
للنفاق والمنافقون في التاريخ دور بارز في محاربة الأمة ومحاولة اختراق صفوفها من خلال رفع الصوت عاليا بشعاراتها وأهدافها وقيمها والتشكيك بالآخرين وكيل التهم العنيفة بحقهم، بينما هم في واقع الحال يزرعون أرضها بالألغام ويتصيدون الأوقات الحرجة والحاسمة لينفضوا من صفوفها وينقضوا عليها طعنا وغدرا. في العصر الحديث أصطلح على تسمية أولئك الخفافيش بالطابور الخامس، وهم بكل الأحوال أخطر ما يمكن أن تواجهه الأمة من تحديات وتلاقيه من مخاطر.
وإذا كانت المقاومة تشكل علامة ناصعة على حياة الأمم وحيويتها، ومتانة مناعتها العقائدية والفكرية، ورفضها الإنساني للذل والاحتلال بكافة أشكاله وصوره، فإن تلك المقاومة كانت أكثر من تعرض للطعن والتشويه من أكثر الناس حديثا عنها، ورفع الصوت عاليا بها، والتشدق باحتكارها بطرق تثير الاشمئزاز. وإذا كانت المقاومة من أنبل الأخلاق الإنسانية وأكرمها، فإنها تقتضي من أدعيائها أن يكونوا على مستوى رفيع من الخلق والاستقامة، والالتزام بمعايير واضحة من الصدق والمبدئية. ليس المقصود هنا بطبيعة الحال النظام السوري، والذي شكل بامتياز وبجدارة مشروع ضرار هذا العصر، حيث تسمع منه جعجعة ولا ترى طحنا سوى طحن الظلم والفساد، وترى منه الشعارات الكبيرة لفظا فيما سلوكه يضج بقتل الأبرياء وقهر المواطنين، وفي حين يتعامل مع أعداء الأمة على الأرض بمهانة ودونية.
مقاومة "حزب الله" والتي شكلت مواقفها عواصف من الجدل والنقاش، فهي وللأمانة حاربت الإسرائيليين غير مرة وأبلى شبابها بلاء حسنا خصوصا في حرب 2006، والتي وقفت الأمة بغالبية أطيافها مؤيدة وداعمة لها وبلا تردد. غير أن استعراض مواقف الحزب من قضايا الأمة وخصوصا في مراحلها المفصلية، تقودنا إلى استنتاج بأن قادة الحزب- والذي يعترفون بولاية الفقيه والتي تقتضي منهم الطاعة والتبعية لطهران- يستخدمون تلك المقاومة ودماء شبابها المتحمس كأداة سياسية وعسكرية في صراع النفوذ لصالح طهران في مواجهة القوى الإقليمية وعلى رأسها الكيان الصهيوني. هذا الاستنتاج ليس تجنيا ولا عبثا ويمكن الاستدلال عليه بمواقف لا أخلاقية وقفها الحزب هوت به إلى موقعه الحقيقي، ورفعت عن الناس الغشاوة والتي رسمتها بطولات شبابه وتضحياتهم.
كان موقف "حزب الله" من احتلال العراق مخزيا وفاضحا، فالحزب الذي يتهم منافسيه على الساحة اللبنانية بالعمالة لواشنطن وبأنهم أزلام فليتمان، لم يؤيد المقاومة العراقية والتي كانت تواجه احتلالا أمريكيا عنيفا أدى إلى سقوط أعداد كبيرة من الضحايا. تناقض المواقف من لبنان إلى العراق كان واضحا- ففي لبنان نقاوم وفي العراق نساوم ونؤيد لعبة الاحتلال السياسية أو بأضعف الإيمان لا نعارضها- كشف عن لا مبدئية الحزب وعن ارتهان قيادته الصارخ والمعيب للأجندة الإيرانية.
ثم جاءت أحداث لبنان في مايو 2008 حين استباح "حزب الله" الأحياء الآمنة والوادعة ورفع سلاحه بوجه اللبنانيين، فتلوث سلاح "المقاومة" حين وجه لصدور مواطنيه تحت ذريعة حمايته. موقف الحزب وقتها رفع عنه دعم قطاعات عريضة من الشارع العربي، والتي هالها ذلك الموقف وخيب آمالها مما أدى بالكثيرين للتشكيك بطرحه المقاوم والذي يستهدف في المحصلة الاستعلاء في الوطن وفرض الآراء والتوجهات بطريقة فوقية تستند إلى منطق القوة لا إلى قوة المنطق. وحين هبت أعاصير التغيير في العالم العربي، وقف حزب الله موقفا مؤيدا من الثورات وأيد بلا غموض ولا لبس الثورة المصرية، ولما تعرضت البحرين لحركات احتجاجية أيدها الحزب معتبرا أن المواقف المشككة في تلك الثورة غير منصفة وعاب على من أرتاب بدوافع الأحداث هناك، وبالدور الإيراني متهما إياه بالازدواجية في المعايير والمواقف.
لم يطول الأمر كثيرا حتى وصل تسونامي التغيير إلى سورية، والتي يحكمها واحدا من أسوأ الأنظمة دموية قمعا وفسادا في العالم بشهادات الحقوقيين والمنظمات العالمية والإقليمية المعنية بالحقوق والشفافية. حزب الله وبجرأة كبيرة وصفاقة عجيبة، قفز عن موقفه من البحرين لينكص على عقبيه، مؤيدا حكما فاسدا وظالما في مواجهة رغبة شعبية عارمة في التغيير السلمي والسعي للحرية والكرامة والتي اعترف بشار في كلمته الأخيرة أن المواطن السوري محروم منها. قصر الوقت ووضوح المشهد لم يكشف عن ازدواجية مواقف الحزب وافتقارها للأخلاق والمبدئية، بل إن اتهامه الآخرين بنقيصة واقترافه لها يفضح نفاقا صارخا وكذبا فاضحا. وإذا صحت الأخبار الواردة من سوريا عن مشاركة عناصر من "حزب الله" في قتل وقمع المحتجين المسالمين، فإن الحزب يكون قد هوى في مستنقع جديد ليتحول من أداة سياسية إلى آلة للقمع وحول عناصره إلى مرتزقة ينافسون رجال بلاك ووتر في الانحطاط والرذيلة السياسية.