أنت هنا

الخطوات الأخيرة في مشوار تونس
12 صفر 1432

دفع التونسيون ثمناً غالياً من دماء أبنائهم في سبيل إطاحة بن علي، وهو يهون لو تحولت البلاد إلى حالة من احترام هوية الشعب وكرامته وإنسانيته وحريته التي أهدرت طوال حكم الرئيس السابق، وإذ تفرح الشعوب بـ"ثورة الياسمين" هذه، وتبدأ بعضها في استلهام فكرتها؛ فإن الحدث برغم عفويته وبساطته الظاهرة يكتنفه الغموض ويبدو عصياً على التفسير المتكامل له، والتعاطي معه على كونه إفرازاً طبيعياً لحالة احتقان شعبي عمت ربوع تونس، ودفعت الطنجرة نحو الانفجار غير المتوقع.

 

نعم، نحن في النهاية نراه على أنه انتزاع من الله لملك رجل قد جاوز حدود القيم الإسلامية والوطنية لبلاده، وندرك بالطبع أن فورة الجماهير وثورتها أدت إلى التعجيل بذهابه، وكانت إحدى أبرز أسباب غيابه، لكننا مع ذلك نقدر أن العفوية أمر طارئ على السياسة وليست إلا حالة شاذة بما يدفعنا للبحث في النهاية عمن أوصل الأمور في النهاية إلى ذلك المصير لنظام لم يكن يوماً بعيداً عن سلاحه ولم يبدُ أبداً ورعاً في استخدامه ضد شعبه ومعارضيه.

 

ولذا؛ فإن تطور الأحداث في نهايتها قد لا يكون غالباً عفوياً وبسيطاً مثلما يصوره لنا الحدث في ظاهره، ولابد من البحث عمن تسبب تدخله المدروس في أخذ الثورة هذا المنحى وذلك التطور، إذ الملاحظ أن الجيش لم يتدخل بشكل مباشر ضد الشعب التونسي، إما بسبب عقيدته القتالية المعروفة كي جيش منوط به حماية البلاد والحدود والمؤسسات العسكرية والسيادية رفيعة المستوى، وإما لسبب آخر قد يجد تفسيراً لدى من قرأوا الإشارات الصادرة من العاصمتين الأمريكية والفرنسية بالتحذير من "الاستخدام المفرط" أو "غير المتكافئ للقوة"، أو من ينظر لعملية خلع الرئيس التونسي على أنها جاءت تتويجاً لاستثمار طرف لحدث عفوي واحتقان متفهم وغضب ثائر في الرهان على فرس جديد يبدأ مشوار التدجين الشعبي من أوله بعد أن وصل بن علي في طريقه إلى منتهاه. أو في الأخير من يراه كعنوان لصراع مكتوم بين العاصمتين، الأمريكية والفرنسية، على أعتاب نظام كان يلفظ أنفاسه الأخيرة، وأراد أحدهما أن يضع بيضه في سلة جديدة.

 

ومهما يكن من أمر؛ فإن شعباً ثائراً قد كتب الفصل الأول من رواية الحرية والانعتاق ولو لم يكتب آخر فصوله، وبرهن على قدرته على تغيير الواقع بشكل يحسب له على كل حال، ويعطي المثل للمسلمين كشعب رفض الانصياع للظلم والقهر وكبت حريته وخياره وتغييب هويته وقيمه؛ فانتزع الله من الظالم أداة الاستبداد.

 

وسواء أنجح الشعب في فرض كلمته، أو انحرف النافذون بطريق ثورته؛ فإنه قد صنع المثل، وأرغم الوارثين ونظرائهم على النظر إلى هذا الشعب، بل وبعض أمثاله باحترام وتقدير وتحسب لغضبات الشعوب الهضيمة، وهذا مكسب يسجل للتونسيين، وعنوان لمرحلة جديدة يؤطر فيها على أيدي الظالمين، "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".