ثورة التحرّر في سورية.. حَتْمَيّة
24 ربيع الأول 1432
د. محمد بسام يوسف

عندما نقول: إنّ سنّة الله عزّ وجلّ، تقضي بأنّ التغيير هو أحد حقائق الحياة ودورتها في هذه الأرض.. إنما نستند في ذلك إلى ركنٍ إيمانيٍّ يتعلّق بسنن الله عزّ وجلّ.. من جهة، وإلى ركنٍ علميٍّ يفسِّر حركة التاريخ، ويقرأ سنّته في عالَم البشر.. من جهةٍ ثانية، وهما الركنان الرئيسيان المفسِّران لما يجري من تطوّراتٍ وتغيّراتٍ جذريةٍ ثوريةٍ شعبيةٍ في منطقتنا العربية والإسلامية، بدأت في تونس، ولن تنتهيَ إلا بزوال الدكتاتوريات وانقراض الحكومات الجبرية، التي امتدّت وازدهرت طوال أكثر من نصف قرن، من تاريخ أمّتنا.

 

لقد أحاطت الأنظمة الشمولية نفسَهَا بطبقةٍ شديدة الفساد، من المنتفعين والمتنفّذين والأقارب، نهبت الثروات الوطنية، وسيطرت على الإدارات، وخرقت كل القوانين، وأمرعت، واستأثرت بالخيرات وحركة الاقتصاد والمال، وراكمت منهوباتها في المصارف العالمية بعشرات المليارات من الدولارات.. إلى أن زالت الطبقة الوسطى من المجتمع نهائياً (أو كادت)، هذا المجتمع الذي تحوّل إلى طبقتين: أولاهما: طبقة نظام الحكم وأزلامه التي ذكرناها، وثانيهما: تلك الطبقة المسحوقة الفقيرة المنهوبة المنكوبة، التي لا يجد إنسانها ما يسدّ رمقه من لقمة العيش أو حبّة الدواء.. فتركّزت الثروة في أيدي أفراد الطبقة الطفيلية المتنفِّذة، فيما جُرِّد عامة الشعب من عوامل الحياة الكريمة ومستلزماتها.. وما تبع ذلك من الإحساس بالمهانة والذلّ والشقاء لدى الشعوب.. فكان ذلك هو الدرجة الأولى من الاحتقان الاجتماعيّ الشعبيّ!..

 

وفي هذا العالَم الحديث، جرت تحوّلات عميقة جذرية، انتهى خلالها عصر الحكم الشموليّ، وحكم الفرد، وحكم الحزب الواحد، وانتهت حقب قوانين الطوارئ والأحكام العُرفية، واختفت الحكومات الاستبدادية، وسقطت شعارات الحكومات الثورية الأسطورية، وهَوَت أنظمةٌ دكتاتوريةٌ كانت تظنّ أنها باقية أبد الدهر، ولم يعد هناك مكان للتسلّط والبغي والتنكيل بالشعوب كما كان عليه الأمر قبل بداية العقد الأخير من القرن المنصرم، ونالت كثير من الشعوب قسطاً من الحرّية نفّس كثيراً من شدّة الاحتقانات المجتمعية.. فدارت دورة التاريخ، وتطوّرت الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. باستثناء سورية وبعض البلدان العربية التي تحكمها الأنظمة الشمولية الاستبدادية، فتشكّلت الفجوة العميقة ما بين الشعوب وحُكّامها، وظهر هؤلاء الحكّام عراةً متخلّفين عن ركب الأمم، واسغرقوا في تخلّف أساليب حكمهم وسيطرتهم، قمعاً وانتهاكاً واضطهاداً وامتهاناً وإذلالاً لشعوبهم، من خلال حُكمٍ بوليسيٍّ تسيطر عليه وتُسَيِّره أجهزة المخابرات القمعية وعقليّتها المتخلّفة، بكل ما تحمله من عوامل البطش وانتهاك الحقوق الإنسانية وخَنق الحرّيات بأشكالها، والتحكّم بمصائر البلاد والعباد.. فكان ذلك كله، هو الدرجة الثانية من الاحتقان الاجتماعيّ والشعبيّ!..

 

يحدث ذلك كله، والعالَم بأسره من حولنا يتطوّر ويتشكّل على أسسٍ عصريةٍ متسارعة، إلى أن وقعت ثورتا المعلومات والاتصالات، وتطوّرت وسائل الإعلام تطوّراتٍ انفجارية.. فوقعت الهوّة ما بين الوسائل التقليدية لأنظمة الحكم المتخلّفة في السيطرة على شعوبها.. والوسائل الحديثة المتطوِّرة، التي أتاحت للشعوب امتلاك أعظم عوامل القوّة في الاتصال والتواصل والاطّلاع والحصول على المعلومة ونشرها.. فكسرت بذلك الستارَ الحديديَّ الذي فرضته الأنظمة القمعية عليها طوال عقودٍ مريرة.. فكانت هذه الوسائل إحدى أهم الأسلحة التي استثمرتها الشعوب بكل إبداع، لتبدأ عصراً جديداً من التحرّر والانعتاق، محمّلةً بكلّ عوامل الثورة التي تمثّلت في تراكم الاحتقان بدرجتيه الأولى والثانية اللتين ذكرناهما آنفاً!.. فكانت ثورة تونس، ثم ثورة مصر، ثم ثورة ليبية.. ولن تنتهيَ سلسلة الثورات هذه إلا بانتهاء آخر حكمٍ جَبْريٍّ دكتاتوريٍّ بوليسيٍّ في عالَم العرب والمسلمين.
*     *     *

 

لعل إلقاء نظرةٍ فاحصةٍ على الواقع السوريّ، يجعلنا نؤكّد بما لا يقبل الجدل، بأننا لن نتفاجأ بوقوع ثورةٍ شعبيةٍ سوريةٍ عارمة، بل سنتفاجأ إن تأخّرت أكثر مما نتوقّعه، لأنّ عوامل الانفجار في الواقع السوريّ متكاملة بشدة، وهو (أي الانفجار) مرشّح بقوّةٍ للوقوع في أي لحظة، وهو يفوق –بعوامله- كل الذي أدّى إلى وقوع ثلاث ثوراتٍ عربيةٍ حتى الآن.. لاسيما ما يتعلّق بمهازل تحويل الجمهورية إلى جمهوريةٍ وراثية، وتفصيل الدستور على مقاس الوريث، وارتكاب كلّ المحرّمات، وهدر أنهارٍ من دماء السوريين والسوريات، واغتيال مستقبلهم وروح التقدّم والكرامة التي طالما تميّزوا بها عن سائر خَلْقِ الله عزّ وجلّ!..
ولعلّه من نافلة القول، أن نُذَكِّر النظامَ الشموليَّ الدكتاتوريَّ السوريّ، بأنّ النظام الليبيّ كان أحدَ أنظمة ما يُسمّى بالصمود والتصدّي، ولم يكن –على ما يظهر- من أنظمة (كامب ديفيد)، وأنّ ثورات الشعوب المضهَدَة الجائعة الفقيرة المنهوبة، لا يُنظَر إليها بهذه العين العمياء التضليلية البائدة.
*     *     *

 

في شهر كانون الأول من عام 1989م، عندما سُئلَ الدكتاتور الرومانيّ الشيوعيّ الأسبق (نيكولاي تشاوشيسكو)، الصديق الحميم لحافظ أسد، عن مصير نظام حكمه بعد زوال الأنظمة الشيوعية من حَوْله، لاسيما في تشيكوسلوفاكيا وبولندة.. أجاب مستهزئاً: (عندما تتحوّل أشجار البلّوط إلى أشجار تين، يمكن أن تنقلبَ الأوضاع في رومانية).. لكن بعد أربعة أيامٍ فحسب، كان الدكتاتور (تشاوشيسكو) يُعدَم رمياً بالرصاص، برفقة (السيدة الأولى)، على قارعة أحد شوارع (بوخارست) العاصمة، بعد أن زال حكمه الشموليّ الظالم إلى الأبد بسرعةٍ قياسية، ومن غير حاجةٍ لتحوّلَ أشجار البلّوط إلى أشجار التين!.. بل لأنها سنّة الله عزّ وجلّ في الأرض، وسنّة التاريخ في دورة حياة الأمم والشعوب: (.. فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر: من الآية43).