الخطة "فلفل حلو" لإلغاء الانتخابات البرلمانية
9 جمادى الثانية 1432
أمير سعيد

(1)

"في مخيم جنين كانت هناك امرأة عربية اسرائيلية حاولت أن تنشئ فرقة فنية لكنها هربت بسبب التهديدات. وكان قبلها عدة فلسطينيين حاولوا تطبيق معايير غربية على نضالهم وُلذعوا بالنار. هذا هو مصير جميع الثورات شبه الغربية التي تحدث في العالم العربي. إن جيل الفيس بوك والتويتر في مصر اضطر إلى أن يسلم الدولة لجماعة عسكرية تعمل مع الإخوان المسلمين يدا بيد؛ ويلمع بين المتمردين في ليبيا نجم عناصر من القاعدة؛ وتُحرك الثورتين في البحرين واليمن ايرانُ والقاعدة. في كل مكان في العالم العربي تنطلق فيه الروح الطبيعية والديمقراطية يقمعها آخر الأمر إسلاميون متطرفون أو مستبدون فاسدون". [غالينت/"تقوية وإضعاف حماس ضد احتلال غزة" ـ صحيفة هآرتس 8/4/2011]

 

لا يخرج هذا التحليل "الإسرائيلي" عن سياق التفسير الغربي للثورة المصرية وما تتلوها من أحداث؛ فالدولة الأكثر أهمية في منطقة الشرق الأوسط مهددة ـ وفقاً لبعض ما يصدر عن الصحافة العبرية والأمريكية ـ بأن تكون "أصولية" مزعجة، وهذا ما ستعمل القوى الدولية على ألا يكون أبداً، والترقب والحذر هو أولى الخطوات نحو التعامل مع هذا الزلزال المصري، والتدخل بطرق كثيرة وبفتح التوقعات على كل السيناريوهات سيكون هو الأرضية المتاحة لوقف هذا الزحف الديني الذي يهدد بقاء "إسرائيل" في المنطقة.

 

 

علينا أن نستذكر ونحن نتابع أحداث إمبابة وغيرها أن "إسرائيل" التي يرى بعض خبرائها أن مصر ستؤول إلى دولة خارجة عن الفلك الأمريكي والنفوذ "الإسرائيلي" ستكون أخطر كثيراً من دولة العراق التي أخرجت من دائرة التهديد للكيان الصهيوني عبر أربعة حروب متوالية آخرها أهلية لتستحيل دولة مهلهلة مفككة بعد أن احتلت لسبب وحيد أو ذي أولوية قصوى تفوق مسألة النفط وتتجاوز أكذوبة أسلحة الدمار الشامل، وهو "تأمين إسرائيل"، وقد كان بعد أن خرجت العراق من المعادلة كلية، لن تسكت ـ "إسرائيل" ـ على استقلال مصر، وأن الموروث الديني الذي يعتنقه الساسة داخل "إسرائيل" في توراتها بنسختها الحالية يختزن مقتاً شديداً لمصر كما العراق سواء بسواء، وكلاهما عامل "الأجداد" في بابل ومصر باحتقار وإذلال، ما بين سلسلة من السبي في الأولى، وقهر وعبودية ثم طرد في الثانية حسب ما يعتقدون.

 

 

العراق دولة ليست متجانسة دينياً وقومياً بخلاف مصر، كما أنها لا تجاور "إسرائيل"، ومشاركتها في الحرب عليها لا تضاهي الحروب المصرية/"الإسرائيلية"، ومع ذلك كانت هدفاً مباشراً للتحريض "الإسرائيلي"، وبعد أيام من الغزو الأمريكي كان شارون في قلب العاصمة العراقية بغداد في زيارة سرية.

 

لقد وصلت التقارير مبكرة إلى "العاصمتين"، تل أبيب وواشنطن مشفوعة بتوصيات واضحة بضرورة اتخاذ خطوات حاسمة إثر الإعلان عن نتائج الاستفتاء على بعض مواد الدستور في الربع الثالث من مارس الماضي، حملت الطائرات الأمريكية عدة وفود إلى القاهرة، وجرت اتصالات مع المسؤولين فيها من تل أبيب، سرعان ما أصبحت القاهرة هي أكثر عاصمة في العالم يزورها مسؤولون أمريكيون رفيعو المستوى خلال الشهور الثلاثة الماضية، وأيضاً أضحت أعداد زيارات الأمريكيين إليها أكبر من أي وفد آخر يصل إلى مصر؛ ففي الحقيقة أبطأ الأشقاء العرب كثيراً عنها، وفضل بعضهم كالعادة أن تمر "مساعدتهم" لها في حال الأزمة عبر صندوق النقد الدولي الذي تهيمن عليه واشنطن بدرجة كبيرة، وأن تدفع مصر "الثورة" للاندفاع نحو واشنطن على افتراض توفر نية الابتعاد عنها جدلاً.

 

 

 

الاهتمام بما يدور في مصر معروف ويسبق 25 يناير الماضي بكثير، ولكنه بلغ ذروته في جمعة الغضب (28 يناير) عندها بدأت واشنطن في الاستعداد لمرحلة ما بعد مبارك، ومنذ ذلك الحين والمناقشات لم تتوقف حول الطريقة التي يمكن بها الحؤول دون حلول نظام لا يبدي قدراً من "التعاطف" حيال تل أبيب، وربما تطور إلى نظام معادٍ في وقت لاحق.. هذا أمر غير مسموح به لا في تل أبيب ولا واشنطن ولا حتى العواصم الأوروبية، والفعل بطبيعة الحال يجاوز الأقوال إلى إعداد "مصر الجديدة" على نار أمريكية هادئة.

 

 

هناك أكثر من سيناريو وضع على الطاولة لتغيير الوضع بطريقة ناعمة، لكن حدث أمر تلقته تلك العواصم بانزعاج شديد، إنه نتائج الاستفتاء التي كانت بمثابة بالون اختبار قرأت معطياته دوائر صنع القرار هنا وهناك، غير أن واشنطن تحديداً لم تزل مطمئنة إلى حد ما، فمبارك قد خسر الحكم بالفعل، وجرت التضحية به بعد أن استنفد مرات "الرسوب"، ولم يعد قادراً على "العطاء"، لكن الولايات المتحدة لم تخسر أوراقها بعد في القاهرة، وما زال البعض يحتفظ بعلاقات دافئة مع واشنطن.

 

 

التغيير إذن ممكن، ولم يخرج بعد عن حدود السيطرة، وثمة أدوات يمكنها التنفيذ، لكن ثمة إشكالية عصية على الحل، هي النجاح في إيجاد نظام يتمتع بشعبية عالية وأرضية واسعة بيد أنه في الوقت عينه يرتبط استراتيجياً بالإدارة الأمريكية أياً كانت.

 

 

بعض النماذج "الاستعمارية" بمقدورها أن تعيد انتاج نفسها، التاريخ لا يمكن أن يتكرر، لكن بعض فصوله يمكن محاكاتها، والتجارب الناجحة يمكن تقليدها لكن مع إدخال تعديلات جوهرية تتماهى مع الواقع والاختلاف الجغرافي والتاريخي والديموجرافي... الخ، وهناك تجربة في جنوب البحر المتوسط جديرة بإعادة النظر فيها.. الخصم "الكروي" لمصر وأبناء مبارك!، إنها الجزائر، حيث شهدت حالة من التحول الديمقراطي سرعان ما جرى وأدها بسرعة.

 

 

الظروف بدت متشابهة، لكن التجربة الجزائرية لم تصاحبها هذه الرياح التغييرية الموجهة، كما تختلف تركيبتها الحادة نسبياً عن طبيعة الشعب المصري الوادعة، وبالتالي لابد أنهما سيفترقان عند منعطف ما.. لقد أدخلت الجزائر في تجربة ديمقراطية اضطرارية التجأ إليها الرئيس الجزائري الأسبق الشاذلي بن جديد بعد أن كادت انتفاضة 1988 تقوض نظامه، والتزم أركان حكمه بالحياد المظهري، أثيرت أسباب كثيرة لوأد التجربة الديمقراطية لكن النظام بدا ماضياً قدماً في بناء مؤسسات الدولة وفقاً لنظام ديمقراطي شفاف.. الإعلام كان حراً لدرجة لم يألفها الجزائريون من قبل، أصبح تليفزيون الجزائر مزاراً دائماً لـ"السلفيين" وغيرهم من "الإسلاميين" في الجزائر.. أضحوا ضيوفاً مرغوباً بهم حتى لدى أركان الحكم، وأوحى لبعضهم أن النظام لا يريد أكثر من "ضمانات"، باتت كل الأجواء مهيأة لانتخابات حرة نزيهة حقاً، ولتحقيق نزاهة أعلى ستكون الصناديق زجاجية شفافة، وسيحضر من يشاء من مراقبين دوليين.

 

الجزائر باستثناء اعتقالات لبعض قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ (FIS)/الحزب الأقوى في المعادلة الجديدة، كانت حافلة بجميع الإرهاصات المبشرة بانتخابات لم يسبق لها مثيل.. لكن غير بعيد عن هذه الأجواء كانت خطة تعد بكل تفاصيلها في أروقة الاستخبارات الجزائرية تشمل العديد من الأصعدة والأدوات.. عندما ظهرت نتائج الانتخابات الأولية مسفرة عن فوز كاسح للإنقاذ كانت آخر رتوش خطة "فلفل حلو" قد أنجزت..

 

(2)

"فلفل حلو"، هو الاسم الرمزي للملف الساخن الذي كان يتعلق بتعامل إحدى أجهزة الاستخبارات الجزائرية مع تيار متشدد عنيف أريد له أن ينشط ويغذي أجواء الفتنة بعد تجنيد قادته وأعضائه لوصم التيار السياسي الإسلامي هناك والذي كان يستعد للانتخابات البرلمانية بـ"الإرهاب"، والذي تكامل مع فصول أخرى من خطة شاملة أعدت لإلغاء الانتخابات البرلمانية في الجزائر في العام 1991، بعد أن أسفرت انتفاضة العام 1988 عن اضطرار النظام الجزائري إلى القبول بالتعددية السياسية والسماح بإجراء انتخابات شفافة.

 

 

عاشت الجزائر حينها أجواء مشابهة لتلك التي تمر بها مصر، وأجريت عدة اختبارات لقياس الرأي العام، عمدت الصحف الناطقة بالفرنسية أو ذات الهوى الفرانكفوني إلى إجراء استطلاعات رأي لسبر غور المزاج الشعبي، ورصدت الدوائر الخاصة المؤتمرات الشعبية للحزب الإسلامي الرئيس في البلاد (F.I.S) والتي لم يعد يحتملها إلا مدرجات استادات الكرة، وقد "أوصت" عدة جهات في الدولة بتأجيل الانتخابات واستجابت الدولة بذريعة استعادة الأمن، والذي كانت أجهزة الدولة ذاتها تحرص على ألا يعود إلى سابق عهده قبل انتفاضة 88، وتم تأجيل الانتخابات ريثما "تستعد القوى السياسية البازغة"، فقد وافق النظام الجزائري حينها على استمرار الفترة الانتقالية لمدة عامين كاملين أملاً في استعداد القوى "البازغة" لكن نجم هذه القوى لم يبزغ أبداً، واستمرت المؤشرات المقلقة تشي بأن كافة الوسائل المشروعة قد نفدت.

 

 

لقد وضعت الخطة حينها وفق ما يبرهن عليه بروايات دقيقة وموثقة من داخل موقع "الجيش الوطني الشعبي" الجزائري المنشق http://www.anp.org/ar ، والذي يحوي كنوزاً عن تلك المرحلة لاسيما في طرق إجهاض التجربة الجزائرية وتحديداً على الرابط http://www.anp.org/ar/LesGenerauxEtLeGIAara/LesGenerauxEtLeGIAara2.html ، ومثلما يحكي أحد أبرز الضباط في جهاز الاستخبارات السابقين، كالتالي:
" في شهر ديسمبر 1990، أثناء اجتماع برئاسة الجنرال نزار في بني مسوس، والذي دعي إلى حضوره كل من المسؤولين الرئيسيين للـ(أ.ع/SM)، أطلعنا وزير الدفاع على التدابير المتخذة لمعارضة(ج.إ.إ/FIS).

 

لقد صّرح لنا بأن لا يقع التسامح مع هذا الحزب إلا في حالة ما إذا لم يتجاوز نجاحه نسبة 30% في الانتخابات التشريعية التي كان مزمعا تنظيمها في 27 جوان 1991 وإلا فإن (ج.و.ش/ANP) سيضطر إلى "تحمل مسؤولياته" في حالة نجاح (ج.إ.إ/FIS) فلن يكون أمام قيادة الجيش إلا أحد الأمرين: إما الاستيلاء على السلطة مباشرة، وإما إقامة قيادة جماعية بواجهة مدنية. ولم يكن المرء يحتاج إلى أي جهد فكري كي يستنتج بأن الاختيار الثاني هو الذي سيحظى بالتفضيل، فالاختيار الأول يمثل الكثير من المساوئ الظاهرة (المسؤولية تجاه الرأي العام العالمي، ردود الفعل السلبية أو العكسية من طرف البلدان الغربية، واحتمال إقامة حظر على الدعم المالي الدولي...).

 

لقد كان مخطط إقصاء (ج.إ.إ/FIS) من الوصول إلى الحكم إذن معدا سلفا في ديسمبر 1990، ولم يبق إلا خلق الظروف المناسبة لوضعه حيز التنفيذ." ("ج.و.ش" أي الجيش الوطني الشعبي، و "ج.إ.إ": أي الجبهة الإسلامية للإنقاذ).

 

الاختيار كان إذن على الاختيار الثاني بالفعل، فقد استلم الحكم بعد إلغاء الانتخابات البرلمانية "مجلس رئاسي" يتكون من عسكريين ومدنيين مختارين بعناية، وكان أول شعارات دميته الحاكمة الجديد، والقادم من خارج الجزائر للتو، والذي أقام لفترة طويلة في المنفى "محمد بوضياف"، هو "الحفاظ على هيبة الدولة"... لقد أصبح الحذر من ضياع "هيبة الدولة" وقتها هو المبرر القوي، وهو العقيدة الديكتاتورية الحاكمة في مقابل إتاحة المجال للإرادة الجماهيرية أن تقول كلمتها الفاصلة، والذي أمكن ـ قهراً ـ تسويقها في كل وسائل الإعلام وفي الخطاب الرسمي السائد.

 

لم يكن متاحاً أن تتجاوز الجبهة أكثر من 30% من مقاعد المجلس، وهو رقم أثير لدينا أيضاً في مصر، حيث ارتبكت الأوضاع كلية هنا في مصر عندما ألمح "الإخوان" إلى مشاركة بأكثر من هذا الرقم وإن أكدوا على التزامهم بهم "تطوعاً".

 

يضيف الضابط نفسه: " ذلكم هو الهدف من "مخطط العمل الشامل" المدبر من الثنائي ( وزير الداخلية العربي بلخير ووزير الدفاع نزار) والمحرر من طرف مستشاري هذا الأخير (الجنرالان: محمد التواتي، وعبد المجيد تاغيت، هذا الأخير كان وقتها قائد "ق.ق.بح/CFN") وقد عُهد بتنفيذ المخطط إلى رئيس (ق.إ.أ/DRS) الجنرال توفيق والعقيدين إسماعيل العماري، وكمال عبد الرحمان، وفي نفس الوقت قُدم "مخطط نزار" هذا إلى رئيس الجمهورية والوزير الأول للتصديق عليه 23 ، لقد كان يتضمن عددا من التدابير التمييزية مثل:
-إبعاد كل الإسلاميين (باستثناء المتعاونين مع الـ"أ.ع/SM") من المناصب الحساسة.
- تبني تقسيم (مفصل على المقاس) للدوائر الانتخابية (لحرمان التشكيلات الإسلامية من الامتياز بدون أية مواربة!)
- المساندة المتعددة الأشكال لـ(ج.ت.و/FLN). (أي جبهة التحرير الوطني الحاكمة).
- رشوة "التشكيلات الحزبية الديمقراطية" بفضل توفير الدعم لها، وفسح المجال الإعلامي أمامها، وخاصة التلفزيون.".. وبدأت الخطة تجد طريقها للتنفيذ.

 

 

إلى الشمال من الجزائر، كانت فرنسا تتابع الخطة عن كثب وتفرد لها مساحات واسعة في دائرة اهتمام أجهزتها الأمنية، وساستها الكبار، وقتها حذر الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران بكل وضوح وحزم "فرنسا لن تسمح بدولة إسلامية على حدودها الجنوبية"، مثلما كرر تصريحه فيما بعد عندما كان البوسنويون على وشط إحراز نصر في البلقان وتحرير بلدهم من الصرب مع اختلاف الاتجاه (من الجنوب إلى الشرق).

هذه كانت الخطوط العريضة لخطة إلغاء الانتخابات البرلمانية الجزائرية أو الالتفاف عليها، ولنا وقفات مع تفاصيلها لاحقاً..

 

(3)

من البديهي في الحقيقة القول بأن الجزائر تختلف كثيراً عن مصر، وأن إمكانية استنساخ تجربتها في إجهاض الديمقراطية يختلف جزئياً عن مصر، ولا يتطابق معها إلا في بعض الملامح التي سأحاول التركيز عليها هنا، ولكي أعفي نفسي من تهمة الغرق في توهم قابلية تكرار التاريخ بحذافيره، أرد بأنني قبل ستة أعوام وفي أعقاب عنفوان النصر الجزئي الذي حققه الإخوان في انتخابات 2005 كتبت في الخليج الإماراتية دراسة قصيرة بعنوان "الإخوان.. الحكم والمستقبل.. النموذجان التركي والجزائري.. سراب التطبيق في عالم مغاير"، وما زلت مؤمناً بصعوبة تكرار النموذجين كليهما لاختلاف التعاطي العسكري معها ابتداء، والاختلاف الاجتماعي الجذري بين شعوب تلك الدول، والاختناق الاقتصادي الدافع إلى التعامل المتزن مع الحالة المصرية، بيد أن هذا كله لا ينفي أن ثمة تشابهاً لافتاً بين ما يحصل في مصر وما مهد للعشرية السوداء في الجزائر في مشاهد عدة، أمهد لها بهذه الرواية لأحد الضباط الجزائريين في مذكراته التي أشرت إليها في الجزء السابق من هذه السلسلة..

 

يقول ضابط الاستخبارات:
لقد كلفني العقيد إسماعيل العماري ابتداء من 28 ديسمبر أن أقوم بدورة على الأحزاب "الصديقة" وكذلك السلطات الإدارية والقضائية بغاية تقويم الوضعية، وإمكانيات احتمال إلغاء الاقتراع (...) لقد بين لنا رئيس (م.ج.م/DCE) بأن الجنرال توفيق شخصيا، وكذلك اللواء خالد نزار كانا يشاركان في إجراء الاتصال بـ "المجتمع المدني" وأنهما كانا يعتزمان تكليف ضباط آخرين من (ق.إ.أ/DRS) بربط الاتصال مع عبد الحق بن حمودة رئيس (إ.ع.ع.ج/UGTA) (نقابة العمال) (النقابة القوية التابعة لـ"ج.ت.و/FLN " (الحزب الحاكم الخاسر) والتي تخدم مصالح النظام ومع ممثلي مختلف الجمعيات، والصحافة وكذلك أحزاب سياسية أخرى، وذلك بغاية الاطلاع على الآراء لمعرفة كيفية التعاطي مع الوضع الجديد. إن تعبئة وتجنيد "المجتمع المدني" أصبح ضرورة مطلقة (...) وفي هذه الظروف بدأ العمل على قدم وساق، وانطلقت حملة تسميم لم يسبق لها مثيل، فبأمر من الجنرال توفيق كلف ضباط (ق.إ.أ/DRS) بمن فيهم ضباط مصلحتي (م.ب.ت/SRA) وعملاءهم، بالقيام بنشر وترويج سلسلة من الإشاعات، تدور كلها حول موضوع واحد، وهو أن حزب الـ(ج.إ.إ/FIS) سوف يستخدم الديمقراطية للوصول إلى السلطة من أجل إقامة دولة إسلامية، وفرض تطبيق الشريعة الإسلامية! ودعاية أبواقهم الإعلامية كانت تساعد على نشر هذه الإشاعات وسارت بها صُعدا حتى وصلت إلى أن تنسب إلى (ج.إ.إ/FIS) عزمه على إقامة دولة مماثلة لنظام الملالي "الديكتاتوري" في إيران حيث لا توجد للمرأة أية حقوق(...) وقامت الصحافة الفرنكوفونية بتشويه متعمد لأقوال قادة (ج.إ.إ/FIS) (الحزب الفائز) (...) وذلك بهدف إقلاق وتخويف الرأي العام، وإنذاره بالخطر، مدعية أن الإسلاميين عازمون على "طرد النخب المتعلمة بالفرنسية، وتعويضهم بالسودانيين والإيرانيين" كما شوهوا كذلك، وعن قصد، أقوال محمد السعيد، وقولوه ما لم يقل أبدا، وهو "وجوب تهيئ الجزائريين لتغيير طريقة معيشتهم، وتبديل التقاليد المتعلقة بلباسهم وغذائهم..."

!!!

بعيداً، عن الجهة التي تقوم بهذا الفعل الآن، وما إذا كان جهات خارجية أو مرتبطة بالنظام السابق أو ما خلا ذلك، وهو ما سنحاول أن نرسم ملامحها لاحقاً؛ فإن الأهم التعرف إلى مفردات تلك الخطة الجزائرية إجمالاً، والتي تتجسد في المحاور التالية:

المحور الأمني:
يتخذ عدة آليات:
1 ـ تلغيم الوضع الأمني وإحداث فوضى تدفع المواطنين إلى طلب مزيد من الأمن الجنائي؛ فيتم تمرير اتخاذ إجراءات تعزز من الأمن السياسي، وتفرض سلطة الأمن عبر فرض أحكام أكثر صرامة تحد من الممارسات الديمقراطية.
2 ـ الإفراج الفوري عن بعض الشخصيات المتهمة بالإرهاب ودفعها لارتكاب أعمال عنف إما بطريقة مباشرة، أو عبر شخصيات تم اختراقها بالفعل.
3 ـ العمل على إحداث انشقاقات واسعة داخل الأحزاب الرئيسية لاسيما الحزب الإسلامي الأقوى (الإنقاذ).
4 ـ استباق الانتخابات بعمليات إرهابية كبرى تستهدف أهدافاً حساسة مثلما حصل في ضرب ثكنة قمار التي رصدها الضابط الجزائري في مذكراته قائلاً: " في آخر نوفمبر نشرت الصحافة أن يوم 29 قامت فرقة "كوماندوس" من الإسلاميين بمهاجمة ثكنة قمار، وهو مركز حراسة حدودي يقع في الجنوب الشرقي من البلاد، أسفر الهجوم عن قتل سبعة عسكريين من شبان الخدمة الوطنية. في الحين ألصقت العملية بـ(ج.إ.إ/FIS) وأدينت بالإجماع من الصحافة ومن الأحزاب السياسية، ومن (ج.إ.إ/FIS) نفسها التي قد تحدى رئيسها عبد القادر حشاني يومها في حديث متلفز الجنرال نزار أن يأتي بأي دليل يثبت تورط حزبه في هذه القضية!
وبالفعل لم يقدم أي دليل، ولن يقدم على الإطلاق وذلك لسبب بسيط يعود لأن هذه العملية كانت مخططة من طرف (ق.إ.أ/DRS) التي استخدمت الإسلاميين المخترقين والموجهين الخاضعين لمقتضيات تطبيق "خطة نزار" التي وضعها في ديسمبر 1990، والتي كانت تستهدف بهذه العملية توريط الـ(ج.إ.إ/FIS) بصفتها حزبا سياسيا! والذي عرفته حول هذه القضية فيما بعد من طرف أحد الضباط في يوليو 1995، هو أن المؤامرة برمتها رتبت أو دبرت بـ(م.ع.ب/CMI) بورڤلة (التابع للـ"م.م.أ.ج/DCSA" لكمال عبد الرحمان). وفي الحقيقة كان مقررا لهذه العملية أن تتم في نهاية ديسمبر ما بين دورتي الانتخابات، في حالة ما لو كانت (ج.إ.إ/FIS) على وشك أن تحصل على الأغلبية في البرلمان، وهو ما كان سيمثل مبررا كافيا لتدخل الجيش حينئذ لتوقيف المسار الانتخابي".
وسيكون من المناسب بعدها دفع عناصر أمنية لإطلاق لحاها والمشاركة في جهد "تعفين الوضع الأمني".. (هنا الحديث عن قمار وليس الشيخ زويد!)

المحور الإعلامي:
تقوم الخطة على ما يلي:
1 ـ تقديم شخصيات منشقة أو هامشية "إسلامية" متعاونة مع الأجهزة الأمنية في وسائل الإعلام بادعائها تمثيل هذه التيارات الشعبية.
2 ـ إطلاق حملة إعلامية تخويفية من وصول "الإسلاميين" إلى الحكم، تتلخص فيما يلي:
ـ الترويج لفكرة كفر التيارات الدينية بالديمقراطية واستدراج بعض القيادات بقصد أو بدون في البرامج الحوارية والحوارات الصحفية للإدلاء بتصريحات توحي بذلك للاستناد عليها لاحقاً في رفض الممارسة الانتقائية للديمقراطية.
ـ التسويق لفكرة أن الأحزاب الإسلامية لا تؤمن بالتعددية السياسية وأنها ستؤسس لدولة "ثيوقراطية" تحكم بالحق الإلهي ولن تسلم الحكم مرة أخرى لأي حزب فائز آخر في أي انتخابات مقبلة.
ـ التحذير من هجرة جماعية قادمة للعقول والكفاءات (نحو 3 ملايين جزائري) لفرنسا في حال فاز المتطرفون بالانتخابات (وإرسال رسالة قوية إلى فرنسا بذلك).
ـ التنبيه إلى أن علاقة الجزائر بالغرب ستكون بالغة السوء، وأن الغد ينتظر حصاراً عالمياً على الجزائر في حال فاز الإسلاميون.
ـ التحذير من الممارسة القهرية الفظة التي ستعامل بها "الحكومة الإسلامية" أفراد الشعب لاسيما النساء اللائي سيفرض عليهن الحجاب عنوة.
ـ "التبشير" بحرب أهلية قادمة إن وصل "الإسلاميون" لسدة الحكم هناك.
....
3 ـ اصطياد ثم تضخيم كل تصريح حماسي صادر عن بعض حديثي العهد بالسياسة من "الإسلاميين"، والذي سيكون له دوره في تخويف الشعب من حكمهم القادم.
4 ـ فتح جميع الملفات القديمة للقوى الإسلامية والمتضمنة أخطاء تراجعوا عنها أو تعد من الماضي الذي وقعت فيه تلك الأخطاء ضمن مناخ لم يعد موجوداً، ولم يعد مسموحاً بتكراره من قبل أصحابه على الأقل.
5 ـ التدقيق في تمويل العمل السياسي الإسلامي، وفي مقابل السكوت عن تمويل الأحزاب الفرانكفونية ومنظمات "المجتمع المدني"، (جرى اتهام السعودية بتمويل القوى الإسلامية حينها فيما صمتت الآلة الإعلامية عن أحزاب سعيد سعدي وحسين آيت أحمد وغيرها).

المحور السياسي:
ومنه ما يلي:
1 ـ أولاً، عمل بالون اختبار يمكن من خلاله تحسس طبيعة حجم الإسلاميين عبر الانتخابات بإجراء أخرى، وقد كان في العام 1990 بإجراء انتخابات محلية غير مؤثرة.
2 ـ تقوم "الأحزاب المجهرية (المصنوعـة في مخابر "ق.إ.أ/DRS")" ـ كما يقول الضابط الجزائري ـ بالاعتراض على طريقة الانتخابات المزمعة، وسيكون لها دورها اللاحق في طلب إلغاء الانتخابات بحجة الحفاظ على الديمقراطية لحين تحقق مطلبها، وهو بهذه المناسبة سيكون عبر وجود "المجلس الأعلى للدولة" المكون من شخصيات عسكرية وأخرى مدنية!!
3 ـ المشاركة في تظاهرات ومؤتمرات باسم "أنقذوا الديمقراطية" تجوب أرجاء العاصمة الجزائر لتوقيف المسار الانتخابي واتخاذ قرارات أكثر صرامة إزاء فوز "الإسلاميين"، إلى الحد الذي دفع هذا الضابط إلى التعجب من مزايدة المدنيين على العسكريين في هذا الصدد (تتكون تلك القوى والأحزاب من اتجاهات يسارية وفرانكفونية موالية لفرنسا).
4 ـ عزل الأحزاب الإسلامية وحدها واستبعادها من اجتماعات التحضير للانتخابات، "كمثال اجتماع عين النعجة الذي سبق الانتخابات"، والانفراد بها في إيهامها بضرورة تقديمها ضمانات محددة تفي للجميع بالاطمئنان على السياستين الداخلية والخارجية والحقائب السيادية في الوزارة القادمة لمنحها انطباعاً بأنه بصدد تقديم تنازلات وليس إقصاءً شاملاً من الحياة السياسية.
5 ـ تفصيل الدوائر الانتخابية بحيث تقلص من قيمة معاقل "الإسلاميين" في البرلمان القادم (نموذج جرى تطبيقه أيضاً بالمناسبة في العراق عندما أعطيت الفلوجة المقاومة 3 مقاعد انتخابية في مقابل أكثر من 20 لكربلاء الموالية للاحتلال بينما التمثيل السكاني لا يسمح بذلك بالمرة).
6 ـ محاولة توريط القوى "الإسلامية" في ملفات سياسية خارجية ساخنة، وحشرها في زاوية ضرورة اتخاذها مواقف أحلاها مر، والاستعداد من ثم إلى إدانة موقفها المقبل أو المتريث أيا كان.
7 ـ العمل على ضرب الأحزاب الإسلامية بعضها ببعض، وإحياء الخلافات القديمة، وخلق معارك كلامية ومنهجية وتكتيكية بينها، وتشجيعها على التنافس على المقاعد ذاتها في الانتخابات، وانتقاد برامجها الانتخابية، وتوسيع دائرة التناقضات داخل كل حزب أو قوى منها.

 

وبعد،، هل من تشابه؟
بالتأكيد نلمح تشابهاً لافتاً، وتكراراً مملاً للمسلسل الذي يحصل في مصر، والذي ربما لا يسير في هذا الاتجاه الدموي المريع لأسباب عديدة؛ فالجيش المصري أعلن انحيازه للثورة حتى الآن، فيما كان الجزائري متورطاً في رفض الديمقراطية والانقلاب عليها منذ البداية، لكن من المهم أن يقال أن جهة ما، ربما لها ارتباطات خارجية وثيقة، باتت تفرض أجندتها على الجميع، وتحرك الأحداث باتجاه غير مأمون العواقب، وهي تحاول ببراعة أن تستغل الملفات التقليدية وغير التقليدية في تعفين الوضع وخلق انفلات أمني ليس بالضرورة منسوباً إلى تيار ديني بعينه بعدما بدا أن هذه الأكذوبة في طريقها للانكشاف بفعل الميديا الجديدة التي لم تكن تتوافر في الجزائر قبل عشرين عاماً، لكن بترك "الفوضى الخلاقة" تحصل من تلقاء نفسها أو بدفع من محركين تمكنوا خلال حكم مبارك من إقامة شبكات هائلة من "البلطجية" الذين نحن في الحقيقة نظلمهم بهذه التسمية لأنهم بالفعل قد جاوزوها لتكوين "ميليشيات" حقيقية قادرة على إحداث فوضى كونداليزا رايس المعروفة..

 


سيقول أعداء الثورة الحقيقيون:

1 ـ المناخ غير متاح لإقامة انتخابات دون تعريض أمن الوطن للخطر.
2 ـ لا يمكننا ضمان أمن الناخبين.
3 ـ لابد من فرض الأحكام العرفية. (كانوا بالأمس يطلبون إلغاء الطوارئ فطلبوا ما هو أعنف!!).
4 ـ لابد من تأجيل الانتخابات.
5 ـ لابد من "تكوين" جمعية تأسيسية هدفها وضع دستور جديد للبلاد في الفترة الانتقالية! فإن اعترضتم فالهدف "وضع أسس دستور جديد" للجمعية التأسيسية بعد الانتخابات (هل طلب البرلمان القادم مساهمتهم؟!).
6 ـ مصر تحتاج رئيس قوي الآن قبل إجراء الانتخابات البرلمانية.
7 ـ لابد من تعديل قانون الأحزاب.
8 ـ لابد من وضع قانون جديد للممارسة السياسية.
9 ـ يجب إعادة النظر في شكل الدوائر الانتخابية.
10 ـ لابد من التوافق على الرئيس الجديد للمرحلة الجديدة "الدقيقة".

 

إنها المؤامرة/الجريمة لإلغاء الانتخابات البرلمانية ـ نعم إلغائها ـ ليس بالضرورة بالتأجيل وحده وإنما ربما بإقامتها عرجاء لا تعبر إلا عن رغبات "الثورة المضادة الحقيقية" وليست تلك التي يخدرنا بها إعلام واشنطن المصري.. فذاك إلغاء موضوعياً لها لا ينفيه إجراءً مقارباً لانتخابات عز..

 

نذكر في النهاية: كان يرعى جنرال أمريكي يدعى دايتون "تأهيل وتدريب" الأجهزة الأمنية التابعة لعباس ودحلان في غزة، كان ثمة انفلات أمني هائل في القطاع.. في العام 2007 انحلت تلك الأجهزة وأزيحت عن تسميم الوضع.. لم يغب "الأمن" بعدها وإنما غاب "الانفلات"!!