيرا وأمينا ". ويضيف "يتعلم أولا أن يكتب ويحسب، ثم يدرس الطبيعة والكيمياء، وعلم الأعراق البشرية، والجغرافيا، والنظريات السياسية، وعلم الاجتماع وعلوما أخرى كثيرة، إنه يجمع عددا هائلا من الحقائق، وعلى أحسن الفروض يتعلم كيف يفكر.ولكنه لم يكتنز، ثقافيا وروحيا "ويؤكد" لم نعد نسمع إلا قليلا عن برامج التاريخ، والفنون، والآداب والأخلاق، والقانون".

 

فعلي عزت مقتنع بأن "التعليم التقني سبب للحضارة، ونتيجة لها، فهذا النوع من التعليم يهيئ العضو للدخول في المجتمع، وهو تعليم مصمم لتحقيق هذا الغرض. فهو موجه لغاية محددة بإحكام واهتمامه منصب على السيطرة على الطبيعة أو العالم الخارجي. أما التعليم الكلاسيكي فعلى العكس من ذلك، يبدأ وينتهي عند الإنسان، أي أن اللاهدف هو غايته".

 

ويرى علي عزت أن "معضلة التعليم التقني في مقابل التعليم الكلاسيكي ليست معضلة فنية وإنما هي مسألة إيديولوجية تكمن وراءها فلسفة معينة. ففي هذين النوعين من التعليم ينعكس التضاد بين الثقافة والحضارة بكل ما يترتب عليه من نتائج ". ويقول "سنجد أن المجتمع غير الصناعي يغلب عليه الاتجاه نحو التعليم الكلاسيكي، بينما المجتمع الصناعي، وبخاصة المجتمع الاشتراكي، ينحو باتجاه التعليم التقني". وكعادته عند ضبط أفكاره يقر بأن القضية ليست أبيض وأسود كما يقال "بطبيعة الحال هذا مجرد مبدأ عام قد يعاني من الانحراف في الممارسة هنا وهناك، ولكن يظل الاتجاه العام قائما متحققا من خلال التصحيحات التي لا مفر منها ". ويمضي في طرحه المتعمق " إن المقارنة بين البرامج الدراسية في الاتحاد السوفياتي، سابقا، وفرنسا والصين، أو اليابان على الأخص في مواد التاريخ والقانون والأخلاق والآداب واللغة اللاتينية والاغريقية، قد تكشف عن فروق ذات أهمية".

 

ارتهان التعليم للسياسة:

يشرح علي عزت كيف أن التعليم يظل مرتهنا للسياسة، وينطوي على خطورة تحريفه من خلال أدلجته، وأدوتة الإنسان-أي تحويله إلى أداة!!-: "إن السياق المنطقي للتعليم التقني هو التخصص. فقبل كل شيء نستطيع أن نرى الذكاء والعلم والصناعة تشكل خطا واحدا وأنها مرتبطة بعضها ببعض كسبب ونتيجة. فالعلم نتيجة الذكاء والصناعة هي مجرد تطبيق العلم ". وهي جميعا " شروط وأشكال لتأثير الإنسان على الطبيعة، على العالم الخارجي. يوفرالتخصص للفرد وضعا أفضل وأقوى في النظام الاجتماعي، أي في الآلة الاجتماعية ". ولكن التخصص "يقلص الشخصية الفردية، ويعلي من شأن المجتمع ويجعله أكثر كفاءة، فالمجتمع يأخذ في التناقص". ويخلص إلى القول "إن تفتيت العمل وتجريد الإنسان من شخصيته باعتباره أحد الرعايا العاملين، يميلان في زحفهما إلى الأمام، إلى الحالة المثلى للطوبيا".

 

إن التأمل في التوسع الذي طرأ على التعليم يسبب الدوار كما يقول رحمه الله. ويذكر أرقاما تجاوزها الزمن ولكن تصاعدها يدل على الاهمية، رغم حالة البطالة التي أفرزها التعليم التقني ففي اسبانيا اليوم (2010 م) هناك أكثر من 4 ملايين عاطل عن العمل، وهناك أكثر من 40 مليون عاطل في دول الاتحاد الأوربي " إن العالم الغربي حققا تقدما صناعيا هائلا، ولكنه ليس أعظم دول العالم ثقافة ". فعلي عزت في موضع آخر يشرح معنى الثقافة والحضارة اللتين يخلط بينهما كثير من الناس، فالثقافة كل ما له علاقة بالروح والنفس كالدين، والفنون، أما الحضارة فهي إنجازات الإنسان التقنية المعتمدة على خبراته الهندسية وتعاطيه مع مشكلاته المادية. ولذلك يرى علي عزت أن التعليم السائد " كقاعدة هو تعليم مجهز وفق وصفة الحضارة ".

 

ويتحدث الراحل الكبير عن الدول الشيوعية السابقة، والتي حلّتْ مكانَها الدولُ الديكتاتورية التي تفكر نيابة عن الشعب وباسمه دون استشارته في شيء من أموره "في الدول الشيوعية ينطوي التعليم على أن يتشرب الأفراد نظام الدولة الإيديولوجي والسياسي، ويخضع لمصالحها. وفي الدول الرأسمالية يتلاءم التعليم عموما مع المتطلبات الاقتصادية ويخدم النظام الصناعي. وفي كلتا الحالتين، فالتعليم هو تعليم وظيفي وفي خدمة النظام ". وكما لو أنه يشرح واقعنا في البلاد الاسلامية "هذا الاتجاه سائد على الرغم من التصريحات الوردية عن التحسينات التي تحققت في جوانب متعددة للشخصية الإنسانية وعن الخصائص الإنسانية للتعليم ".

 

ويضرب علي عزت أمثلة عن أدلجة التعليم، كما كان في عهد أول رئيس للاتحاد السوفياتي، زعيم ثورة 17 أكتوبر 1917 م فلاديمير لينين" لقد أكد لينين مرارا، أن التعليم لا يجب أن يكون محايدا، وموضوعيا لا سياسيا، ففي المؤتمر الأول للتعليم السوفيتي الذي انعقد في سنة 1918 م وضع لينين المبدأ الأول للتعليم على هذا النحو: إن عملنا في التعليم يستهدف تحطيم الطبقة البرجوازية ونحن نعلن أنه ليس هناك مدرسة خارج السياسة فهذا كذب ونفاق، إن صياغة التعليم في قالب إيديولوجي ظل هو المبدأ في النظام التعليمي للاتحاد السوفياتي"، سابقا.

 

ارتهان التعليم لحاجيات النظام الصناعي:

ومن النظام الشمولي، ينقلنا علي عزت إلى النظام الذي يصف نفسه ب (الحر) فقد بنى علي عزت مشروعه الثقافي على إظهار عيوب الحضارة الغربية العرجاء، وتناقضاتها بين الروح والمادة، وبين التقني والكلاسيكي، وبين الإيديولوجيا والحاجيات، ليخلص إلى أن الإسلام وحده، هو الذي يجمع بين الدنيا والآخرة، وبين متطلبات الجسد وأشواق الروح، ولكننا سنقف هنا عند حديث علي عزت عن معضلات التعليم في عصره، مستشهدا بآراء شهود الحضارة الغربية أنفسهم، ومن أبرزهم " جون ك. جالبرايث، المُنَظّر الاقتصادي الشهير وأحد أفضل الخبراء في النظام الصناعي فيقول، لا شك أن المدرسة الثانوية الحديثة قد تكيفت تماما لتتلاءم مع احتياجات النظام الصناعي... فالذي يتمتع بالقدر الأكبر من الاعتبار هو العلوم البحتة، والتطبيقية، والرياضيات، وليس هذا إلا انعكاسا لمتطلبات البنية التقنية.... بينما الاعتبار الأقل والتدعيم الأقل يختص بالفنون والعلوم الإنسانية انعكاسا لقلة أهميتها ".... ويقول "إن المدارس التقنية والتجارية ذات قيمة عالية لما لها من خاصية نفعية... ولقد شجع النظام الصناعي على التوسع الهائل في التعليم، ولا يسعنا إلا الترحيب بهذا. ولكن ما لم نستطع التنبؤ بنزعات هذا النظام بوضوح ومقاومتها بشدة، فإن هذه النزعات ستضع بالتأكيد عائقا على التعليم من شأنه أن يخدم أكثر ما يخدم احتياجات هذا النظام وأهدافه، وأقل ما يفعله هو أن يعرض هذه الأهداف للمناقشة".

 

الثقافة الجماهيرية والثقافة الشعبية:

ينتقد علي عزت بشدة ما يسمونه دجلا ب"الثقافة الجماهيرية" التي هي في الحقيقة، إملاءات من السلطات الغاشمة على الشعب المغلوب على أمره "في ضوء الاعتبارات السابقة سيكشف القارئ بنفسه حقيقة ما يسمونه " الثقافة الجماهيرية، هل هي ثقافة حقا أم مجرد ملمح من ملامح الحضارة ". ويوضح بأن "موضوع أي ثقافة هو الإنسان فردا أو شخصية أي الفردية المتفردة التي لا تتكرر. أما موضوع الثقافة الجماهيرية وهدفها، فهو الجمهور. يملك الانسان روحا، أما الجمهور فلا شيء لديه سوى حاجاته، ومن ثم فكل ثقافة هي تنمية للإنسان بينما الثقافة الجماهيرية مجرد إشباع للرغبات ".

 

وعندما يتحدث علي عزت عن الثقافة الفردية، فلا يعني الإنسان الفرد، ولكن الإنسان في البنية الثقافية لكل ثقافة، كقولنا: أمة على قلب رجل واحد، وعندما يتحدث عن الثقافة الجماهيرية، فإنه يعني ما تزعمه الطغم الحاكمة كما سلف تعريفها "تنحو الثقافة تجاه الفردية أما الثقافة الجماهيرية، فتصب في الاتجاه المعاكس نحو التماثل. عند هذه النقطة تنحرف الثقافة الجماهيرية عن الأخلاق وعن الثقافة. فالإنتاج بالجملة، للسلع، والنسخ المكرر للأدب المزخرف الرخيص، يؤديان إلى سلب الشخصية ". ويبين علي عزت ما يعنيه بالثقافة الجماهيرية، والتي تختلف عن الثقافة الأصيلة الثقافة المتجذرة في الوعي الأممي أو حتى الثقافة الشعبية"إن الثقافة الجماهيرية تختلف عن الثقافة الأصيلة في أنها تحد من الحرية الإنسانية من خلال هذا الاتجاه نحو التماثل، ذلك لأن الحرية هي مقاومة التماثل. (نقلا عن ماكس هوركيثمر) وهناك خطأ شائع يخلط بين الثقافة الجماهيرية والثقافة الشعبية، وهذا الخلط يسيء إلى الأخيرة حيث تختلف الثقافة الشعبية عن الثقافة الجماهيرية في أنها ثقافة حية وأصيلة ومباشرة. وهي بريئة من البهرجة ومن الأعمال الأدبية والفنية الهابطة، والتي هي نتاج المدن الكبرى".

 

فالناس في الثقافة الجماهيرية، منفصلون انفصالا تاما، منتجين، ومستهلكين للسلع الثقافية، فهل هناك من يعتقد حقا أنه يستطيع التأثير في برنامج تلفزيوني إلا إذا كان، طبعا، ينتمي إلى الفئة القليلة التي تصنع هذه البرامج؟ إن ما يسمى بوسائل الإعلام الجماهيرية، كالصحافة والراديو، والتلفزيون، هي في الحقيقة وسائل للتلاعب بالجماهير. فمن ناحية، يوجد مكتب المحررين وهو مكون من عدد من الناس عملهم هو إنتاج البرامج. وعلى الناحية الأخرى ملايين المشاهدين السلبيين ". وأشار إلى دراسة تؤكد أن بلدا أوروبيا يشاهد الناس العاديون فيه التلفزيون بين 16 و18 ساعة يوميا، أصبح التلفزيون يحتل مكان الأدب بشكل مطرد فهو قرينه في الحقل الثقافي. ووجد أن واحدا من 3 فرنسيين لم يقرأ في حياته كتابا وأن الفرنسيين يقضون معظم وقتهم أمام التلفزيون. (نحن) وينقل عن، هوريكاوا، من جامعة سان فرانسيسكو قوله: إن التلفزيون قد حل محل الأدب والتفكير، وبالتالي استطاع أن يقلص النشاط الفكري.

 

وسائل الإعلام (الجماهيرية):

يمدنا هذا العصر كما يقول علي عزت، بأمثلة تدلنا على أن وسائل الإعلام الجماهيرية عدو شرس للثقافة، وبخاصة عندما تحتكرها الحكومة، لتستخدمها في تضليل الجماهير كأسوأ ما يكون التضليل. فلم يعد هناك حاجة للقوة الغاشمة لحمل الشعب على عمل شيء ضد إرادته حيث يمكن الوصول إلى ذلك اليوم وذلك بشل إرادة الشعب عن طريق تغذيته بمعلومات مغلوطة جاهزة ومكررة، ومنع الناس من التفكير أو الوصول بأنفسهم إلى أحكامهم الخاصة عن الناس أو الأحداث.

 

لقد أثبت علم نفس الجماهير، كما أكدت الخبرة، أنه من الممكن التأثير على الناس من خلال التكرار الملح لإقناعهم بخرافات لا علاقة لها بالواقع. وتنظر سيكولوجية وسائل الإعلام الجماهيرية إلى التلفزيون على الأخص باعتباره وسيلة، ليس لإخضاع الجانب الواعي في الإنسان فحسب، بل الجوانب الغريزية والعاطفية، بحيث تصطنع فيه الشعور بأن الآراء المفروضة عليه هي آراؤه الخاصة.

 

وترى جميع المجتمعات الشمولية فرصتها في التلفزيون وتندفع لاستخدامه وهكذا أصبح التلفزيون تهديدا للحرية الإنسانية، أكثر خطرا من الشرطة السرية والسجون ومعسكرات الاعتقال السياسي. و"أعتقد أن الأجيال القادمة، ما لم تكن قدرتها على التفكير قد دمرت تماما. سوف تصدم باستشهاد الجيل الحالي المستهدف بدون عائق لتأثير هذه القوة الضارية التي لا رابط لها. فإذا كانت الدساتير في الماضي توضع للحد من سطوة الحكام، فإن دستورا جديدا سنحتاج إليه لكبح جماح هذا الخطر الجديد الذي يهدد بإقامة عبودية روحية من أسوأ الأنواع ".

 

ونختم هذه الإطلالة على فكر عظيم من عظماء الفكر الإسلامي الإنساني بقوله "تتسم الثقافة الجماهيرية بحالة عقلية أشار إليها، يوهان هويزنجا، باسم الصبيانية....أي بطريقة تتفق مع المستوى العقلي للمراهقة، تسليات مبتذلة، غياب روح الفكاهة الأصلية، الحاجة إلى أحداث مثيرة ومشاعر قوية، الميل إلى الشعارات الرنانة والاستعراضات، والتعبير عن الحب والكراهية بأسلوب مبالغ فيه، اللوم والمدح المبالغ فيهما، وغير ذلك من العواطف القاسية....".