18 ذو الحجه 1432

السؤال

نحن معلمات في دورة تدريبية، نشكو من شدة تدقيق المديرة على طاقم العمل في كل شيء، وتمسكها الشديد برأيها، تقوم بمشورة مَن في الخارج كثيراً، حتى إذا حصل شيء بسيط قد تستشير أربعاً أو خمساً، مع أننا خبرتنا في التدريس في المعهد أكثر من عشر سنوات، وإذا خالفناها الرأي أصبحت عصبية، وذكرتنا بمخالفاتنا السابقة لها، وأخطائنا، وصبت علينا وابلاً من الكلام اللاذع، وفي كل هذا تقول: أنا أريد الورع والأفضل لدرجة أنها ممكن تنزل المعلمة من حصتها لتذكر لها الخطأ مع إمكانية تأخير الكلام لما بعد الحصة.. أصبحت أسوأ أيام في معهدنا أيام الحفلات؛ لأنها تنقد كل شيء ولا تفوت شيئاً أبداً، نشعر بضغط شديد.. هل ما تفعله هذا صحيح؟

أجاب عنها:
د. علي الدقيشي

الجواب

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أخواتي السائلات:
أشكر لكن الحرص على الازدياد من العلم النافع المعين على حُسن أداء التعليم والسعي لإصلاح ذات البين بينكن وبين المديرة فهذا من أعظم ما يحبه الله.
أولاً: أبشركن بمحبة الله تعالى لكُنّ، فإن الله تعالى يقول: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: من الآية195]، ومما يعين على الإحسان في أداء التعليم والعمل حضور مثل هذه الدورات النافعة.
أحب أن أذكركن بأن الله يريد لكنَّ الخير، حيث بدلاً من أن تخرجن بدورة واحدة، تخرجن مستفيدات في جوانب عدة أيضاً، منها وأعظمها اكتساب الصبر والتدرب عليه عملياً، من وراء الاحتكاك الاجتماعي مع أهل هذه الدورة في المعهد من زميلات – مدرسات – إداريات – عاملات، فهذه الدورة عطاء من الله لكنَّ، وفرصة عظيمة للتحلي واكتساب صفة الصبر الذي أخبر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم "أنه ما أعطي أحد عطاءً أعظم ولا أوسع من الصبر" أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وأن الله تعالى جعل أجر أهل الصبر لا حدود له كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: من الآية10]، والصبر يحتاج إليه المؤمن في أثناء حياته كلها في شتى مناحيها، فكل شيء يحتاج إلى الصبر، الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله، والصبر على أقدار الله التي قد تتألم النفس منها، كالمرض أو الفقر، أو الابتلاء في التعامل مع إخوان أو أخوات لنا في الدين لهم طباع فيها حدة – شك – تسرع – تهور – اعتداد بالنفس بصورة زائدة...
فالإنسان باستمرار في حاجة إلى زاد الصبر ليستعين به على النجاح في الحياة في أثناء تعامله مع ربه في عبادته فيصبر على الطاعة ليحسن القيام بها، ويصبر عن معصية الله بالانتهاء عنها، ويصبر على أقدار الله التي قد تتألم النفس منها، الذي من جملتها الصبر على الإخوان والأخوات أصحاب الطباع التي تحتاج إلى صبر ومداراة وحكمة، ومقابلة السيئة بالحسنة.
2- ومنها الفوز بدرجة الخيرية عند الله وعند الناس، أي يكون الإنسان في سجل خير الناس، يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ويصبر على أذاهم".
3- التنبه إلى الحقيقة التي نبه إليها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي أن الكمال والسلامة من العيوب والنقص لله تعالى وحده، وأن القصور أصل في بني آدم، لما جبل عليه الإنسان من الضعف عامة، يقول تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء: من الآية28]، يفهم ما سبق ذكره من قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم"، فعلينا أن ننتبه إلى أن مخالطة الناس لا بد منها لطبيعة ديننا العظيم الذي راعى طبيعة الإنسان في تشريعه العظيم؛ حيث لما علم أن الإنسان مدني بطبعه يميل إلى الاجتماع بغيره، وهذا ضروري لما يترتب عليه من المنافع الكبيرة في تيسير أمور الحياة، ربط كثيراً من أعمال العبادة بالاجتماع حتى تتحقق منافع وخيرات الاجتماع على جماعة المسلمين، فجعل أم العبادات الصلاة، أوجب أداءها جماعة كل يوم خمس مرات في المسجد، الجمعة كل أسبوع في الاجتماع الأكبر، وصلاة العيدين، وحث على التزاور في الله، وصلة الأرحام، والاجتماع على الخير بأنواعه، كل هذا لتتحقق منافع وخيرات الاجتماع.
ولكن كما يقول أهل العلم: (الغنم بالغرم) لكي يغنم الإنسان بركات وخيرات الاجتماع بالآخرين مثلاً مثل الاجتماع بالآخرين في مثل هذه الدورة المباركة، في مقابل ذلك يغرم أشياء مقابل ذلك، يصرف من رصيد الصبر والتحمل، لكلمة غير مناسبة من أحد، أو موقف غير لائق، أو عبارة نابية، أو تدقيق من رئيس،....
من أجل ذلك فعلينا بتوطين أنفسنا على هذه الحقيقة أننا كلنا غير كمل، فالخطأ كما هو متوقع من غيرنا، فهو متوقع منا، فكما تحب أن نُسامَح وأن يُصبَر علينا، فعلينا أن نقابل الناس بهذا، وكذلك الاجتماع فرصة لتفعيل الأخلاق والشيم الإسلامية عملياً للصادقين من المؤمنين والمؤمنات، يقول تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:133-134].
ثانياً: أقول لأخواتي المعلمات الكريمات إن هذه المديرة – وفقها الله – لو تأنيتنّ شيئاً ما، وتأملتن فيما ذكرتن من أمرها مع غض النظر عن الأسلوب والطريقة التي تتعامل بها، لوجدتنّ أن فيها صفات تتناسب كمديرة لمعهد ومسؤولة عنه أمام الله تعالى قبل الناس، ولا سيما إذا كانت من الناس الذين يحملون هم المسؤولية والأمانة، لنتج عن ذلك طبيعياً ما ذكرتن – وفقكن الله – من:
1 – التدقيق في العمل أو التوجيه.
2 – الحرص على التمسك والالتزام بوقت الدوام والحضور والانصراف – بالتعليمات.
3 – كثرة الاستعانة والتشاور لغيرها في إدارة الأمور، فكثرة الاستشارة الحكيمة عبادة يحبها الله، ومدح الله عباده المؤمنين المتصفين بها، بل أمر رسوله الكريم بالاتصاف بها، قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: من الآية159].
فهذه صفات حميدة فيها، عليكن أن تعتبرن هذه الصفات لها لا عليها، وهذا لا يتنافى مع ما أنتن عليه – ولله الحمد – من الخبرة الحميدة في التدريس، ولا ننسى ما ذكرته سابقاً، من وجود بعض الناس الذين يتعاملون مع مسؤولياتهم بحساسية زائدة، من تمسك بالرأي، أو العجلة في تصحيح الأخطاء، أو التوجيه والإرشاد ولو على الملأ.
فالذي أنصح أخواتي المعلمات الكريمات – زادهن الله أدباً مع المسؤولين رجالاً ونساءً – أن يتذكرن أنهن على خير عظيم، فأنتن وارثات لميراث النبوة الذي من أعظمه التعليم والتعلم، يقول الرسول الكريم: "إنما بُعثت معلماً" وكان أعظم ما اتصف به معلمنا صلى الله عليه وسلم الصبر والمعاملة الحسنة، ومقابلة السيئة بالحسنة، وإنزال الناس منازلهم، فعلنا بالاقتداء به، فغيرنّ النظرة تجاه ما ذكرتن وأعددن ذلك كما ذكرت سابقاً صفات إيجابية، وأن مبعثها الحرص الزائد والحساسية تجاه المسؤولية، وعليكن – بارك الله فيكن – بالإحسان إليها وإكرامها وتوقيرها والتلطف معها، والمبادرة إلى تنفيذ ما ترشد إليه، والتودد إليها على أنها من أولي الأمر الذين طاعتهم في الخير والمباح عبادة وطاعة لله، فتقربن بطاعتها في المعروف إلى الله تعالى، فتجديد النية في ذلك سيغلق الباب على الشيطان الذي يثير الحساسية فيكن تجاه المديرة، أكرمنها بالهدايا لله تعالى لا لشيء آخر، أقمن الحفلات على شرفها وقمن بدعوتها إليها، أكرمنها بذكر جهودها كلما سنحت الفرصة لها، ولغيرها في حضورها، ليتكنّ إن كنتنّ على معرفة بإحدى زميلاتها أو صديقاتها فاذكرنها أمامهن بالخير ولو تيسر لهن نقل هذا الثناء عنكن إليها لكان خيراً.
وأختم بالنصح لنا جميعاً بتفعيل توجيه النبي صلى الله عليه وسلم مع كل من نتعامل معهم في هذه الحياة؛ ابتغاء مرضاة الله، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله امرأً أعان ابنه على بره"، ليتنا نعمم هذا التوجيه حتى تصيبنا رحمة الله فنسعد في الدنيا ببركة العمل بدينه وشرعه، وفي الآخرة عند نيل الجائزة والكرامة من الله في الجنان.
فيحرص كل إنسان أن يعين أي إنسان يتعامل معه على بره أباً كان، أو أماً، أخاً، أختاً، زوجاً، زوجة، زميلاً، صديقاً، رئيساً، مرؤوساً،...
أرجو الله تعالى أن يتم عليكنّ الدورة بخير، وأن يوفقكن للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلكن مثالاً للمعلمات الصالحات المخلصات العاملات بالخيرات.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.