أنت هنا

رمضانُ و فتح مكَّة
1 رمضان 1437
اللجنة العلمية
أهمِّيَّةُ فتح مكة وخصائصه!
 
فتح مكة: رسم ملامح مرحلة التّمكين:

إذا كانت ثمة مميزات خاصة لغزوة بدر، ومنها أنها أول ظهور عسكري للمسلمين، فيه الكثير من المغامرة والمخاطرة، نظرا لتفاوت ميزان القوة بين المسلمين الذين كانوا في مرحلة البناء والإعداد لكيانهم الجديد، وبين قريش التي رأت في المناوشة فرصة لاستئصال المسلمين والقضاء عليهم نهائيا؛ لكن العناية الإلهية تدخلت، وساقت للمسلمين القلة عددا وعدة نصرا تاريخيا، كانت الدعوة في أمس الحاجة إليه، لتكتسب موقعا وهيبة في الساحة الإقليمية ـ كما يعبر عنه بلسان العصر ـ يضمن لها البقاء والاستمرار. من جهة أخرى تتجلى خصائص غزوة بدر الكبرى في الأسس التربوية والتعبوية التي تلخص شروط النصر، كما تفصلها سورة "الأنفال".

من هنا تعتبر غزوة بدر مدرسة تربوية وتعبوية للمسلمين وهم في مرحلة الإعداد، وتأتي غزوة فتح مكة لترسم لنا معالم مرحلة التمكين وكيفية التعامل مع الخصوم والأعداء، وتسمو بالمسلمين -وهم أصحاب رسالة ودعوة للعالمين- عن الحسابات الضيقة، والزج بالعباد والبلاد في متاهات تبذر الجهود والطاقات والوقت، عوض صرفها في البناء، وتهيء الظروف لتدخل الأجنبي.

فتح مكة مطلب حيويّ إستراتيجيّ:

أما على المستوى الدعوي والسياسي والعسكري، ففتح مكة كان مطلبا حيويا، لما لقريش من وزن إقليمي: دينيا باعتبارها محج القبائل العربية، وصدها للإسلام يجعل دخول العديد من القبائل متعذرا بحكم علاقاتها مع قريش، واقتصاديا باعتبار مكة محوراً تجاريا، وممرا أساسيا بين شمال شبه الجزيرة والشام، لهذه العوامل ظلت قريش"وفية" لموقفها العدائي للإسلام، وكانت الطرف الأقوى في جميع المخططات للنيل منه.

إذن ففتح مكة معناه: القضاء على العدو التاريخي للإسلام، وتحرير شبه الجزيرة العربية من الوصاية القرشية، ولا عجب إذا تسارعت وتيرة اعتناق الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجا بعيد الفتح، يقول ابن القيم: "هو الفتح الأعظم الذي أعزَّ الله به دينهُ ورسولهُ وجنده وحزبه الأمين، ... وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، ضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجا .. "(2)

إضافةً إلى ذلك: هناك اعتبارات رمزية لا تقل أهميةً: كونُ مكةَ قبلةَ المسلمين، ومنطلق الدعوة التي يحنُّ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين، عوامل كلها تجعل فتح مكة في الاستراتيجية النبوية مسألة وقت وتهيؤ ظروف ذاتية وموضوعية.

 

كان الوضع الإسلاميُّ بعد جمادى الثانية من سنة ثمان من الهجرة وأوائل رجب من نفس العام في غاية الاستقرار؛ إذ إن هناك رهبة وهَيْبة للدولة الإسلامية، وهناك انتصارات متكررة في صورة جديدة لدولة ناشئة في المدينة المنورة، تبسط سيطرتها على أطراف واسعة من الجزيرة العربية.

وهذه الأحداث كانت نهاية لفترة معينة قد انقضت، ومن بعدها مباشرة ستبدأ فترة جديدة من أحداث السيرة النبوية، وهي مقدمات فتح مكة.

وحين نتكلم على فتح مكة لا بد أن نعلم أن فتح مكة كان لحظة فارقة حقيقية في تاريخ المسلمين، بل في تاريخ الأرض، حتى إنه إذا ذكر الفتح معرَّفًا هكذا (الفتح)، انصرف الذهن مباشرة إلى فتح مكة، مع أن كل انتصارات المسلمين كانت فتحًا؛ فكان انتصار المسلمين في خيبر فتحًا، وعلى الرومان في مؤتة فتحًا، وعلى المشركين في بدر فتحًا. فكل هذه فتوحات، إلا أنه إذا ذُكر الفتح فقط، عُرف أنه فتح مكة.

وهذا الفتح كان ما قبله شيئًا وما بعده كان شيئًا آخر، حتى إن الرسول كان يقول: "لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ" [1].

ويقول رب العالمين I: { لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10].

أي: إن ما قبل الفتح كان شيئًا وما بعده كان شيئًا آخر؛ فإنفاق قبل الفتح شيء وإنفاق بعد الفتح شيء آخر، وقتال قبل الفتح شيء وقتال بعد الفتح شيء آخر، فكان الفتح بالفعل لحظةً فارقة حقيقية؛ إذ معناه التمكين لدين رب العالمين I، وكان معناه النصر، ومعناه السيادة.

 

 
فتح مكّة: الخلفيّة الأساسيّة
 
 
الموقف العام في الجزيرة العربية:
1. المسلمون:

كانت هناك هدنة الحديبية خيراً على المسلمين، فقد قضوا خلالها على يهود في المدينة المنورة وخارجها عسكريا، فلم يعد لهم أي خطر عسكري يهدد المسلمين. كما أتاحت للمسلمين السيطرة على القبائل العربية في شمالي المدينة حتى حدود الشام والعراق، وانتشر الإسلام بين القبائل العربية كلها، فأصبح المسلمون القوة الضاربة الأولى في شبه الجزيرة العربية كلها.

ولم يبق أمام المسلمين غير فتح مكة، تلك المدينة المقدسة التي انتشر الإسلام فيها أيضاً، ولم يحل دون فتحها وعودة المستضعفين الذين أخرجوا منها بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، إليها، غير صلح الحديبية الذي يحرص النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الوفاء به.

2. المشركون:

أدى انتشار الإسلام بين قسم كبير من القبائل ومن ضمنها قريش وبقاء القسم الآخر على الشرك إلى تفرق كلمة القبائل واستحالة جمع تلك الكلمة على حرب المسلمين. ولم يبق في قريش زعيم مسيطر يستطيع توجيهها إلى ما يريد حين يريد: المسلمون فيها لا يخضعون إلا لأوامر الإسلام، والمشركون فيها بين متطرف يدعو للحرب مهما تكن نتائجها، ومعتدل يعتبر الحرب كارثة تحيق بقريش.

 

يتفق الدارسون على أن مواجهة عسكرية حاسمة ومعركة فاصلة باتت وشيكة بين قريش التي نفذ صبرها بعد تنامي قوة المسلمين التي غدت تطوق نفود قريش، وجاء قرار رسول الله صلى الله عليه وسلم لقضاء العمرة في السنة السادسة للهجرة ليضع قريش في حرج كبير، لا سيما والمسلمون لم يخرجوا لقتال، فهم في شهر ذي القعدة الحرام، يسوقون الهدي، ولا يحملون السلاح؛ الأمر الذي انتهى بتوقيع معاهدة صلح الحديبية، اعتبره القرآن فتحا مبينا كما سماها في سورة "الفتح"، وقد وفرت معاهدة صلح الحديبية أسباب فتح مكة بشكل غير مباشر من خلال البند الثالث الذي يقول: " من أحب أن يدخل في عقد محمد (نقول صلى الله عليه وسلم) وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزءا من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من هذه القبائل يعتبر عدوانا على ذلك الفريق."

بمقتضى هذا البند دخلت قبيلة خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت قبيلة بني بكر في عهد قريش، وكان بين القبيلتين عداوة وثأر كبيرين، فأمنت كل منهما نفسها بهذا التحالف، لكن بني بكر استقوت على خزاعة بقريش ومكانتها بين العرب فأصابت منها ثأرا قديما، وقتلت منهم رجالا، وتورطت قريش في العدوان بسلاحها ومقاتليها؛ فسارعت خزاعة تستنجد برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتطالب بتفعيل اتفاقية الدفاع المشترك.

هكذا تكون قريش قد جنت على نفسها، وهي تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يتأخر في نصرة خزاعة، فسارع أبو سفيان لإنقاذ الموقف، في محاولة لاستغفال المسلمين، وتجديد معاهدة الصلح، مثلما سارع الرسول صلى الله عليه وسلم لتأديب قريش على غدرها، فالعدوان على خزاعة عدوان صريح على المسلمين، ولم تنجح محاولة أبي سفيان وعاد إلى مكة موقنا بمواجهة عسكرية مع المسلمين الذي نمت قوتهم بشكل سريع خلال سنتي الصلح.

 
بنود صلح الحديبية: للتَّذكير:
البند الأول: إيقاف الحرب بين الفريقين مدة عشر سنوات من تاريخ الصلح.

البند الثاني: من أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قريش ومن معهم في عهد الصلح مسلمًا بغير إذن وليه فعلى الرسول أن يرده إليهم.

البند الثالث: من أتى قريشًا ومن معهم في عهد الصلح مرتدًّا عن الإسلام لم يردوه إلى المسلمين.
البند الرابع: أن بين الفريقين المتعاهدين عيبة مكفوفة.

العيبة في اللغة: وعاء من جلد يكون فيها المتاع، وجمعُها عياب، وعيب. والعيبة ما يجعل فيه الثياب، والعيبة: زنبيل من جلد يُنقل فيه الزرع المحصود إلى الجرين في لغة همدان. مكفوفة؛ أي: مشرجة مشدودة. والتشريج الخياطة المتباعدة. ويقال لغة: كففت الثوب، أي: خطت حاشيته، وهي الخياطة الثانية بعد الشل؛ والتعبير بالعيبة المكفوفة كناية عن حفظ ما بين الفريقين وعدم إظهاره.

فهل المراد طيّ القلوب ما تعاقدوا عليه واتَّفقوا عليه من الصلح دون إخلال به، وتنقية الصدور من الغلّ والغشّ، أو كفّ مسبّبات الشَّرّ، وعدم إخراج شيء منها؟

احتمالان أوردهما أهل اللغة، ويظهر لي ترجيح المعنى الثاني، أي: ما بيْنَنَا من عداء وخلاف وخصام نكفُّه بعهد الصلح هذا، ونُبْقِيه داخل الصدور، لا نَجعل شيئا منه يندفع إلى الظاهر بقول أو عمل، كشتائم أو شعر هجاء، أو أي شيء آخر ينم عن عداء، كما يقول الخصمان إذا اصطلحا على المهادنة: ونطوي صفحة الماضي.

البند الخامس: أنه لا إسلال ولا إغلال.

لا إسلال: الإسلال في اللغة السرقة الخفية، وانتزاع البعير وغيره في جوف الليل من بين الإبل، أو من بين ما هو من نوعه. وإعانة الإنسان غيره على ذلك. والإسلال الغارة الظاهرة. ولا إغلال: الإغلال في اللغة الخيانة، والسرقة.

فتضمَّن هذا البند المصالحة على منع الخيانة، والسرقة الظَّاهرة، والخفيَّة التي تكون إسلالا، ومنع الغارة الظاهرة، ومنع الإعانة على شيء من ذلك.

البند السادس: مَنْ أحبَّ من قبائل العرب أن يدخُل في عهد محمَّد وعقده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدهم دخل فيه.

ولمَّا علم النَّاس بهذا البند من بنود الصلح أسرعتْ خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وقد كانوا في الجاهلية مع بني هاشم في حلفِهم، وكانوا أهل نصح لرسول الله - صلى الله عليه وسلم.

وأسرع بنو بكر فقالوا: ونحن في عقد قريش وعهدهم.

وكان بين خزاعة وبين بكر إحن وضغائن وتِرات ودماء قديمة، فشملهما عقد الصلح، وصار واجبًا على المسلمين نصرة خزاعة إذا عدا عليهم بنو بكر أو قريش، وواجبًا على قريش نصرة بني بكر إذا عدت عليهم خزاعة أو المسلمون؛ لأنَّ على كل فريق أن ينصر من دخل معه في العقد والعهد، بموجب هذا البند.

البند السابع: أن يرجع محمد ومن معه من المسلمين عامهم هذا دون أن يؤدُّوا عمرتهم، فلا يدخلوا مكة ولا يطوفوا بالبيت، فإذا كان العام القابل خرجت قريش عن مكة، وأخلتها فدخلها محمد - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه، فأدوا عمرتهم، وأقاموا بمكَّة ثلاثًا، ليس معهم من السلاح إلا سلاح الراكب، وهي السيوف مغمدة في قربها.

 

 
أسباب فتح مكة
 
السَّبب الأساسيُّ، هو: خيانة قريش لصلح الحديبية!

تحالفت قريش مع قبيلة بني بكر، وقتلوا عددًا من رجال قبيلة خزاعة، وبذلك خانت قريش العهد الذي بينها وبين رسول الله، ومن ثَمَّ اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم القرار بفتح مكة، والاستعداد لعملية كبرى من العمليات العسكرية، أو أكبر عملية عسكرية في تاريخ المسلمين حتى تلك اللحظة!

وفيما يلي مزيد من التّفصيل:

أراد بنو بكر حلفاء قريش أن يأخذوا بثاراتهم من بني خزاعة حلفاء المسلمين، وحرَّضهم على ذلك متطرفو قريش بقيادة عكرمة بن أبي جهل وقسم من سادات قريش، وأمدوهم سراً بالرجال والسلاح. وقامت بكر بالهجوم المباغت على خزاعة فكبدوهم خسائر بالأرواح والأموال، والتجأت خزاعة إلى البيت الحرام فطاردتهم بكر مصممة على القضاء عليهم غير مكترثة بصلح الحديبية، فانتهت الهدنة بين قريش وحلفائها من جهة وبين المسلمين وحلفائهم من جهة أخرى، وكان الذي نقض هذه الهدنة قريش وبكر.

خزاعة تستنجد بالرسول

ما حدث بعد ذلك هو أن خزاعة أسرعت إلى المدينة المنورة تستغيث بالرسول، وكان عمرو بن سالم أول من جاء إليه من خزاعة، في أربعين من قومه، يستنصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويستَنْجِزُه الوفاء بِمُوجبات العقد والعهد، وقد أنشد عنده بعضًا من أبيات الشعر، يعبر فيها عن المأساة التي تعرضت لها قبيلته، فكان مما قاله:

يَا رَبِّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدًا *** حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الأَتْلَدَا

قَدْ كُنْتُمُ وُلْدًا وَكُنَّا وَالِدًا *** ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا

فَانْصُرْ هَدَاك اللَّهُ نَصْرًا أَعْتَدَا *** وَادْعُ عِبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا مَدَدَا

فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ تَجَرَّدَا *** إِنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبَّدَا

فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدًا *** إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا

وَنَقَضُوا مِيثَاقَك الْمُوَكَّدَا *** وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءٍ رُصَّدَا

وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أَدْعُو أَحَدًا *** وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا

هُمْ بَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجَّدًا *** وَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا

وقد كان واضحًا في هذه الأبيات أن عمرو بن سالم كان قد أسلم عند قول هذه الأبيات، إلا أن معظم بني خزاعة لم يكونوا قد أسلموا بعدُ، وكان قتلى خزاعة من المشركين ومن المسلمين.

وكان ردُّ فعل الرسول عندما استمع إلى هذه الأبيات أنه لم يتردد لحظة واحدة، إنما قال في غاية الحزم والثبات: "نُصِرْتَ يَا عَمْرَو بْنَ سَالِمٍ" [4].

نَعَمْ هو لم يحدد الطريقة التي سينصر بها عمرو بن سالم، لكنه أخذ على الفور قرار النصرة؛ وذلك لأنه كان بينه وبين قبيلة خزاعة اتفاقية وحلف، وهذا بصرف النظر عن مِلَّة قبيلة خزاعة، مسلمة كانت أو مشركة، فإن كان معظم قبيلة خزاعة من المشركين فإن الحلف بينهم وبين المسلمين يقضي بأن يدافع كل طرف عن الطرف الآخر إذا ما تعرض ذلك الآخر إلى أيِّ اعتداء.

وقد أخذ الرسول هذا القرار بمنتهى الجدية، ولا شك أن هذا يعطي ثقة للمتحالفين، ويبين للحلفاء المشركين أخلاق المسلمين، وأنهم يدافعون عن الحليف (المعتدَى عليه) إذا ما أصابه مكروه، حتى ولو كان هذا الدفاع سيصيبهم بأذًى كبير.

بعد عمرو بن سالم قَدِم أيضًا بُدَيل بن ورقاء الخزاعي، وهو الذي كانت ترسله قريش ليقوم بالمعاهدات والمفاوضات بينها وبين المسلمين أيام صلح الحديبية؛ أي أن بُدَيلاً هذا رجل صديق لقريش، ومع أنه كان يعيش في مكة إلا أن قبيلته هي التي أصيبت داخل الحرم.

الآن يتجه بُديل ليشكو إلى رسول الله، وهو أمر غريب حقًّا؛ إذ إنه في ذلك الوقت كان مشركًا ولم يسلم إلا بعد فتح مكة، وفي ذلك الوقت أيضًا كان ما زال يعيش داخل مكة المكرمة، وتجارته وعلاقاته ومصالحه بكاملها كانت في داخل مكة المكرمة، بل إن بُديلاً هذا كان صديقًا شخصيًّا لأبي سفيان زعيم مكة، ومع ذلك فحين أصيب لم يذهب إليه ليجعله يردُّ له ولقبيلته الاعتبار، أو أن يدفع لهم ديات قتلاهم، إنما ذهب ليشكو لمن لا تضيع عنده الحقوق، ذهب إلى رسول الله.

وإني على أتم يقين أنه حين ذهب بُديل إلى رسول الله كان أقصى أحلامه أن يأخذ الرسول الفداء لخزاعة، أو يقتل من بني بكر ما يوازي ما قُتل من خزاعة، لكنه لم يخطر بباله أن الرسول سيفكر في فتح مكة، إلا أنه دُفِع إلى هناك ليكون سببًا من أسباب فتحها.

ويظهر أنَّ الوَحْيَ أبلغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما كان من قريش من نقض العهد، فعزم على غزْوِها، دون أن يخبر الناس، حتَّى أقرب الناس إليه، فأمر عائشة أمَّ المؤمنين أن تجهزه، ولا يعلم أحدٌ بالأمر.

فدخل عليها أبو بكر، فقال لها: ما هذا الجهاز؟
فقالت: والله لا أدري.

قال: والله ما هذا زمانُ غزوِ بني الأصفر، فأين يريد رسول الله؟

قالت: والله لا أعلم.

وكان هذا قبل أن يصِلَ إلى المدينة خبرُ نقض قريش عهدَها بنحو ثلاثة أيام.

ويبدو أنَّ أمَّ المؤمنين عائشة أنبأت الرسول - صلى الله عليه وسلم - بِما جرى بينها وبين أبيها، فأعلمها بالأمر، وأذِنَ لها بأن تُخْبِر أباها، وذلك جمعًا بين الروايات وهو ما ذكره الزرقاني.

وروى الواقديُّ أنَّ الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة: ((لقد حدث يا عائشة في خزاعة أمر)).

قالت: أترى قريشًا تَجترئُ على نقض العهد الذي بينك وبينهم وقد أفناهم السيف؟

قال: ((ينقضُون العهد لأمر أراده الله)).
قالت: يا رسول الله، خير؟
قال: ((خير)).

وجاء في حديث ابن عمر عند ابن عائذ، أنَّ ركب خُزاعة لما أخبروا الرسول بِما كان من بني بكر وقريش قال لهم: ((فمَن تهمتكم وظِنَّتُكم؟)) أي: على من تُوقِعون تُهْمَتَكم وظنَّتَكم.

قالوا: بني بكر.
قال: ((أكلها؟)).
قالوا: لا، ولكن بنو نفاثة، ورأسهم نوفل.

قال: ((هذا بطنٌ من بني بكر، وأنا باعثٌ إلى أهل مكَّة فسائِلُهم عن هذا الأمر، ومُخيِّرُهم في خصال ثلاث)).

فبعث إليهم يُخيِّرُهم بين:
1 - أن يدُوا قتْلى خزاعة. (أي: يدفعوا دية قتلى خزاعة).
2 - أو يبْرَؤُوا من حِلْفِ بني نُفاثة.

3 - أو ينبذ إليهم عهدَهُم على سواء. (أي: فيتحلَّل كلّ فريق من الالتزام بعقده وعهده).

فاجتمعتْ رؤوس قريشٍ للتَّشاوُر فيما عرض عليْهِم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فتعجَّل "قرظة بن عمرو" من بين القَوْمِ، فقال: "لا ندي، ولا نبرأن ولكن ننبِذُ إليه على سواء". ورجع مبعوثُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بِما سمع منهم، فأخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

ثُمَّ ندِمَتْ قريشٌ على ما كان منها، إذ تَخوَّفَتْ من الانتِقام وغزْوِ الرسول لها في بلدها، وأرادتْ أن تتدارَك الأمر مع الرسول، فاتَّفق كبراؤُها على أن يرسلوا زعيمَهُم "أبا سفيان بن حرب" إلى الرَّسول في المدينة، فيوثِّق معه عقد الهدنة، ويستزيد في مدَّتِها.

 

 

جهود المشركين من أجل تثبيت صلح الحديبية وإطالة أمده

 
قريش تدرك الخطأ الذي وقعت فيه:

عُقد مجلس استشاري كبير، جلس فيه أبو سفيان مع قادة مكة؛ مع عكرمة بن أبي جهل، ومع صفوان بن أمية، ومع سهيل بن عمرو، ومع غيرهم من رجال مكة وزعمائها، وبدءوا يفكرون فيما سيفعلونه نتيجة نقض المعاهدة، لوجود انطباع عند قريش وخاصةً عند أبي سفيان أن المسلمين وصلوا إلى مرحلة كبيرة من القوة، وكان من الواضح في صلح الحديبية نفسه أن الغلبة للمسلمين، والقوة والبأس لصالح المسلمين، والتفريط والتنازل في صالح قريش، التي ما كنت تسلِّم بذلك الأمر لولا أنها رأت قوة المسلمين في بيعة الرضوان أو في صلح الحديبية.

ثم إن أبا سفيان قد سافر إلى غزة للتجارة، وهناك التقى مع هرقل في اللقاء العجيب، وخرج أبو سفيان من هذه المحاورة بانطباع هائل عن رسول الله، لدرجة أنه خرج يضرب يدًا بيد ويقول: لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة [1]، إنه يخافه ملكُ بني الأصفر (هرقل) [2].

ثم إن أبا سفيان ومن معه من قريش شاهدوا الانتصارات الإسلامية هنا وهناك في خيبر، وكانت انتصارات كبيرة وضخمة، ولا يتخيلها أهل قريش. ثم أسلمت الدول والقبائل المحيطة بمكة المكرمة؛ فقد أسلمت اليمن، وأسلمت البحرين، وأسلمت عُمان، وغير ذلك من القبائل، وكل هذا ترك انطباعًا بالرهبة والهلع عند قريش من مقابلة المسلمين.

أضف إلى ذلك أن قريشًا أصبحت تبحث عن الفوائد المحققة من مساعدتها لبني بكر وخيانتهم لصلح الحديبية، وقتل مجموعة من رجال خزاعة، فلم تجد قريش أي نوع من الفائدة تحققت، فكانت هذه المساعدة تهورًا ملحوظًا، وكان هناك آثارٌ ضخمة سوف تتلو هذا الحدث دون فائدة لقريش تذكر، إضافةً إلى خلفية عمرة القضاء؛ فإنه منذ أقل من سنة واحدة قَبِل أهل مكة بمنتهى الضعف أن يدخل إليهم الرجل الذي طردوه وعذبوه وأساءوا إلى سمعته وحاربوه بكل طاقاتهم، وقَبِلوا أن يدخل مكة ومعه ألفان من أتباعه لأداء العمرة، بينما هم يخلون له مكة تمامًا، فهذا -لا شك- قد ترك انطباعًا نفسيًّا قاسيًا عند أهل قريش.

ولا ننسى أيضًا مظاهر القوة التي حرص أن يظهرها في هذه العمرة، ولا ننسى انبهار قريش بقوة المسلمين، وتعليقات قريش عندما رأوا جيش المسلمين وقوة المسلمين في عمرة القضاء؛ فهذه الأشياء كانت تمهيدًا نفسيًّا إيجابيًّا للمسلمين، وكانت تمهيدًا نفسيًّا سلبيًّا للمشركين، وهذا كله من تدبير الله. وقد أدركت قريش في اجتماعهم أن احتمال الحرب وارد، واحتمال غزو مكة أمر محتمل، وبناءً على هذا الاجتماع أخذت قريش قرارًا صعبًا، بل من أصعب القرارات في تاريخ قريش، وهو الذهاب إلى المدينة المنورة لاستسماح الرسول أن يتغاضى عن هذا الخطأ، وأن يطيل الهدنة.

أبو سفيان يذهب لطلب العفو من النَّبي صلى الله عليه وسلم:

اختارت قريش أبا سفيان وهو سيد مكة وزعيمها، وهو ليس مجرد سفير ترسله مكة، ولكنه زعيم مكة بكاملها، وزعيم بني أمية، وله تاريخ طويل وحروب متتالية مع المسلمين. وهنا يتنازل أبو سفيان عن كبريائه، وعن كرامته، ويذهب إلى المدينة المنورة، ويطلب من الرسول أن يطيل الهدنة مع قريش، وهذا شيء كبير! ولعلها المرة الأولى في تاريخ قريش التي تقدِّم فيها تنازلاً بهذه الصورة، ولكن أبا سفيان ذهب بالفعل إلى المدينة المنورة، وحاول قدر المستطاع أن يمنع الرسول من الانتقام لخزاعة، والثأر لكرامة الأمة الإسلامية، وأن يطيل المدة بأيِّ ثمن.

وهنا نأخذ قاعدة مهمة في حياتنا الآن وإلى يوم القيامة، وهي أنه إذا كان عدوك حريصًا على السلام، وحريصًا على تجنُّب الصدام بكل ما أوتي من قوة، ويدفعك إليه دفعًا، فاعلم أنه ضعيف، أو على الأقل يخشى قوتك، فلا تضعف ولا تجبن. وهنا يحاول أبو سفيان قدر المستطاع أن يتجنب الصدام مع المسلمين.

ولما وصل أبو سفيان» عُسفان «في طريقه إلى المدينة لاقى بديل بن ورقة وأصحابه عائدين من المدينة، فخاف أن يكونوا جاؤوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأخبروه بما حدث بين بكر وخزاعة، مما يزيد مهمته التي جاء من أجلها تعقيداً، إلا أن بديلاً نفى مقابلته للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن أبا سفيان فحص فضلات راحلة بديل فوجد فيه نوى التمر، فعرف أنه كان في المدينة.

والجميع في المدينة يعلم أن هناك نقضًا للمعاهدة التي تمت بين المسلمين وقريش، وأنه قد جاء إلى المدينة المنورة لكي يطيل المدة، وخاصةً أن الرسول أنبأهم بقدوم أبي سفيان قبل أن يأتي في معجزة نبوية ظاهرة، قال: "كَأَنَّكُمْ بِأَبِي سُفْيَانَ قَدْ جَاءَكُمْ يَشُدُّ فِي الْعَقْدِ، وَيَزِيدُ فِي الْمُدَّةِ" [4].

((كأنَّكُمْ بأبِي سفيان قد جاء يقول: جدِّد العهد، وزد في المدَّة. وهو راجع بسخطة)).

وصل أبو سفيان إلى المدينة المنورة وذهب إلى ابنته أم المؤمنين أم حبيبة رضوان الله عليها، وهي بنت أبي سفيان، وما إن اقترب أبو سفيان من الفراش ليتحادث مع ابنته، فإذا بها تطوي الفراش، وتمنعه من الجلوس عليه، فتعجب أبو سفيان وقال لها: يا بُنَيَّةُ، ما أدري أرغبتِ بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟!

أرادت أم حبيبة -رضي الله عنها- أن تقف هذه الوقفة الصلبة الجريئة القوية مع أبيها؛ ليعلم أبو سفيان أن المسلمين جميعًا صفٌّ واحدٌ، وأنهم جميعًا على قلب رجل واحد!

واتجه أبو سفيان بعد ذلك إلى الرسول؛ ليحاول أن يُطيل المدة، وتحدث مع الرسول عن رغبته في إطالة مدة الصلح!

ولكن الرسول رفض تمامًا أن يردَّ عليه، ولم يكن هذا هو التصرف المعتاد من رسول الله؛ لأننا نعلم أن رسول الله كان دائمًا يحسن استقبال الضيوف، ويكرم الضيوف، وخاصةً أن هذا الرجل زعيم من زعماء قريش، وكان الرسول يستمع منه ويتحاور معه قبل ذلك، ولكن هذا لم يحدث في هذا الموقف؛ ليُشعِر أبا سفيان بمدى الجرم الذي أقبلت عليه قريش؛ ولأن الرسول يريد أن يفتح مكة وأن يستغل هذه الفرصة السانحة، ولا يريد لكلمات أبي سفيان أن تؤثر فيه بأيِّ صورة من الصور، ومع ذلك هو لم ينفعل على أبي سفيان، ولم يقل له فعلتم كذا وكذا، ولم يذكر كلامًا شديدًا لأبي سفيان؛ وذلك لكي لا يلفت نظر أبي سفيان إلى أن المسلمين يفكرون في فتح مكة، وأن الهجوم على مكة أصبح وشيكًا، فآثر أن يسكت، ولم يرد على أبي سفيان بكلمة واحدة، وكانت هذه إهانة كبيرة لكرامة أبي سفيان، وذلك بأن يأتي إلى رسول الله ثم لا يقبل الرسول أن يرد عليه.

أبو سفيان يذهب إلى أبي بكر وعمر وعليٍّ:

خرج أبو سفيان بهذه الهزيمة النفسية الكبيرة إلى أبي بكر الوزير الأول لرسول الله، وكنا نتوقع من أبي سفيان أن يرجع أدراجه إلى مكة المكرمة. وأبو سفيان لم يغضب غضبًا شديدًا، ولم يحدث ثورة كبيرة، ولم ينقلب بجيشه على المدينة المنورة، وهذا لم يحدث؛ لأنه في موقف الضعيف، ويعلم أنه أمام هذه الصلابة الإسلامية الواضحة؛ ومن ثَمَّ ذهب أبو سفيان إلى أبي بكر، وطلب منه أن يتوسط له عند الرسول، وأن يجدد المسلمون العهد مع قريش، ولكن الصِّدِّيق t قال له في صرامة واضحة: ما أنا بفاعل، فلن أتوسط بينك وبين الرسول.

فخرج أبو سفيان من عند أبي بكر بالصدمة الثالثة، ومع ذلك لم ييئس أبو سفيان واتجه إلى الوزير الثاني في الدولة الإسلامية، إلى عمر بن الخطاب t، وليته ما فعل، فعندما ذهب وطلب منه أن يتوسط له عند الرسول، ليجدد العهد بين قريش وبين المسلمين، قال عمر بن الخطاب بمنتهى القوة: أنا أشفع لكم عند رسول الله! فوالله لو لم أجد لكم إلا الذر لجاهدتكم به.

أي لو معي جيش من النمل لأقاتلنَّكم به! ولننظر إلى قوة وصلابة عمر بن الخطاب t. وخرج أبو سفيان من عند عمر بن الخطاب، واتجه إلى علي بن أبي طالب t، وعلي t متزوج من السيدة فاطمة بنت الرسول، فدخل عندهما، وكان عندهما الحسن t يلعب بينهما، فقال: يا علي، إنك أَمَسُّ القوم بي رَحِمًا، وأقربهم مني قرابة، وقد جئتُ في حاجة، فلا أرجعَنَّ كما جئت خائبًا -ولننظر إلى الذل الذي وصلت إليه قريش- فاشفعْ لي إلى رسول الله.

فقال علي بن أبي طالب: ويحك يا أبا سفيان! والله لقد عزم رسول الله على أمرٍ ما نستطيع أن نكلمه فيه. أي أن الرسول وصل إلى درجة من الغضب عندما سمع بخيانة بني بكر وقريش وقتل رجال من خزاعة، ولا نعلم ما سيفعل، فلا أستطيع أن أكلمه أبدًا. فقال أبو سفيان للسيدة فاطمة رضي الله عنها: يا بنت محمد، هل لك أن تأمري بُنَيّك هذا -ولننظر إلى أيِّ درجة من المهانة والذل حينما يطلب أبو سفيان من السيدة فاطمة أن تأمر ابنها الحسن، وكان وقتها طفلاً صغيرًا يلعب بينها وبين علي بن أبي طالب- فَيُجِيرَ بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟

أي يخرج الغلام الطفل الصغير الحسن بن علي -رضي الله عنهما- ليجير أبا سفيان وقريشًا. فقالت السيدة فاطمة لتعطيه الضربة السادسة: والله ما بلغ بُنَيّ ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير أحدٌ على النبي.

فقال أبو سفيان: يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد اشتدت عليَّ فانصحني.

فقال له عليٌّ: والله لا أعلم شيئًا يُغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فَأَجِرْ بين الناس، ثم الْحَقْ بأرضك. أي قم وسط الناس واطلب الإجارة، ولعل أحد الناس يتشفع لك عند رسول الله.

فقال أبو سفيان: أوَترى ذلك مُغْنِيًا عني شيئًا؟

قال علي بن أبي طالب في وضوح: لا والله ما أظن، ولكن لا أجد لك غير ذلك [6].

ومع هذا الإحباط الذي أصاب أبا سفيان إلا أنه قام في المسجد، وقال: يا أيها الناس، إني قد أَجَرْتُ بين الناس. فلم يقم أحد من المسلمين، إنها سبع ضربات متتالية لأبي سفيان زعيم قريش.

أبو سفيان يفشل في مهمته:

ركب أبو سفيان بعيره راجعًا إلى مكة، فمر على سلمان وصهيب وبلال y، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها.

وبدأ يتكلم سلمان وصهيب وبلال، وكانوا جميعًا من الذين يباعون ويشترون في مكة قبل الهجرة، وكان أبو بكر الصديق t يمر بجوارهم، فقال: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟!

أي أن أبا بكر نفسه تأثر بأزمة أبي سفيان، وذهب إلى الرسول يشكو له ما قال سلمان وصهيب وبلال، فما كان رد فعل الرسول؟ قال: "يَا أَبَا بَكْرٍ، لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ".

ولم يقف الرسول مع أبي بكر الصديق في رأفته ورحمته بأبي سفيان، وإنما وقف مع سلمان وصهيب وبلال يقدِّر موقفهم، فقال: "يَا أَبَا بَكْرٍ لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ، لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ".

فأتاهم أبو بكر، وقال لهم: يا إخوتاه، أغضبتكم؟
قالوا: لا، يغفرُ الله لك يا أُخَيَّ [7].

إن الموقف الآن ليس موقف دعوة، ولكنه موقف تجهيز للحرب، وإن الأموال والديار والحقوق المسلوبة آن لها أن ترجع، وإن كنا قد قَبِلنا في الحديبية أن نقرَّ الهدنة دون عودة كامل الحقوق، فإن ذلك كان لظروف المرحلة السابقة، وتقديرنا لقواتنا وقوة عدونا في ذلك الوقت، أما الآن فالظروف قد تغيرت، ولن نقبل بما قبلنا به قبل ذلك أيام الحديبية؛ لذلك كان رد الفعل القوي من الرسول والصحابة y!

ورجع أبو سفيان إلى مكة، وفشلت المهمة التي قام بها فشلاً ذريعًا، وعاد إلى مكة، فقال له زعماء قريش: ما وراءك؟

فقال أبو سفيان: جئت محمدًا فكلمته، فوالله ما ردَّ عليَّ شيئًا، ثم جئت ابن أبي قحافة، فوالله ما وجدتُ فيه خيرًا، ثم جئت عمر فوجدته أدنى العدو [8]، ثم جئت عليًّا فوجدته ألين القوم، وقد أشار عليَّ بأمر صنعته، فوالله ما أدري هل يغني عني شيئًا أم لا؟

فقالوا: فبماذا أمرك؟
فقال: أمرني أن أُجِيرَ بين الناس، ففعلت.
قالوا: فهل أجاز ذلك محمدٌ؟
قال: لا.
قالوا: ويحك! ما زادك الرجل على أن لعب بك.
فقال أبو سفيان: لا والله ما وجدتُ غير ذلك [9].

وهكذا وُضعت قريش في مأزق خطير، وعلمت قريش أن هناك احتمالاً كبيرًا لغزو مكة، وبدأت قريش تترقب قدوم المسلمين، وهي لا تعرف ماذا تصنع؛ فلم يبقَ من أعوانها إلا بني بكر، ولم يعُدْ أمامها إلا الانتظار.

 
وقفةٌ عند موقف أم حبيبة:
مثل رائع في حب الرسول!

وصل أبو سفيان إلى المدينة المنورة وذهب إلى ابنته أم المؤمنين أم حبيبة رضوان الله عليها، وهي بنت أبي سفيان، وزوجة الرسول، والتقى أبو سفيان بأم حبيبة رضي الله عنها، وكان هذا اللقاء بعد غياب ستة عشر عامًا متصلة؛ لأن أم حبيبة -رضي الله عنها- ظلت فترة طويلة من الزمن في الحبشة مهاجرة هناك مع زوجها عبيد الله بن جحش الذي تنصَّر هناك، ومات كافرًا، فتزوجها الرسول، ثم أتت إلى المدينة المنورة، ولم تدخل مكة طوال هذه المدة الطويلة، وكانت العَلاقة بينها وبين أبيها منقطعة، فكان أبو سفيان يظن أن أم حبيبة سوف تستقبله استقبالاً حافلاً. وما إن اقترب أبو سفيان من الفراش ليتحادث مع ابنته، فإذا بها تطوي الفراش، وتمنعه من الجلوس عليه، فتعجب أبو سفيان وقال لها: يا بُنَيَّةُ، ما أدري أرغبتِ بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟!

أي: لم تجلسيني على هذا الفراش لأنه مكرَّم عندك أكثر مني، أم لأنك تريني رجلاً عظيمًا لا أقعد على هذا الفراش المتواضع فراش الرسول. فقالت السيدة أم حبيبة في صلابة وفي قوة:

"هو فراش رسول الله، وأنت مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراشه".

فقال أبو سفيان: يا بنية، والله لقد أصابك بعدي شرٌّ [3]. ثم خرج من عندها.

ونحن نحتاج أن نقف هنا وقفة مع موقف السيدة أم حبيبة رضي الله عنها، والمحلل لهذا الموقف قد يقول: إن هذا الموقف فيه نوعٌ من الغلظة غير المقبولة من السيدة أم حبيبة مع أبيها أبي سفيان. وهذه المعاملة قد تكون غلظة إلا في هذا الظرف؛ لأن أبا سفيان هو زعيم مكة المكرمة،

وقد يُقال: هذا ليس هو السلوك الإسلامي العام مع الرَّحِم المشرك، أو الرحم غير المسلم؛ لأن الله أمر بمصاحبة الآباء والأمهات المشركين بالمعروف، قال الله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15].

ويؤكد هذا المعنى ما روته السيدة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، عندما قالت - والحديث في البخاري -: قَدِمتْ عليَّ أمي، وهي مشركة في فترة صلح الحديبية، فاستفتت السيدة أسماء رسول الله فقالت: يا رسول الله، إن أمي قدمت عليَّ وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: "نَعَمْ صِلِيهَا" [5].

فهذا هو الأصل في المعاملة، ولكن موقف أبي سفيان حالة خاصة، وموقف مختلف، وكان موقف السيدة أم حبيبة صحيحًا؛ بدليل سكوت الرسول عن هذا التصرف من السيدة أم حبيبة رضي الله عنها، وخرج أبو سفيان من عند السيدة أم حبيبة بهذه الصدمة الكبيرة.

 

 
في الطَّريق إلى مكّة
 
الاستعداد للخروج إلى غزوةٍ ما:

أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابَه بإنجاز استعداداتهم للخروج من أجل الغزو، وبعث من يخبر قبائل المسلمين خارج المدينة بإنجاز استعداداتهم لهذا الخروج أيضاً، كما أمر أهله أن يجهزوه، ولكنه لم يخبر أحداً بنياته الحقيقية ولا باتجاه حركته، بل أخفى هذه النيات حتى عن أقرب المقربين إليه، ثم أرسل سرية أبي قتادة الأنصاري إلى بطن إضم ليزيد من اسدال الستار الكثيف على نياته الحقيقية.

ودخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على ابنته عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها: أي بنية! أأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجهزوه؟ قالت: نعم، فتجهز. فقال: فأين ترينه يريد؟ قالت: والله لا أدري.

حادثة حاطب بن أبي بلتعة:

ولما اقترب موعد التحرك، صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سائر إلى مكة، وبث عيونه ليحول دون وصول أنباء اتجاه حركته إلى قريش، ولكن حاطب بن أبي بلتعة كتب رسالة أعطاها امرأة متوجهة إلى مكة، يخبرهم فيها بنيّات المسلمين، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الرسالة، وبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما، فأدركاها وأخذا منها تلك الرسالة التي كانت معها.

ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً يسأله: ما حمله على ذلك؟ قال: يا رسول الله بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم. فقال عمر بن الخطاب: دعني فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال:» أمَا إنه قد صدقكم؛ وما يدريك، لعل الله اطلع على من شهد بدراً فقال: اعملوا ما شئتم «. وشفع لحالطب ماضيه الحافل بالجهاد، فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر المسلمين أن يذكروه بأفضل ما فيه.

 
الخروج:

* غادر المسلمون المدينة المنورة في العاشر من رمضان من السنة الثامنة الهجرية قاصدين فتح مكة، وكان جيشُ المسلمين مؤلفاً من الأنصار والمهاجرين وسليم ومزينة وغطفان وغفار وأسلم .. وطوائف من قيس وأسد وتميم وغيرهم من القبائل الأخرى، في عدد وعُدد لم تعرفه الجزيرة العربية من قبل، وكلما تقدم الجيش من هدفه ازداد عدده بانضمام مسلمي القبائل التي تسكن على جانبي الطريق إليه. ومع كثافة هذا الجيش وقوته وأهميته، فقد بقي سر حركته مكتوماً لا تعرف قريش عنه شيئاً. فبالرغم من اعتقاد قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم في حل من مهاجمتهم، ولكنها لم تكن تعرف متى وأين وكيف سيجري الهجوم المتوقع. ولشعور قريش بالخطر المحدق بها، أسرع كثير من رجالها بالخروج إلى المسلمين لإعلان إسلامهم، فصادف بعض هؤلاء، ومنهم العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، جيشَ المسلمين في طريقه إلى مكة المكرمة.

* من لطيف ما حدث للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في طريق مكة:

لمّا كان بالجُحفة أنه لقيَ: عمه العباس بأهله وعياله مهاجراً مسلماً لله جل وعلا، ففرح النبي بعمه العباس فرحاً شديداً، ولقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، وهو يختلف عن أبي سفيان صخر بن حرب زعيم قريش وقائدهم في غزوة أحد والخندق؛ حتى لا يحدث لبس كما سنرى بعد ذلك .. لقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، ولقيه ابن عمته عبد الله بن أبي أمية، فأعرض عنهما النبي عليه الصلاة والسلام لشدة ما لقي منهما من الأذى، ومرير ولاذع الهجاء في مكة المكرمة. فقالت أم سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك. إلا أن النبي قد أعرض عنهما صلى الله عليه وسلم، فذهب أبو سفيان بن الحارث إلى علي بن أبي طالب واستشاره ماذا يفعل؟ والله ما جاء إلا مسلماً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه .. أتدرون ماذا قال علي الذكي العبقري؟ قال له: يا أبا سفيان! اذهب إلى رسول الله من قبل وجهه، من بين يديه، وقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ [يوسف:91] فإن رسول الله لا يقبل أن يكون أحد أحسن منه قولاً، وأخذ أبو سفيان النصيحة الغالية من علي رضي الله عنه، وانطلق مسرعاً إلى رسول الله بين يديه من قبل وجهه، وقال: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، فنظر إليه النبي قائلاً: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) والحديث رواه ابن جرير الطبري، ورواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الإمام الذهبي، إلا أن الحديث حسن .......

ثم واصل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السير وهو صائم والناس صيام، حتى بلغ "الكُدَيْد" -وهو ماء بين عُسْفَان وقُدَيْد- فأفطر وأفطر الناس معه، ثم سار حتى نزل بـ مَرِّ الظهران!

في معسكر مرِّ الظهران:

* ووصل جيش المسلمين إلى موضع مرّ الظهران على مسافة أربعة فراسخ من مكة، فعسكر المسلمون هناك، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يوقد كل مسلم في جيشه ناراً، حتى ترى قريش ضخم الجيش دون أن تعرف هويته فيؤثر ذلك في معنوياتها فتستسلم للمسلمين دون قتال، وبذلك يحقق النبي صلى الله عليه وسلم هدفه السلمي في فتح مكة بدون إراقة دماء.

* وأوقد عشرة آلاف مسلم نيرانهم، ورأت قريش تلك النيران تملأ الأفق البعيد، فأسرع أبو سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم بن حزام بالخروج باتجاه النيران، ليعرفوا مصدرها ونيات أصحابها، فلما اقتربوا من موضع معسكر المسلمين قال أبو سفيان: هذه والله خزاعة حمشتها [جمعتها] الحربُ. فلم يقتنع أبو سفيان بهذا الجواب، فقال: خزاعة أقلُّ وأذلُّ من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.

جهود العباس رضي الله عنه من أجل أن لا تُفتح مكة عُنوةً:

*وكان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج من معسكر المسلمين بمر الظهران راكباً بغلة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليُخبر قريشاً بالجيش العظيم الذي جاء لقتالها، والذي لا قبل لها به، حتى يؤثر في معنوياتها ويضطرها على التسليم دون قتال، فيحقن بذلك دماءها ويؤمن لها صلحاً شريفاً ويخلصها من معركة خاسرة معروفة النتائج سلفاً، فسمع وهو في طريقه محاورة أبي سفيان وبديل بن ورقة، فعرف العباس صوت أبي سفيان، فناداه وأخبره بوصول جيش المسلمين ونصحه بأن يلجأ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ينظر في أمره قبل أن يدخل الجيش فاتحاً صباح غد، فيحيق به وبقومه ما يستحقونه من عقاب.

*وأردف العباسُ أبا سفيان على بغلة النبي صلى الله عليه وسلم وتوجّها نحو معسكر المسلمين، فلما وصلا إلى المعسكر ودخلاه أخذا يمران بنيران الجيش في طريقهما إلى خيمة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مرّا ينار عمر بن الخطاب رضي الله عنه عرف أبا سفيان وأدرك أن العباس يريد أن يجيره، فأسرع عمر إلى خيمة النبي صلى الله عليه وسلم وسأله أن يأمره بضرب عنق أبي سفيان، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمه أن يستصحب أبا سفيان إلى خيمته، ثم يحضره إليه صباح غد، فلما كان الصباح وجيء بأبي سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسلمَ ليحقن دمه، فقال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئاً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.

*وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستوثق من سير الأمور كما يحب بعيداً عن وقوع الحرب، فأوصى العباس باحتجاز أبي سفيان في مضيق الوادي حتى يستعرض الجيش الزاحف كله، فلا تبقى في نفسه أية فكرة للمقاومة.

قال العباس: خرجتُ بأبي سفيان حتى حبسته بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله، ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: يا عباس، من هؤلاء؟ فأقول: سليم. فيقول: مالي ولسليم! ثم تمر به القبيلة فيقول: يا عباس، من هؤلاء؟ فأقول: مزينة. فيقول: ومالي ولمزينة! حتى نفدت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سألني عنها، فإذا أخبرته قال: مالي ولنبي فلان! حتى مرّ الرسولُ صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، وفيها المهاجرون والأنصار لا يرى منها إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله، يا عباس! من هؤلاء؟ قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة! والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً. قال العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة. قال: نعم إذن.

عند ذلك قال العباس لأبي سفيان: النجاء إلى قومك، فأسرع أبو سفيان إلى مكة.

 

* ماذا فعل أبو سفيان؟

دخل أبو سفيان مكة مبهوراً مذعوراً، وهو يحس أن من ورائه إعصاراً إذا انطلق اجتاح قريشاً وقضى عليها. ورأى أهل ملكة قوات المسلمين تقترب منهم، ولم يكونوا حتى ذلك الوقت قد قرروا قراراً حاسماً بشأن القتال ولا اتخذوا تدابير القتال الضرورية، فاجتمعوا إلى ساداتهم ينتظرون الرأي الأخير، فإذا بصوت أبي سفيان ينطلق مجلجلاً جازماً: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان كان آمناً.

* وسمعت هند بنت عتبة بن ربيعة زوج أبي سفيان التي كانت تشايع المتطرفين من مشركي قريش ما قاله زوجها، فوثبت إليه وأخذت بشاربه وصاحت: اقتلوا هذا الحميت الدسم الأحمس [أي هذا الزق المنتفخ]، قبّح من طليعة قوم.

ولم يكترث أبو سفيان بسباب امرأته، فعاود تحذيره: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.

وقالت قريش: قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.

وأصبحت مكة المكرمة تنتظر دخول المسلمين: اختفى الرجال وراء الأبواب الموصدة، واجتمع بعضهم في المسجد الحرام، وبقى المتطرفون مصرون على القتال.

 

 
الفتح: أحداث ومواقف
 
اليومَ يوم المرحمة:

"اليوم يومُ الملحمة، اليوم تُستحلُّ الحرمة، اليوم أذلَّ الله قريشاً" عبارات رددها سعد وهو حامل اللواء في وجه أبي سفيان، فاشتكى أبو سفيان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بنزع اللواء من سعد وإسناده لابنه قيس، وفيه حكمتان: أولهما أن المسلمين جاؤوا فاتحين حاملين الدعوة لا منتقمين ولا طالبين الثأر، وإبقاء اللواء في آل سعد إجبار لمشاعره التي قد تتأثر. أما رسول صلى الله عليه وسلم فقد علق على كلام سعد قائلا:" بل اليوم يوم تعظم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشا."

أجل عظمت الكعبة بدخول رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين فاتحين، وأعز الله قريشا بدخولها الإسلام، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إنك لعلى خلق عظيم، خلق وبعد نظر يؤسس لمستقبل الإسلام، ينخرط في بنائه عدو الأمس في إطار أخوة الإسلام.

دخول بلا مقاومةٍ:

ودخلت قوات المسلمين مكة فلم تلق مقاومة، إلا جيش خالد بن الوليد، فقد تجمع متطرفو قريش مع بعض حلفائهم من بني بكر في منطقة الخندفة، فلما وصلها رتل خالد أمطروه بوابل من نبالهم، ولكن خالداً لم يلبث أن فرّقهم بعد أن قتل رجلان من رجاله ضلا طريقهما وانفصلا عنه، ولم يلبث صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل حين رأوا الدائرة تدور عليهم أن تركوا مواضعهم في الخندمة وفروا مع قواتهم، واستسلمت المدينة المقدسة للمسلمين، وفتحت أبوابها لهم، وعاد المستضعفون الذين أخرجوا منها بغير حق إ لى ديارهم وأموالهم.

من المعسكر إلى الحرم:

عسكر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في منطقة جبل هند، بعد أن سيطر المسلمون على جميع مداخل مكة، فلما استراح وتجمعت أرتال الجيش، نهض والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخلوا المسجد الحرام، صباحَ أربعاء السابع عشر من رمضان 8هـ، آمنين مطمئنين محلقين رؤوسهم، كما أخبرهم صلى الله عليه وسلم قبل سنتين برؤيا رآها أشارت إليها سورة الفتح: "لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق، لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون، فعلم ما لم تعلموا، فجعل من دون ذلك فتحا قريبا" (آية:27).

فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثم طاف بالبيت العتيق وحول البيت، وكان في الكعبة ستون وثلاثمائة صنم، يطعنها بالقوس وهو يقول:) جاء الحق وزهق الباطلُ إن الباطل كان زهوقاً جاء الحق وما يُبدِئُ الباطل وما يعيد (ثم دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة ودخلها، فرأى الصور تملؤها، ومن بينها صورتان لإبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام، فمحا ما في الكعبة من صور، ثم صلى ودار في البيت يكبر، ولما انتهى تطهير البيت من الأصنام والصور، وقف على باب الكعبة، وقريش تنظر ماذا يصنع، فقال:» لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. إلا كل مأثرة أو مال فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج. يا معشر قريش، إن الله قد أذهبَ عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء: الناس من آدم، وآدم من تراب) يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللهِ أتقاكم إن الله عليم خبير (. يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ «قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. قال:» فإني أقول كما قال يوسف لإخوته:) لا تثريب عليكم اليوم (، اذهبوا فأنتم الطلقاء. «

تطهيرُ البيت من الأصنام:

* طهر المسلمون البيت من الأصنام، وأتم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في أول يوم من أيام فتح مكة ما دعا إليه منذ عشرين سنة: أتم تحطيم الأصنام والقضاء على الوثنية في البيت الحرام بمشهد من قريش، ترى أصنامها التي كانت تعبد ويعبد آباؤها، وهي لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً.

خمسة عشر يوماً:

* وأقام النبي صلى الله عليه وسلم خمسة عشر يوماً، نظّم خلالها شؤون مكة، وفقّه أهلها في الدين، وأرسل بعض السرايا للدعوة إلى الإسلام وتحطيم الأصنام، من غير سفك للدماء.

بلالُ يؤذّن للصّلاة:

ورُوي أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة في بعض أيام الفتح ومعه بلال، وحان وقت صلاة الظهر، فأمر بلالاً أن يؤذن، فأذَّن للصَّلاة.

وكان بفناء الكعبة من قريش: "أبو سفيان بن حرب، وعتَّاب بن أَسِيد، والحارث بن هشام".

فقال عتَّاب بن أَسيد: "لقد أكرم الله أَسيدًا (أي: أباه) ألا يكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه" كبر جاهلي عن أن يؤذن حبشي على الكعبة.

فقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنَّه مُحِقٌّ لاتَّبعته.

فقال أبو سفيان: لا أقول شيئا، لو تكلَّمت لأخبرت عني هذه الحصى.

فخرج عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((قد علِمْتُ الذي قلتُمْ، ثم ذكر ذلك لهم)).

فقال الحارث وعتَّاب: نشهد أنَّك رسول الله، والله ما اطَّلع على هذا أحد كان معنا، فنقول: أخبرك.

أمّ هانئ تُجير رجلين:

قالت "أم هانئ هند ابنة أبي طالب" أخت علي - رضي الله عنهما: لما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأعلى مكة، فرَّ إليَّ رجلانِ من أحمائي، من بني مخزوم، وكانت عند هبيرة بن أبي وهب المخزومي.

فدخل عليَّ عليُّ بن أبي طالب أخي، فقال: "والله لأقتلنَّهُما".

فأغلقت عليْهِما باب بيتي، ثم جئتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل من جفنة إنَّ فيها لأثر العجين، وفاطمة ابنته تستره بثوبه، فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشَّح به، ثُمَّ صلَّى ثَمانيَ ركعات من الضحى، ثم انصرف إلي، فقال: ((مرحبًا وأهلاً يا أم هانئ، ما جاء بك؟))

فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي فقال: ((قد أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت، فلا يقتلهما)).

قال ابن هشام: هما الحارث بن هشام، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة [17].

عُمير بن وهب يستأمن لصفوان بن أميَّة:

وكان "صفوان بن أمية بن خلف" من رؤوس الذين حملوا أشد العداء للرسول، وكان قد دفع عمير بن وهب لقتل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة بعد بدر، وكشف الرسول - صلى الله عليه وسلم- لعُمير تآمره مع أمية، مع أنه لم يكن معهما أحد فأسلم.

وكان قد حرَّض أوباش قريش على قتال المسلمين يوم الفتح، فرأى أنه مقتول مهدور الدم.

فخرج فارًّا يُريد جدَّة ليركب منها إلى اليمن.

فقال عمير بن وهب: يا نَبيَّ الله، إنَّ صفوان بن أمية سيد قومه، وقد خرج هاربًا منك، ليقذف نفسه بالبحر، فأمنه صلّى الله عليك.

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هو آمن)).

فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمامته التي كان متعممًا بها معتجرًا إذ دخل مكة فاتحًا.

فخرج عمير بها وانطلق حتى أدركه وهو يريد أن يركب في البحر، فقال له: يا صفوان، فداك أبي وأمي، الله الله في نفسك أن تهلكها، فهذا أمان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد جئتك به.

قال صفوان: ويحك، اغرب عني فلا تكلمني، فإنَّك كذاب.

قال عمير: فداك أبي وأمي، أفضل الناس، وأبر الناس، وأحلم الناس، وخير الناس، ابن عمك، عزه عزك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك.

قال صفوان: إني أخاف على نفسي.
قال عمير: هو أحلم من ذاك وأكرم.

فرجع صفوان مع عمير، فلمَّا وقفا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال صفوان: إن هذا يزعم أنك أمنتني.

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صدق)).
قال صفوان: فاجعلني فيه بالخيار شهرين.
قال الرسول له: ((أنت بالخيار فيه أربعة أشهر)).

ثم أسلم "صفوان بن أمية" وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتألَّف قلبه، ويعطيه مع مَن يعطي من المؤلفة قلوبهم، وكان نصيبه في العطاء مع الذين بلغ نصيبهم مائة من الإبل.

وكانت زوجته "فاختة بنت الوليد" قد أسلمت، فلمَّا أسلم صفوان أقرَّها الرسول عنده على النكاح الأول.

أمّ حكيم تستأمن لزوجها عكرمة بن أبي جهل:

ولما أهدر الرسول - صلى الله عليه وسلم - دم عكرمة بن أبي جهل، فر قاصدًا اليمن، حتى وصل إليها.

وكانت امرأته "أم حكيم بنت الحارث" قد أسلمت، فطلبت الأمان لزوجها عكرمة بن أبي جهل، من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأمنه.

فلحقت به إلى اليمن، فجاءت به، فأسلم، وأقرهما على النكاح الأول.

ورُوي أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما رآه مقبلا عليه، نهض قائما وقال له: مرحبا بمن جاء مسلمًا مهاجرًا.

ثم سأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر له مما كان منه، فاستغفر له.

فكان من القادة، ومن أبطال الفتوحات الإسلامية.
الرّسول صلى الله عليه وسلم يُبايع أهل مكّة:

ولما رأى أهل مكة ما كان من عفو الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - عنهم، وإكرامه لهم، دخلوا في دين الله أفواجًا، رجالا، ونساء، أحرارًا وعبيدًا، وتتابع الناس بعدهم يدخلون في دين الله أفواجًا، فكان فتح مكة فتحًا للإسلام عظيمًا.

وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الصفا ليبايع الناس، فتوافد الناس عليه يبايعونه رجالا ونساءً، كبارًا وصغارًا، أحرارًا وعبيدًا، وبدأ بِمُبايعة الرجال:

فبايعهم على الإسلام والسمع والطاعة لله ورسوله، فيما استطاعوا.

هند بنت عُتبة تُعلن إسلامها وتُبايعُ الرّسولَ صلى الله عليه وسلم:

ولما فرغ من مبايعة الرجال بايع النساء دون أن يصافح أيًّا منهنَّ: وكان من بينهنَّ "هند بن عتبة بن ربيعة، زوجة أبي سفيان بن حرب التي اختفت أيام الفتح الأولى، ثم جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعلنت إسلامها، فعفا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنها.

فقالت: والله يا رسول الله، ما كان على ظهر الأرض أهلُ خباء أحبَّ إلي أن يذلوا من أهل خبائك، ثم أصبح اليومَ ما أهل خباءٍ أحب إلي أن يعزُّوا من أهل خبائك.

فبايعه الرّسول صلى الله عليه وسلم النساءَ على أن لا يشركن بالله شيئا، ولا يسرقن، ولا يزنين، ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن، ولا يعصين في معروف.

وكان بين المبايعات "هند بنت عتبة" وكانت مُنْتَقِبة متخفية فلما قال النبي: ((ولا يسرقن)) قالت "هند": يا رسول الله، إنَّ أبا سفيان رجُلٌ شحيح، لا يُعطيني ما يكفيني ويكفي بنيَّ، فهل عليَّ من حرج إذا أخذتُ من ماله بغير علمه؟

فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لها: ((خذي من ماله ما يكفيك وبنيك بالمعروف)).

ولما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مبايعته النساء: ((ولا يزنين)) قالت هند: وهل تزني الحرة؟

وعرفها الرسول - صلى الله عليه وسلم - من صوتِها فقال لها: ((وإنَّك لهند بنت عتبة؟)).

قالت: نعم، فاعفُ عمَّا سلف عفا الله عنك.
فإنّما أنا ابنُ امرأةٍ من قريشٍ تأكل القديد:

وروى البيهقي عن ابن مسعود أنَّ رجلاً كلَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح، فأخذته الرعدة، فقال له صلى الله عليه وسلم: ((هوِّنْ عليْكَ، فإنَّما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد)).

القديد: هو اللحم المجفف بالشمس مع الملح.
معاذ الله، المَحْيا مَحْياكم، والممات مَمَاتُكم!

 جاء في مرسل يحيى بن سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فتح الله له مكة فتحا مبينا، وهي بلده، وموطنه، ومولده، وأحب بلاد الله إليه، وتم له الأمر، رآه الأنصار ذات يوم قد علا من الصفا حتى يرى الكعبة، فرفع يديه، وجعل يحمد الله ويذكره، ويدعو بما شاء الله له أن يدعو في تضرع وخشوع، وكانوا مجتمعين تحته في سفح الصفا، فقال بعضهم لبعض:

أترون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ فتح الله عليه أرضه وبلده أن يقيم بها، أم يرجع إلينا؟!

فلمَّا فرغ من دعائه أخبره الوحي بما قالوا: فتوجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم وقال: ((ماذا قلتم؟)).

قالوا: لا شيء يا رسول الله.
فلم يزل يتلطَّف بِهم حتى أخبروه بما قالوا.

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((معاذ الله، المَحْيا مَحْياكم، والممات مَمَاتُكم)).

وروى الإمام مسلم والإمام أحمد وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَّا فرغ من طوافه أتى الصفا، فعلا منه حتى يرى البيت، فرفع يديه وجعل يحمد الله تعالى ويذكره، ويدعو بما شاء الله أن يدعو، والأنصار تحته، فقال بعضهم لبعض: أمَّا الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته.

قال أبو هريرة: وجاء الوحي، وكان إذا جاء لا يخفى علينا، فليس أحد من الناس يرفع طرفه إليه. فلمَّا قضى الوحي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا معشر الأنصار)).

قالوا: لبيك يا رسول الله.

قال صلوات الله عليه: ((قلتم، أمَّا الرجل، فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته)).

قالوا: قلنا ذلك يا رسول الله.

قال: ((ما اسمي إذا؟. كلا، إنِّي عبدالله ورسوله، هاجرتُ إلى الله وإليكم، المحيا محياكم، والممات مماتكم)).

فأقبلوا إليه يبكون، ويقولون: والله يا رسول الله، ما قلنا الذي قلنا إلا الضنَّ بالله وبرسوله، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم: ((فإن الله ورسوله يعذرانِكم، ويصدقانِكم)).

وقد تضمَّنَتْ هذه الرواية أنَّهم قالوا: "أمَّا الرجل" وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عاتبهم على هذه الكلمة، وقال لهم: ((ما اسمي إذا؟)) وأنَّه زَجَرَهُم على سوء الأدب في الحديث عنه بقوله: "كلا" وأنَّه أبان لهم وصفه الذي كان يجب أن يصفوه به بقوله: ((إني عبدالله ورسوله)) لذلك أقبلوا إليه يبكون ويعتذِرُون عن مقالتهم.

وبعد ذلك طمأنهم فقال لهم: ((هاجرتُ إلى الله وإليكم، المحيا محياكم، والممات مماتكم)).

ورأى الزرقاني الجمع بين الروايتين بأنَّ فريقًا منهم قال المقالة الأولى، وفريقا منهم قال المقالة الثانية. على أنَّ رواية أبي هريرة هي الواردة في الصحيح.

 

فُضالة بن عمير يريد قتل النّبيّ صلى الله عليه وسلم:

وأراد "فضالة بن عمير بن الملوح الليثي" قتْلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يطوف بالبيت أيَّام الفتح.

فلمَّا دنا منه رسولُ الله قال له: ((أفضالة؟))
قال: نعم فضالة يا رسول الله؟.
قال له: ((ماذا كنت تحدث به نفسك؟))
قال: لا شيء، كنت أذكر الله.

فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال له: ((استغفر الله)).

ثم وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على صدر فضالة، فسكن قلبه.

فكان "فضالة" يقول: والله ما رفع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يده عن صدري، حتَّى ما من خلق الله شيء أحبّ إليَّ منه.

قال "فضالة": فرجعت إلى أهلي، فمررْتُ بامرأةٍ كنتُ أتحدَّث إليها. فقالت: هلم إلى الحديث.

فقلت: لا.
وانبعث فضالة يقول:

قَالَتْ: هَلُمَّ إِلَى الحَدِيثِ فَقُلْتُ: لا يَأْبَى عَلَيْكِ اللَّهُ وَالإِسْلامُ

لَوْمَا رَأَيْتِ مُحَمَّدًا وَقَبِيلَهُ بِالفَتْحِ يَوْمَ تُكَسَّرُ الأَصْنَامُ

لَرَأَيْتِ دِينَ اللَّهِ أَضْحَى بَيِّنًا وَالشِّرْكَ يَغْشَى وَجْهَهُ الإِظْلامُ

 

اللهُ اكبر جاء الفتحُ وابتهجتْ 0000 للمؤمنين نفوسٌ سرَّها وشَفَا

مشى النَّبيُّ يحفُّ النصرُ موكبهُ 0000 مُشيَّعاً بجلالِ الله مكتنفا

أضحى أسامةُ من بين الركاب 0000 له ردفاً فكان أعزَّ الناس مرتدَفا

لم يبقَ اذ سطعت أنوارُ غرَّته 0000 مغنىً بمكة إلا اهتزَّ او وَجَفَا

تحرك البيتُ حتى لو تُطاوِعه 0000 أركانُه خفَّ يلقى ركبه شغفا

العاكفونَ على الأصنامِ أضحكهم 0000 أنَّ الهوانَ على أصنامِهم عكفا

كانوا يظنُّون ألا يُستباحَ لها 0000 حمىً فلا شمَما بدت ولا أنفا

نامت شياطينُها عنها منعَّمةًً 0000 وبات ماردُها بالخزي مُلتحفا

 

 
أخلاقيات فَتْح مَكَّةَ
 
مقدمة:

كان فتح مكة، فتح أخلاق ورحمة، قلما نجد في تاريخ البشر فتحًا يضاهي فتح مكة في روعة أخلاقياته، وسمو العفو في طيات أحداثه.

فهو يوم نُصرة المظلوم، ويوم الوفاء والبر، ويوم عز مكة، ويوم التمكين .......

وقد ازدحمت في هذا اليوم، مشاهد الأخلاق الكريمة، وصور الخلال السجيحة، حتى تيقن الباحثُ في السيرة النبوية؛ أن محاضن التربية التي كانت في دار الأرقم، قد أتت أُكلها، وأينعت ثمارها، وانتفض حية في سلوك الصحابة يوم الفتح؛ تلك الدروس النبوية في العقيدة والأخلاق التي تربى عليها خير جيل.

فلم نسمع يوم الفتح؛ أن رجلاً مسلمًا هتك عرض امرأة، أو سرق شملة، أو هدم بيتًا، أو أفسد زرعًا، أو قتل ظلمًا، أو فزّع طفلاً. كانوا - رضي الله عنهم - مصاحف في مساليخ بشر، تتحرك تلك المصاحف بين الشوارع والأزقة، أو يتحرك هؤلاء الرجال الربانيون بين أكناف مكة .. في حكمة، ينشرون العدل والحق، وينتشر الإسلام بفضل أخلاقهم انتشار أشعة الشمس، أو فوحان المسك، وترى الواحد منهم - أي من هؤلاء الصحابة الكرام يوم الفتح - كالليث في السكة، فقد فر منه المجرمون، وأمن به الجالس في كسر بيته، والثاوي في بيت ربه.

نصرة المظلوم:

وأول دروس الأخلاق الجلية في يوم الفتحة، هو درس نصرة المظلوم.

فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة - حلفاء المسلمين -، وأعملوا فيها القتل، وخرقوا العقد؛ أرسلت خزاعة عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيّ يستنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

" نُصِرْتَ يَا عَمْرَو بْنُ سَالِمٍ!!! " [ابن هشام2/ 393]

واستبشر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتفائل؛ فعَرَضَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَنَانٌ مِنْ السّمَاءِ، فَقَالَ:

" إنّ هَذِهِ السّحَابَةَ لَتَسْتَهِلّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ " [ابن هشام 2/ 393].

لقد اعتمل فؤادُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيظًا على هذا الظلم الصريح، فلم يقر حتى انتدب لنصرة حلفائه، والتجهز للتنكيل بأعدائه، الذين انتهكوا الحرمات، وسفكوا الدماء.

إنها نصرة المظلوم، وإغاثة المكلوم، تلك الخصلة الإسلامية الكريمة، والخلة العربية الأصيلة، وليس من المسلمين من لم يهتم بأمرهم، فيناصرهم ويذود عنهم .. وملعونٌ ذلك الذي شهد موقفًا يُظلم فيه المظلوم، وانقلب خسيئًا سلبيًا لم ينصر أخاه ببنت شفة - وهو يقدر.

وفي الأثر: لعن الله من رأى مظلوما فلم ينصره. من أُذل عنده مؤمن وهو قادر على أن ينصره فلم ينصره أذله الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق.

وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

"الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا [وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ] " [البخاري: 2266]

فالمؤمن لأخيه كالبنيان، يقوّيه ويمنعه من ظلم الظالمين، وبغي الباغين، وغُشم الغاشمين. وقد شبَّك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أصابعه، ممثلاً لتلك العلاقة التي تربط بين الإخوان وبعضهم، فهي كالأصابع المتضاغمة، كتلك الشبَكة التي لا غناء لها عن عقدة من عقدها. وقد خاب من حمل ظلمًا.

أما والله إن الظلم لؤم ... وما زال الظلوم هو الملوم
نبذ الهدنة مع الخونة:

والإبقاء على عهد الخائن الهَوجَل؛ ليس من الخُلق في شيء، بل الأخْلقُ نبذ عهده، وشق موادعته، وخليق بإمام المسلمين ألا يحوْل عهد الغَدرةِ دون نصرة البررة، وحقيقٌ أن بنود صلح الحديبية تسقط فور إخلال أحد الأطراف ببند من البنود.

ولقد استند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نصرته لخزاعة، إلى أصل أصيل، مفاده أن العدو إذا حارب من هم في جوار المسلمين أو في حلفهم أو في ذمتهم، صار العدو بذلك محاربًا لسلطان المسلمين، وبذلك يصبح المسلمون في حِلِّ من أي اتفاقات مبرمة، أو معاهدات سابقة، وذلك لسبب وجيه: أن العدو نفسه نقَضها باعتدائه على حلفاء المسلمين، وما على إمام المسلمين عار إذا باغت العدو حينئذ في عقره، ودخل عليهم بغتة، أما إذا شك إمام المسلمين في كون العدو على العهد أو تحول إلى النقض؛ فلا يجوز للإمام في هذه الحالة مباغتة العدو، إلا بعد إعلامهم بنبذ العهد، وذلك حتى لا يُؤثر عن المسلمين الغدر، ودليل ذلك قول الله تعالى:

"وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ " [الأنفال58]

العفو عن صاحب السبق إذا ذل

فهذا حاطب، ذل، وتخابر مع العدو، فأرسل إليهم كتابًا يخبرهم فيه بمقدم جيش المسلمين، وأرسل هذا الكتاب إليهم مع " مُطربة " تجوب بين القبائل تغني، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إثر هذه المغنية، وتم مصادرة خطاب حاطب، ورُفع الأمر إلى حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليفصل في هذه القضية، فدليل التخابر موجود، والمتهم مُعترف، بل قال - مبررًا -:

" يَا رَسُولَ اللَّهِ! لا تَعْجَلْ عَلَيَّ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ .. كُنْتُ حَلِيفًا وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مَنْ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ فِيهِمْ، أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي، وَلَمْ أَفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي، وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ " [البخاري: (3939)]

وكانت مبررات حاطب هذه كلها، محض شَعْبذة وهراء ..
وكان حُكم رسول الله العفو!
وذلك لسبب استثنائي دامغ:

أن حاطبًا قد شهد بدرًا، وأن الله قد تاب على حاطب، فقال لأهل بدر: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، وحاشا أن يُكذب الله، وأن عملية التخابر لم تتم ولم تنجح ..

ولقد أَكلتْ هذه الفعلة الشنعاء قلبَ عمر - فأراد أن يستئذن رسول الله في قتل حاطب -فقال: " يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ".

فَقَالَ: " إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا! وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى مَنْ شَهِدَ بَدْرًا .. فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ! " ..

فَأَنْزَلَ اللَّهُ السُّورَةَ:

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ إِلَى قَوْلِهِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ " [البخاري: (3939)].

وفي عفوه - صلى الله عليه وسلم - عن حاطب، يدل على أهمية العفو عن أصحاب السبق والفضل في الإسلام إذا ما وقعوا في خطيئة أو ذلت أقدامهم في مصيبة ..

وفي هذا الموقف - أيضًا - دلالة على عدم جواز التخابر لصالح العدو، ولا يجوز للمسلمين أن يتخذوا من أعداء الله أولياء يلقون إليهم بالمودة ..

حظر الشعارات والهتافات غير الأخلاقية:

وفي نشوة الفتح، وشذى النصر الفواح، صاح قائد الأنصار سعد بن عبادة: " الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ! الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْكَعْبَةُ! "

فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كَذَبَ سَعْدٌ، وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ " [صحيح البخاري (3944)]

وأمر بالراية - راية الأنصار - أن تؤخذ من سعد بن عبادة كالتأديب له، ويقال: إنها دفعت إلى ابنه قيس بن سعد. [ابن كثير: 3/ 559].

وفيه، دلالة على حظر فحش القول وهُجره في الشعارات والهتافات، خاصة في المؤتمرات والتظاهرات، فليس من أخلاقنا، أن نتخلق بأخلاق الغوغاء ممن يتهفون بأفظع الهجاء. فإذا هتفنا أو شعِرنا أو نَظَمْنا الشعارات، أو نثرنا الأسجاع؛ في تظاهرة أو مؤتمر، فإنما يكون بأطايب الكلام، وبأحاسن الألفاظ، فديننا دين مكارم الأخلاق. والله يكره الفاحش البذيء، واللعان الطعان.

تواضع الفاتحين الإسلاميين:

كأنه وهو فرد من جلالته *** في عسكر حين تلقاه وفي حشم

ودخل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - مكة، شاخص الطرف، باسط الكف، شاكرًا حامدًا ربه، خفيض الرأس، معتمًا بعمامة سوداء، وهو واضع رأسه تواضعًا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن ذقنه ليكاد يمس واسطة الرحل ..

ويلهج صوته بالقرآن، قارئَا سورة الفتح.

يتراءى للناس رويدًا رويدًا، كالكوكب المشبوب رونقًا وبهاءً.

يَشقُ بجحافله البيداءَ شقًا، شامخَا باذخًا، في جَلْجَلة وصَلْصَلة، يحفه خير أجناد الله، عليهم وَقَار البطولة، ومَخَايل الظفر .. كلهم، كلهم في انتظار إشارة منه لتتحول مكة إلى حمام دم، ومذبحة يشيبُ لها الأمْرَد، وخسف وهدم، ليدمدموا مكة على رءوس المشركين، فهم الذين عذّبوا المسلمين أيام عهد مكة، وسجنوهم وحصروهم وأخرجوهم.

ولكن ما حدث ليس ذلك، بل أصدر العفو العام.
العفو العام عند المقدرة:

وماذا عن العفو العام، الذي أطنب فيه المفكرون عبر حقب التاريخ؟

بعدما أمنَّ الجميع، في بيوتهم ومساجدهم، وقال:: "كُفُّوا عَنْ الْقَوْمِ إِلَّا أَرْبَعَةً" [الترمذي: 3054]، وقال: " لا يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ صَبْرًا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " [مسلم: (3334)].

يقول "واشنجتون ايرفنج"، في كتابه (حياة محمد)، معلقًا على قرار العفو العام:

"كانت تصرفات الرسول [صلى الله عليه وسلم] في [أعقاب فتح] مكة تدل على أنه نبي مرسل لا على أنه قائد مظفر. فقد أبدى رحمة وشفقة على مواطنيه برغم أنه أصبح في مركز قوي. ولكنه توّج نجاحه وانتصاره بالرحمة والعفو" [واشنجتون ايرفنج: حياة محمد 72.].

ويقول: إميل درمنغم:

"فقد برهن [محمد ?] في انتصاره النهائي، على عظمة نفسية؛ قلَّ أن يوجد لها مثال في التاريخ؛ إذ أمر جنوده أن يعفوا عن الضعفاء والمسنين والأطفال والنساء، وحذرهم أن يهدموا البيوت، أو يسلبوا التجار، أو أن يقطعوا الأشجار المثمرة، وأمرهم ألا يجردوا السيوف إلا في حال الضرورة القاهرة، بل رأيناه يؤنب بعض قواده ويصلح أخطاءهم إصلاحاً مادياً ويقول لهم: إن نفساً واحدة خير من أكثر الفتوح ثراء! " [انظر: بشرى زخاري ميخائيل: محمد رسول الله هكذا بشرت به الأناجيل، ص50].

إن أخلاقيات العفو العام، هي أخلاقيات تمخضت عن نفوس أُشربت الربانية، وشربت من كأس التربية ثمالتها، وإن أمثال هؤلاء ممن تربوا على التراحم فيما بينهم والتآخي والتغافر، لخليق بهم أن يحملوا راية التمكين في الأرض، فما أعظم هذه النفوس التي ذاقت ويلات التعذيب في رمضاء مكة، حتى إذا أمكنهم الله من رقاب أعداءهم، أَعطوا العفو، وجنَّبوا القود، فمسألة التمكين عند هؤلاء الإسلاميين ليست حكاية تصفية حسابات، وليست حكاية غرس أعواد المشانق لمن شنقوهم، فشنقًا بشنق وتنكيلاً بتنكيل، وليست قضيتهم قضية مطالَبات وتِرات، وثارات ودِيَّات، بل يعتبرون الإيذاء ضريبة التمكين، ووسام على صدور المؤمنين .. فهؤلاء الإسلاميون لا يحملون بين جنباتهم جذوة الثأر، إنما يحملون بميامنهم شعلة القرآن، وبميامنهم الآخرى شعلة السُنة، وبين ذلك يحملون قلبًا خالصًا للرب، صادقًا في الغاية.

انتماء القائد لأنصاره:

ويكأن الناظر ظنَّ أن رسول الله ضن بأهله المكيين، فأصدر عفوه، وأمنَّ عدوه، فقال: " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ " [مسلم: (3332)].

فقال بعض الأنصار: أَمَّا الرَّجُلُ [يقصدون النبي صلى الله عليه وسلم] فَقَدْ أَخَذَتْهُ رَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ وَرَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ!

فنبَّأه العليمُ الخبير ..
فجمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأنصار، وقال:

"قُلْتُمْ أَمَّا الرَّجُلُ فَقَدْ أَخَذَتْهُ رَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ وَرَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ، أَلَا فَمَا اسْمِي إِذًا!؟ أَلا فَمَا اسْمِي إِذًا!؟ أَلَا فَمَا اسْمِي إِذًا!؟ أَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، هَاجَرْتُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكُمْ، فَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ!! "

فبكوا، وأرسلوا عبرات الحب، وزفرات الضن بقائدهم، قائلين:

" وَاللَّهِ مَا قُلْنَا إِلا ضِنًّا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ! " ..

وتفَّهمَ القائد هذه المشاعر النبيلة، وكأنه لامس مشاعرهم الصادقة في سيوداء قلوبهم، فقال:

"فَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ وَيَعْذِرَانِكُمْ" [مسلم: (3332)].

يا صاحب الفتح! صلى الله عليك!

لقد قيض الله لك أنصارًا لا يطمعون في شيء بين الخافقين إلا في رضاك عنهم وقربك منهم. ولا يبغون لعاعة من الدنيا، إنما يأملون أن يعودا إلى ديارهم في المدينة المنورة - وقد رجعوا بك في رحالهم.

يوم بِرٍ ووفاء:

وجاء علي بن أبي طالب، يطلب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجمع له شرف الحجابة مع السقاية، وقد كان مفتاح الكعبة مع عثمان بن طلحة، وقد طلب النبي منه تسليم المفتاح ليصلي في جوف الكعبة، ثم رده إليه قائلاً:

" هَاكَ مِفْتَاحَك يَا عُثْمَانُ، الْيَوْمُ يَوْمُ بِرّ وَوَفَاءٍ " [ابن هشام 2/ 412]

ولم يكن يوم ظلم وعدوان. أو مكر وخُتل.

وقد كان في استطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يضع مفتاح الكعبة في بني هاشم أو في يد زعيم من زعماء الصحابة. فقد كان إعلاء قيم البر الوفاء أولى من الاستئثار بمفتاح الكعبة، ولم يكن من شيم الفاتحين الإسلاميين سلب الأملاك وكرائم الأموال ونفائس الآثار؛ إن ذلك من شأن الإنقلابيين الفاسدين الذي إذا وصلوا إلى سُدة الحُكم - جَبريةً -، أكلوا كل شيء عنوة، قصور ومجوهرات، ومال وعقارات- كما فعل أصحاب الثورات النكدة السوداء، حيث يتحول فريق الإنقلاب من أبطال كفاح ونضال، إلى لصوص كبار، ومعربدين فجار، وخونة غَّدار، فلا يتركون صادحًا ولا باغمًا، ولاخفًا ولا حافرًا، ولا شيئًا مما تنبت الأرض من قثائها وفومها وعدسها وبصلها إلا أتوْ عليه، حتى لعاعة الفقير اللابط بالأرض، الذي يبيت طاويًا، لا يجد أكسار بقرة .. يشتهي ظِلفَا يمسك رمقه، أو عرقوبًا يُطفىء لوعته، ولا يجده.

***

هذه دروس في أخلاقيات الفتح؛ تشي بأحقية الناشيء الصابر في الظفر والتمكين والسؤدد، فأقرب الدعاة إلى التمكين أحاسنهم أخلاقًا، وأحق الدعوات بالنجاح أكارمها أخلاقًا، وكذلك الحال في الجماعات والدول والحضارات، فالأخلاق عماد الحضارات، وكم من حضارة زالت بشؤم ظالم فاسد، وعربيد خليع، ومرقص لعوب!

وكم من أناس عاشوا يزفون الفتوحات إلى الأمة، ولم يغنموا من غنائم النصر عقال بعير، أو سلاح غفير، فقضوا نحبهم دون أن تتمرغ أجسامهم في ريش النصر وفراش النعيم والوثير؛ وكانت القبور مساكنهم. فلهم ثواب الله. فأنعم به وأكرم من ثواب!

وآخرون قطفوا ثمرة الفتح سهلة، وقد تعبَ وجاهدَ في سبيلها غيرهم، ونسوا حظًا من تعاليم الإسلام، وطال عليهم الأمد، وقست قلوبهم، وتلَّهوا بالنساء والبنين والمال والأنعام والحرث، وشغلتهم أموالهم وأهلوهم عن منهج الله، واستوردوا دساتير اليهود والنصارى، واتَّبعوهم في ثقافاتهم حذو القذة بالقذة، وتصعلكوا لأعداء الأمة، وجلبوا للمسلمين كل مَضَرَّة ومَعَرَّة .. وأوليئك هم الرُّقعاء السفهاء، الذين أضاعوا المجد، وباعوا العِرض، وهم لصوص الأمة، وإن اعتلوا ذُؤابة منبر المجد، الذي بناه الفاتحون الصادقون.

فعسى الله أن يأتي بفتح جديد، وفاتح مجيد، فيعود المجد التليد!

 

 

 
فتح مكة وسنن التغيير
 
 

وقد أردتُ أن أستغل هذا الحدث لأتحدث عن بعض سنن التغيير، وسنن النصر والتمكين في الأرض، والتي نستخلصها جميعها من فتح مكة.

السنة الأولى: الله لا يعجل بعجلة عباده:

فمنذ أحد عشر عامًا من أصل ثلاثة وعشرين أو ثلاثة وعشرين ونصف هي عمر البعثة النبوية بكاملها؛ منذ هذه السنوات واللات والعزى ومناة وهُبل يُعبدون من دون الله، وفي داخل مكة المكرمة.

فكان يتمنى البعض أن تُفتح مكة مبكرًا، وأن يحكم الرسول الدولة الإسلامية من مكة؛ وذلك ليرى حكمه وأثره في العالمين، وهو ممكَّن في الأرض.

لكن الحقيقة أنه لو حدث مثل هذا لوقعت مخالفة للسنة الإلهية، وهذا لا يكون أبدًا، والله يقول: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43].

فكان رب العالمين I قادرًا على أن ييسر أمر فتح مكة منذ أول لحظة من لحظات هذه الدعوة، أو على الأقل بعد سنة أو سنتين من فتح المدينة المنورة، لكن كان هذا الانتظار الطويل حتى يعلمنا جميعًا أنه I لا يعجل بعجلة عباده.

السنة الثانية: التمكين يأتي من حيث لا يحتسب:

فهناك افتراضات كثيرة متوقعة؛ منها على سبيل المثال أن تغزو قريش المدينة المنورة، فيرد المسلمون بحرب على مكة المكرمة، أو أن تحاول قريش قتل الرسول، أو أن تعتدي على قافلة إسلامية، أو أن تنتهي سنوات الهدنة العشر، فيحدث بعدها قتال ويدخل المسلمون مكة.

افتراضات كثيرة جدًّا لكن -سبحان الله- لم يحدث الفتح نتيجة أيٍّ منها، ولا لغيرها مما يكون قد خَطَر على قلوب المسلمين، لكن حدث ذلك بشيء غريب؛ فما حدث هو أن قبيلة مشركة أغارت على قبيلة أخرى مشركة، فتمَّ الفتح للمؤمنين.

وإن المرء ليتساءل: ما علاقة هذا بذاك؟ إلا أننا إذا راجعنا بنود صلح الحديبية خاصةً البند الثالث، وجدنا أنه إذا أرادت قبيلة أن تنضم إلى حلف المسلمين فلها ذلك، وإذا أرادت قبيلة أن تنضم إلى حلف قريش فلها ذلك، وعلى إثر هذا دخلت خزاعة في حلف الرسول، ودخلت بنو بكر في حلف قريش.

فكانت القصة بين المسلمين وبين قريش، ولم يكن لخزاعة ولا لبني بكر أيُّ دخل فيها، ومع ذلك فدخولهم في المعاهدة هو الذي سيؤدي إلى الفتح كما سنرى.

ومهما يكن من أمر فقد كان ثمة خلاف كبير وثأر قديم بين بني بكر وخزاعة، وقد كان هناك ضحايا من بني بكر قتلتهم خزاعة.

وبعد مرور سنوات وسنوات على هذه الجريمة التي قامت بها خزاعة في حق بني بكر، تذكرت بنو بكر ثأرها مع خزاعة فأرادت أن تنتقم (وهذا بعد صلح الحديبية)، فأغارت على خزاعة وقتلت منهم رجالاً، وكانت معاهدة الحديبية تنص على أن من أغار على خزاعة، فكأنه أغار على الدولة الإسلامية، وموافقة قريش على إغارة بني بكر على خزاعة يُعَدّ نقضًا صريحًا للمعاهدة بينهم وبين المسلمين.

وقد تكون هي النتيجة نفسها أيضًا إذا حدث هذا الأمر بعد الحديبية مباشرة، فلعل المسلمين لم تكن لهم طاقة لغزو مكة أو لفتحها آنذاك.

ولو حدث وضبطت بنو بكر أعصابها ولم تخالف ما مُهِّد الطريق للفتح، وأيضًا لو وقفت قريش لبني بكر وعارضتها في ذلك الأمر، وقدمت الاعتذار للمسلمين لكان الموقف قابلاً للتفاوض والحل السلمي.

السنة الثالثة: النصر يأتي من حيث يكره المسلمون:

أمر غريب جدًّا لكنه متكرر إلى الدرجة التي تجعله سُنَّة: لا يأتي النصر فقط من حيث لا يتوقع المسلمون، إنما يأتي من حيث يكره المسلمون.

فطالوت -رحمه الله- ومن معه من المؤمنين كرهوا لقاء جالوت وجنوده، لكن الله جعل النصر في هذا اللقاء. وقد كره المسلمون لقاء المشركين في بدر، فجعل الله في باطنه النصر، يقول I: { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5].

وكره المسلمون تحزُّب الأحزاب حول المدينة، وقد صور ذلك I بقوله: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10].

لكن -سبحان الله- كان فيه من الخير الكثير، وقد قال الرسول بعد الأحزاب: "الآنَ نَغْزُوهُمْ وَلاَ يَغْزُونَا" [1]. وكره المسلمون صلح الحديبية، وقالوا: لِمَ نُعطي الدنية في ديننا؟ وكان في باطنه الخير كل الخير الذي تلا ذلك.

وكره المسلمون قتل أخيهم وصاحبهم الحارث بن عمير t سفير الرسول إلى عظيم بُصْرَى، فكان وراء هذا القتل المكروه انتصار مؤتة. وكذلك كره المسلمون نقض بني بكر وقريش للعهد، إذ لا شك أنهم يريدون أن تمتد الهدنة عشر سنوات وأكثر من ذلك؛ لأنهم رأوا في أقل من سنتين خيرات كثيرة، فكيف إذا امتد الأمر إلى أكثر من ذلك؟

رأوا أعداد المسلمين تتزايد بشدة في زمن الهدنة، وغياب الحرب.

والآن بعد هذا النقض للمعاهدة قد تحدث حرب، وقد يحدث اضطراب، وقلق في الجزيرة، وقد يخاف الناس، وقد تتأثر الدعوة، وقد تغزو قريش المدينة، وأكثر من ذلك من الممكن أن يحدث من وراء هذا النقض.

ولكن قد يحدث ما نكره قسرًا ورغمًا عن أنوفنا، ثم يأتي النصر والفتح والتمكين بسبب الحدث الذي نكرهه.

ولماذا هذه السُّنَّة؟ ولماذا يأتي النصر من حيث نكره؟ ولماذا لا يأتي النصر من حيث نحب، أو بالطريقة التي نريد، أو بالطريقة التي نخطط لها؟

وهذا الكلام يتكرر كثيرًا في كل مراحل التاريخ؛ لأن الله يريد لنا ألاّ نُفتن بنصرنا، أو نعتقد أن النصر جاء من حسن تدبيرنا، ودقة خطتنا، وبراعة أدائنا، وذكاء عقولنا، وسرعة تصرفنا.

يجب ألاّ ننسى أن الذي نصرنا هو الله القوي I؛ لذلك يأتي النصر من حيث لا نحتسب، بل من حيث نكره؛ ليعترف الجميع أن الناصر هو الله. ويأتي النصر من طريق عكس التخطيط الذي رسمت، ومن طريق عكس الطريق الذي رجوت، وليس معنى هذا أن نترك التخطيط، بل على العكس إذا لم تخطط وتجتهد لا يأتي النصر مطلقًا، فلا بد أن نضع ألف خُطَّة جادة لتحقيق النصر، وقد يأتي النصر من غير هذه الخطط كلها، ولكننا نُؤْجَر على أخذنا بالأسباب.

إن وضع الألف خطة شيء ضروري لإثبات أنك قد أخذت بالأسباب؛ لتكون مستحقًّا لرضا رب العالمين، ومن ثَمَّ تستحق نصر الله، ويأتي النصر بالخطة التي لم تحسب لها حسابًا، حتى تُرْجِع الفضل في النهاية لله؛ لذلك يقول الله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} [النَّصر: 1].

النصر نصر الله، والفتح فتح رب العالمين للمسلمين {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا} [النَّصر: 2].

ما رد فعل المسلمين عندما يرون الفتح والنصر؟ يوضح الله لنا في هذه السورة القصيرة المعجزة (سورة النصر) ما يجب على المسلمين أن يفعلوه، قال I: { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النَّصر: 3].

فسبح بحمد ربك الذي نصرك، والذي أيدك بقوته، والذي مكَّن لك في الأرض، ثم استغفره 

ولماذا يأتي الاستغفار بعد النصر والتمكين؟

يأتي الاستغفار حتى لا يكون قد دخل في رُوعِك أنك قد انتصرت بقدرتك وقوتك، وتخطيطك وتدبيرك، وتقول: أنا فعلت كذا، وأنا خططت، وأنا دبرت.

استغفرْ من هذا الأمر؛ لأن الله هو الذي فعل.

وسوف نرى الرسول يدخل مكة وهو في حالة من أشد حالات تواضعه؛ حتى لا يُفهم أنه فعل ذلك بقدرته البشرية، ولكن رب العالمين هو الذي أراد التمكين، وهو الذي أراد النصر والعزة للمسلمين، فلا بد من التواضع الكامل له I.

فيأتي النصر من حيث نكره؛ لكي لا يدعي مُدّعٍ أنه قد انتصر بقوته، ولكن ينسب الفضل والنصر لله، {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 17].

السنة الرابعة: طول فترة الإعداد أحد أسباب النصر:

وهذه السُّنة قد تكون محبطة للبعض إذا درسوا الموضوع بصورة سطحية، ولكن التدبر في هذه السُّنة سيثبت -إن شاء الله- عكس ذلك، وهذه السُّنة تقول: إن فترة الإعداد تكون طويلة للدولة الإسلامية؛ حتى نقيم دولة إسلامية نحتاج إلى فترة إعداد طويلة، ولكن فترة التمكين لهذه الدولة قصيرة؛ فالإعداد لفتح مكة والتمكين استمر إحدى وعشرين سنة بالتمام والكمال، كانت أول البعثة في رمضان قبل الهجرة بثلاثة عشر عامًا، وكان الفتح في رمضان بعد الهجرة بثماني سنوات، فتكون المدة كلها إحدى وعشرين سنة كاملة.

فنرى أن فترة التمكين سنتين ونصف من فتح مكة إلى وفاة الرسول، وبعد وفاته حدثت الردة وانتهى التمكين، فتكون فترة الإعداد إحدى وعشرين سنة، من أصل ثلاث وعشرين ونصف؛ أي أن 89% من فترة السيرة هي مرحلة (إعداد وعمل)، وفترة (التمكين) 11% فقط.

ولنراجع قصص التمكين في القرآن الكريم، والتي سبقت الرسول، فسيدنا نوح u ظل في فترة الإعداد تسعمائة وخمسين عامًا، ألفًا إلا خمسين، وفترة التمكين قصيرة جدًّا. وكذلك هود وصالح عليهما السلام.

وموسى u ظل في فترة الإعداد مدة طويلة، إعداد له هو شخصيًّا، وإعداد لبني إسرائيل، وفترة تعذيب وتشريد، واضطهاد طويلة، وبعدها فترة تمكين قصيرة.

وهذا أمر متكرر، سواء قبل الرسول أو بعد الرسول. ولنراجع قصة صلاح الدين الأيوبي، حوالي ثمانين عامًا أو تسعين عامًا في الإعداد، وفترة التمكين خمسة عشر أو عشرون عامًا. وهذا الكلام تكرر في دولة المرابطين؛ فبعد موقعة الزَّلاَّقة 479هـ، وبعد الإعداد الكبير لدولة المرابطين، نجد أن فترة التمكين لدولة المرابطين في الأرض قصيرة جدًّا؛ إعداد طويل جدًّا ما يقرب من ستين سنة، ثم تمكين في الأرض فترة قصيرة من الزمان. إنها سُنَّة الله في كونه {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43].

ونأتي إلى سؤال مهم: لماذا تستمر فترةُ التمكين وقتًا قصيرًا، في حين يكون الإعداد مدة طويلة؟ وهذا إنما يحدث لسببين:

1 - السبب الأول: هو انفتاح الدنيا على المسلمين بعد التمكين؛ الاقتصاد يتحسن، والأوضاع الاجتماعية تتحسن، والدنيا تنفتح على المسلمين، فتحدث الفتنة، ويحدث التصارع بين الناس، وهذا التصارع يكون على شيئين رئيسيين، وهما: المال والسلطان، يتصارعون على المال، ويتصارعون على السلطان، ولنا في التاريخ عِبْرة.

وكان الرسول يخشى على المسلمين من هذا الأمر، قال: "فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ" [2].

ففي أثناء فترة الإعداد لا توجد فتنة الدنيا، ولكن في فترة التمكين تحدث الفتنة سريعًا، والمعصوم من عصمه الله، والقليل من الأمة هو الذي لا يقع في هذه الفتنة.

2 - السبب الثاني: أن عددًا هائلاً من البشر سيدخل الإسلام لقوة الإسلام، وليس اقتناعًا بمبادئ الإسلام، وهذا يكون في زمن التمكين؛ فالناس يرون دولة قوية ممكَّنة ولها سيادة في الأرض، فيذهب الجميع إلى الانضمام إلى هذه الدولة، سواءٌ أكانوا مقتنعين أم غير مقتنعين بمبادئ الدولة الإسلامية، وهذه ليست قضية تشغل الناس في ذلك الوقت؛ فتتزايد أعداد المسلمين بكميات كبيرة، وهذه الأعداد المتزايدة لم تخضع لتربية كما خضع لها الأولون، وهذه الأعداد المتزايدة تأخذ قسطًا صغيرًا من التربية، وعند أول أزمة من الأزمات يسقط هؤلاء جميعًا، فيختفي التمكين.

لقد ظل المسلمون في فترة الإعداد تسعة عشر عامًا في السيرة النبوية حتى آمن ألف وأربعمائة من الصحابة رضوان الله عليهم في صلح الحديبية، ثم فتح خيبر، وبعد صلح الحديبية وفي أقل من سنتين وصل عدد المسلمين إلى عشرة آلاف، وهم ذاهبون لفتح مكة المكرمة، ونرى النقلة الهائلة بعد فتح مكة بسنة واحدة؛ فقد خرج الرسول في تبوك بثلاثين ألف مقاتل، فالعشرة آلاف الذين أسلموا قبل الفتح قد أصبحوا بعد الفتح ثلاثين ألف مقاتل، وهؤلاء العشرة آلاف مقاتل الذين دخلوا مكة كان منهم حوالي خمسة آلاف أو ستة آلاف أتوا قبل الفتح بشهور أو أيام قليلة.

وبعد الفتح نجد نقلة هائلة، فقد دخل في الإسلام عشرون ألفًا، دخلوا الإسلام مرة واحدة! ومن سنة تسع من الهجرة إلى سنة عشر من الهجرة دخل في الإسلام حوالي مائة ألف، وسوف نرى أنه في حجة الوداع كان مع الرسول حوالي مائة وثلاثون ألف مسلم في بعض التقديرات، فنجد أن الزيادة في العام العاشر من الهجرة النبوية مائة ألف من الصحابة y.

ومن ثَمَّ نرى أعدادًا ضخمة قد التحقت بالدولة الإسلامية، وهما في محاضن بعيدة جدًّا عن المدينة المنورة، وليس هناك الطاقة الكاملة لتربية هؤلاء، فلما حدثت أزمة وفاة الرسول وقعت الرِّدَّة في مناطق واسعة في الجزيرة العربية، وحدثت الرِّدة لأن كثيرًا ممن دخلوا الإسلام لم يتربوا على تعاليم الإسلام السمحة، فارتدَّ الناس كلهم ولم يثبتوا على الإسلام، ولكن عموم الناس دخلوا في وقت الفتح (وقت التمكين)، وهؤلاء لم يُعطوا الوقت الكافي من التربية؛ لذلك وقت التمكين عادةً ما يكون قصيرًا، ووقت الإعداد طويلاً.

التمكين وسيلة وليس غاية

فهل هذا الكلام محبط؟ وهل يمكن أن يقول أحد المسلمين: إن بعد كل هذا الإعداد والجهد والبذل لا نُمَكَّن إلا فترة قصيرة فقط؟!

والإجابة على هذا السؤال تكون بسؤال آخر: لماذا نقوم بالإعداد؟

ولماذا نريد التمكين؟
هل التمكين وسيلة أم غاية؟

أليس نريده لكي نرضي الله، ولكي نفوز بجنته I؟ وإذا علمت أن الله يعطي جنته لمن عمل بصرف النظر عن تحقيق النتيجة، وبصرف النظر عن حدوث التمكين أو عدم حدوث التمكين في زمانه، ويعطيه I الأجر على قدر العمل بصرف النظر عن الزمن الذي وجد فيه، أليس ذلك مريحًا للإنسان ومطمئنًا للنفس؟

فعملك في فترة الإعداد أنت مَأْجورٌ عليه، وعملك في فترة التمكين أنت مأجور عليه، المهم هو العمل وليس التمكين. ولنراجع معًا كم من الأمم ممكَّنة في الأرض وهي من أهل النار! {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196، 197].

وعلى الناحية الأخرى، كم من غير الممكَّنين في الأرض من أهل الجنة! وهذا هو مصعب بن عمير t مات في غزوة أُحد، ومع ذلك هو من أهل الجنة، وحمزة بن عبد المطلب كذل، بل إن هناك من مات في فترة مكة المكرمة، مثل سمية أم عمار بن ياسر، وزوجها ياسر y، والبراء بن معرور، وأسعد بن زُرارة، فكل هؤلاء قد ماتوا قبل غزوة بدر أصلاً، ولم يشاهدوا أيَّ نصر للدولة الإسلامية، ومع ذلك -إن شاء الله- هم في أعلى عليين.

المهم أن تعمل لله، وليس بالضرورة أن تعمل في زمان التمكين، أو تعمل بالقرب من زمن التمكين؛ لكي تسعد بنتائج العمل، ولكن السعادة الحقيقية أنك بعملك هذا سوف تدخل الجنة، والله يختار بحكمته وقدرته الوقت الذي يُمَكِّنُ فيه المسلمين.

هل العمل أكثر فائدة وأعظم نفعًا في زمان التمكين أم في زمان الإعداد؟

يقول الله: {لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10].

وبذلك، وفي ضوء قوله تعالى، نرى أن العمل في هذه الفترة الصعبة (فترة الإعداد)، والتي تسبق فترة التمكين، العمل فيها يكون - ولا شك - أفضل وأعظم أجرًا. ومن مصلحة المسلم أن تطول الفترة التي يحصّل فيها الثواب، وهي فترة الإعداد، ومن مصلحته أيضًا أن يتأخر التمكين، ولكن ليس معنى ذلك أني لا أسعى للتمكين، بل على العكس إننا مطالبون به، ولكن إذا تأخر لا أحزن، ولا أكسل، ولا أفتر، ولا أقعد، وأعلم أن الله أراد لي الخير، وأراد أن أعمل في زمان ليس فيه فتنة؛ لعل الله I أن يثبتني على الحق، ولعله إن مُكِّن في زمانك أن تفتتن بمال أو بكرسيِّ أو بغيره.

ولننظر كيف نحوِّل الأزمة إلى فرصة؟

وهذا الكلام يفهمه علماء الإدارة، فعندما يحدث لك مصيبة كبيرة تخرج من المصيبة، وتحاول أن تستفيد من المصيبة، فتحوِّلها إلى أمر فيه مصلحة، إلى فرصة سانحة، إلى استغلال لهذا الظرف؛ لتحقيق فائدة كبرى للمسلمين، أو على الأقل الخروج بأقل الخسائر.

الرسول كان يريد أن يفوز من هذا الموقف، فكيف يحقق نجاحًا من هذه الأزمة الكبيرة؟ وكيف يستفيد من الأزمة ويجعل منها وسيلة لسيادة الأمة؟ ماذا فعل الرسول؟

إن الاستنكار أو الشجب والندب لا فائدة منه، فلن يسمع أحد، ولو ذهب المسلمون لهيئة الأمم المتحدة أو هيئة القبائل المتحدة، فلن تكون هناك نتيجة إيجابية، بل على العكس ربما يحكمون لقريش الدولة الأولى في المنطقة، فما الحل؟!

ا بد أولاً من دراسة واقعية للموقف. وتعالَوْا نرى الواقع مع الرسول، وحال الجزيرة العربية في ذلك الوقت.

 

 

 
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكّة
 
فتح مكة نقطة فاصلة في تاريخ الدعوة:
د. يوسف القرضاوي:

ولستُ مُحدثكم -أيها الإخوة- عن قصة الفتح وأسبابه وأحداثه، فذلك يقتضي وقتًا أطول، ولكني مُحدثكم عن رسول الله، في يوم الفتح، يوم نصره الله على عدوِّه، وحقَّق له أمله، وأنجز وعده. فها هي مكة العتيدة لعاتية، تسقُط أمام كتائب الرحمن وجنود القرآن .. مكة التي خرج منها الرسول ليلاً، فها هو يعود إليها نهارًا .. وخرج منها خُفية، فها هو يعود إليها جهارًا .. وخرج منها مُضطهدًا، فها هو يعود إليها فاتحًا منتصرًا.

وليس أحب إلى الإنسان المهاجر من أن يعود إلى وطنه ومرتع صباه، بعد أن أخرج منها إخراجًا .. فلا عجب أن قرت عين رسول الله بالفتح، واستمع في سرور إلى عبد الله بن أم مكتوم، وهو ينشد بين يديه حين دخل مكة:

يا حبذا مكة من وادي *** أرض بها أهلي وعوادي
أرض بها أمشي بلا هادي *** أرض بها ترسخ أوتادي  

حينما علم الرجل تبختر بالنعمة والعافية، كما تبختر بالشدة والمحنة .. ومن الناس مَن يثبت في الشدائد والأزمات، ويصبر في البأساء والضراء، حتى إذا انزاحت الغمة، وجاءت النعمة، وأقبل الرخاء والسعة، ركبهم الغرور، وسيطر عليهم العُجب والكِبر، وأعمتهم نشوة الظَّفَر والنصر، وغرَّهم بالله الغَرور.

وهكذا عرفنا كثيرًا من الفاتحين المنتصرين من قديم وحديث .. ولكن موقف رسول الله يوم الفتح الأعظم هو أحد الدلائل على أن الله قد اصطنعه لنفسه، وصنعه على عينه، وبعثه ليتمَّ به مكارم الأخلاق  .

           لقد دخل مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح مُرجِّعًا، وقد حنى رأسه تواضعا لله، حتى قال أنس t: " دخل رسول الله مكة يوم الفتح، وبطنه على راحلته متخشعًا"  .

ولأول مرة، ترى الدنيا فاتحًا ينتصر على أعدائه، وتدين له عاصمة بلاده، يدخلها في مثل هذا التواضع والإخبات والخشوع لله رب العالمين.

ونهض رسول الله والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد الحرام، فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثم طاف بالبيت وفي يده قوس، وحوله البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنمًا، فجعل يطعنها بالقوس ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]، {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49]، والأصنام تتساقط على وجوهها   .. وأمر بـ (هُبل) أعظم هذه الأصنام، فكسر وهو واقف عليه، وأبو سفيان يشهد بعينه نهاية (هُبل) الذي وقف يوم (أُحد) يخاطبه ويقول: أُعل هبل)  ؛ ولهذا ذكَّره الزبير بذلك، فقال: يا أبا سفيان، قد كسر (هُبل)، فإنك كنت منه في يوم (أُحد) في غرور.

ولما أكمل النبي، الطواف، دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، فأمر بها ففُتحت فدخلها، فرأى فيها الصور، ورأى فيها صورة إبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام، فقال: "قاتلهم الله، والله إن استقسما بها قط"  ؛ أي: ما استقسما بها قط.

ورأى في الكعبة حمامة من عيدان فكسرها بيده  ، ثم أمر بالصور فمحيت  ، ثم أغلق عليه الباب، ومعه أسامة وبلال، فاستقبلا الجدار الذي يقابل الباب، حتى إذا كان بينه وبينه ثلاثة أذرع، وقف وصلى هناك، ثم دار في البيت وكبّر في نواحيه، ووحّد الله تعالى  ، ثم فتح الباب، وقريش قد ملأت المسجد صفوفًا ينتظرون، ماذا يصنع محمد؟

إنهم هم الذين طالما آذوه وعذبوا أصحابه، طالما امتزجت سياطهم بدماء المؤمنين ولحومهم.

إنهم الذين أخرجوه من أحب بلاد الله إلى الله، وأحب بلاد الله إليه.

مكة .. هم الذين أخرجوا أصحابه من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله.

إنهم الذين قاتلوهم في بدر وأُحد، وحاصروهم في الخندق، وقتلوا العشرات والمئات من جنده المؤمنين.

إنهم هم العُتاة القُساة الطُّغاة، وقد أكنت منهم الفرصة، وحان الموعد للنقمة والقصاص ..

لا بُدَّ أن يُحاكم إذن هؤلاء الخصوم، فتضرب منهم الأعناق، وتطيح الرءوس، أو تعمل السهام في رقابهم دون محاكمة ولا مقاضاة.

هذا ما يتوقعه الناس في مثل هذا الموقف الرهيب، وهذا ما يفعله المنتصرون في القديم والحديث.

ولو انتقم النبي منهم ما كان ظالمًا لهم .. ولكن رسول الله صنع غير هذا، لقد نادى قريشًا وهم ناكسو رءوسهم، ينتظرون الكلمة الفاصلة، تخرج من بين شفتيه فقال: "يا معشر قريش، ما تظنون أني فاعل بكم؟ ".

قالوا: خيرًا، أخ كريم، وابن أخ كريم.

هنالك قال: "إني أقول ما قال يوسف لأخوته: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف: 92]، اذهبوا فأنتم الطلقاء"  .

وهكذا بكلمة واحدة، أطلقهم الرسول، وأصدر هذا العفو العام، وضرب المثل الأعلى في تسامح القادرين على الانتقام والاقتصاص. حتى إن أم هانئ بنت أبي طالب، تجير حموين لها مشركين، فيقرُّ النبي هذا التدخُّل من امرأة في شأن من شئون الدولة، ويعترف بهذا الأمان الخاص، ويقول: "قد أجرنا ما أجرت أم هانئ"  .

وصلى -عليه الصلاة والسلام- في المسجد، فقَدِم إليه علي بن أبي طالب بعد أن جلس .. عليٌّ ابن عمه وزوج ابنته، جاء ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك. وكانت سقاية الحجاج مع بني هاشم، وهي مكلفة وغُرم لا غُنم فيه، بينما كانت الحجابة مع بني طلحة، وهي غُنم لا غُرم فيه، وكذلك انطلق العباس عمُّ النبي في رجال من بني هاشم أن يختصهم الرسول بمفتاح الكعبة.

ولكن النبي دعا عثمان بن طلحة، الذي كان قد منع النبي يومًا من دخول الكعبة في مكة، وأغلظ له ونال منه، فلم يمنع ذلك النبي أن يناديه ويقول له: "يا عثمان، هاك مفتاحك، اليوم يوم وفاء وبر، يا عثمان، خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان، إن الله استأمنك على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف"  .

ثم التفت إلى ابن عمه، وعمه وغيرهما من بني هاشم وقال لهم: "إنما أعطيكم ما تُرزءون لا ما تَرزءون"  .

فإذا كان المنتصرون الذين يقبضون على أزِمَّة السلطان، يسارعون بتوزيع المغانم والأسلاب على الأقارب والأصحاب والمحاسيب، فها هو يوم الفتح الأعظم يعطي أقرب الناس إليه ما يَزرأهم ويُكلِّفهم، ويعطي البعيدين عنه والمُعادين له، ما يجلب عليهم رزقًا دارًّا، وعيشًا قارًّا.

عرف الناس الفاتحين المنتصرين تشمخ أنوفهم، وتتمايل بنشوة النصر رءوسهم، وينسبون النصر والفضل في نجاحهم لكفايتهم وبراعتهم ومهارتهم وحسن حيلتهم وتدبيرهم؛ ولذلك يُوعزون إلى أتباعهم وأنصارهم أن يهتفوا بأسمائهم، ويُشيدوا بذكرهم، ويرفعوا صورهم في كل مكان.

ولكن النبي نسب الفضل في هذا النصر كله إلى الله وحده، فكان هتافه ونشيده الدائم في هذا اليوم العظيم: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده"  ، فهكذا كان.

ودخل دار أم هانئ بنت عمه فاغتسل وصلى ثماني ركعات في بيتها، وكان الوقت ضحى، فظنها من ظنها صلاة الضحى، وإنما هي كما قال الحافظ ابن القيم: "صلاة الفتح"  . ولهذا قالت أم هانئ: "ما رأيته صلاها قط قبلها ولا بعدها"  .

وكان أمراء الإسلام إذا فتحوا بلدًا أو حصنًا، صلوا عقيب الفتح هذه الصلاة؛ اقتداءً برسول الله  .

وعرَف الناس أصحاب المبادئ، عرَف الناس كثيرًا من أصحاب المبادئ والعقائد يتمسكون بها قبل أن يتمكَّنوا ويحكموا وينتصروا، فإذا حكموا وانتصروا تبخَّرت هذه المبادئ العذبة، وارتدوا على أعقابهم القهقرى، وأصبحت هذه المبادئ حبرًا على ورق، أو كلامًا أجوف.

ولكن الرسول الذي نادى بالعدل والمساواة من أول يوم وهو في مكة، لم يتخلَّ عنها لحظة واحدة، فها هو يأخذ بعِضادتي الكعبة، ويعلن في قريش أهل الحسب والنسب، وأولي العزة والفخار فيقول: "يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظمها بالآباء، الناس لآدم، وآدم من تراب"  ، ثم تلا هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

أيها الإخوة، ذلكم هو رسول الله في يوم الفتح.

استمساك بالحق إلى أبعد مدى، وسماحة وعفو، وخشوع وتواضع، وصلاة واستغفار، وإنابة إلى الله، وصدق الله العظيم إذ يقول: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1 - 3].

نسأل الله تعالى أن يرزقنا الظَّفَر على عدونا، وأن يفتح لنا فتحًا مبينًا، ويهدينا صراطًا مستقيمًا، وينصرنا نصرًا عزيزًا، وأن يجعلنا أهلاً لنصره الذي وعد به المؤمنين.

 

 
عبرٌ من فتح مكّة لحاضر المسلمين ومستقبلهم
 
ونتناولها فيما يلي:
1. الكتمان:

ما أحوج المسلمين اليوم أن يتعلموا الكتمان من هذه الغزوة، فأمورهم كلها مكشوفة، بل مكشفة، وأعداؤهم يعرفون عنهم كل شيء، لا تكاد تخفى عليهم، فلا سر لدى المسلمين يبقى مكتوماً.

لقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم أشد الحرص علىألا يكشف نياته لفتح مكة لأي إنسان، عندما اعتزم الحركة إلى مكة وكان سبيله إلى ذلك الكتمان الشديد.

لم يبح بنياته لأقرب أصحابه عن نفسه: أبي بكر الصديق، بل لم يبح بنياته لأحب النساء إليه عائشة بنت أبي بكر الصديق، وبقيت نياته مكتومة حتى أنجز هو وأصحابه جميع استعدادات الحركة، وحتى وصل أمر الاستحضار إلى المسلمين كافة خارج المدينة وداخلها، ولكنه كشف نياته في الحركة إلى مكة قبيل موعد خروجه من المدينة، حيث لم يبق هناك مسوغ للكتمان، لأن الحركة أصبحت وشيكة الوقوع.

ومع ذلك، بث عيونه وأرصاده، لتحول دون تسرب المعلومات عن حركته إلى قريش.

بث عيونه داخل المدينة ليقضي على كل محاولة لتسريب الأخبار من أهلها إلى قريش، وقد رأيتَ كيف اطلع على إرسال حاطب بن أبي بلتعة برسالته إلى مكة، فاستطاع حجز تلك الرسالة.

وبث عيونه وأرصاده داخل المدينة وخارجها ليحرم قريشاً من الحصول على المعلومات عن نيات المسلمين، وليحرم المنافقين والموالين لقريش من إرسال المعلومات إليها.

وبقي النبي صلى الله عليه وسلم يقظاً كل اليقظة، حذراً كل الحذر، حتى وصل إلى ضواحي مكة، ونجح بترتيباته في حرمان قريش من معرفة نيات المسلمين أعظم نجاح.

ولكي يلقي النبي صلى الله عليه وسلم ظلاً كثيفاً من الكتمان على نياته، بعث سرية أبي قتادة الأنصاري إلى بطن إضم، شمالي المدينة المنورة، بينما كان يستعد لفتح مكة في جنوب المدينة المنورة، فسارت أخبار المسلمين بأنهم يتجهون شمالاً لكتمان اتجاههم نحو الجنوب.

ولو انكشفت نيات المسلمين لقريش في وقت مبكر، لاستطاعت حشد حلفائها وتنظيم قواتها وإعداد خطة مناسبة لمقابلة المسلمين، ولاستطاعت مقاومة المسلمين أطول مدة ممكنة دفاعاً عن مكة المكرمة ولأوقعت بهم خسائر في الأرواح والأموال، وكانت قريش قد استطاعت حشد عشرة آلاف مقاتل في غزوة الأحزاب كما هو معروف، وباستطاعتها أن تحشد مثل هذا الحشد وأكثر دفاعاً عن مكة.

وليس من السهل أن يتحرك جيش ضخم تعداده عشرة آلاف مقاتل من المدينة إلى مكة بالمراحل دون أن تعرف قريش وقت حركته وموعد وصوله ونياته، حتى يصل ذلك الجيش اللجب إلى ضواحي مكة القريبة، فيفلت الأمر من قريش، ولا تعرف ما تصنع إلا اللجوء إلى الاستسلام دون مقاومة.

إن تدابير النبي صلى الله عليه وسلم في الكتمان أمّنت له مباغتة كاملة لقريش، وأجبرتها على الرضوخ للأمر الواقع: الاستسلام.

وهذا الكتمان لا مثيل له في سائر الحروب، ما أحرانا أن نتعلمه ونقتدي به ونسير على منواله.

 
2. بعد النظر:

القائد المتميز هو الذي يتسم ببعد النظر، بالإضافة إلى مزاياه الأخرى، ويتخذ لكل أمر محتمل الوقوع التدابير الضرورية لمعالجته، دون أن يترك مصائر قواته للاحتمالات بدون إعداد كامل.

إن النصر من عند الله، يؤتيه من يشاء، ولكن الله سبحانه وتعالى ينصر من أعدّ عدّته واحتاط لكل احتمال كبير أو صغير قد يصادفه، لذلك يشدد العسكريون على إدخال أسوأ الاحتمالات في حسابهم في أية عملية عسكرية.

لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحبس أبو سفيان في مدخل الجبل إلى مكة، حتى تمر عليه جنود المسلمين، فيحدث قومه عن بينة ويقين، ولكي لا يتكون إسراعه في العودة إلى قريش قبل أن تنهار معنوياته تماماً، سبباً لاحتمال وقوع أية مقاومة من قريش، مهما تكن نوعها ودرجة خطورتها. وفعلاً اقتنع أبو سفيان بعد أن رأى قوات المسلمين كلها، أن قريشاً لا قبل لها بالمقاومة.

وقد أدخل النبي صلى الله عليه وسلم في حساباته أسوأ الاحتمالات أيضاً، عند تنظيمه خطة الفتح، فكانت تلك الخطة تؤمن تطويق البلد من جهاته الأربع بقوات مكتفية بذاتها، بإمكانها العمل مستقلة عن القوات الأخرى عند الحاجة، وبذلك تستطيع القضاء على أية مقاومة في أية جهة من جهات مكة، كما تؤمن توزيع قوات قريش إلى أقسام لمقاومة كل رتل من أرتال المسلمين على انفراد، فتكون قوات قريش ضعيفة في كل مكان.

واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم هذه التدابير الفاعلة بالرغم من اعتقاده بأن احتمال مقاومة قريش للمسلمين ضعيف جداً، وذلك ليحول دون مباغتة قواته وإيقاع الخسائر لها، مهما تكن الظروف والأحوال.

فما أحرى أن يتعلم المسلمون هذا الدرس ويطبقوه في إعداد خططهم المصيرية!

3. العقيدة:

كان جيش الفتح مؤلفاً من المهاجرين والأنصار ومسلمي أكثر القبائل العربية المعروفة في حينه، لا يوحد بينه غير العقيدة الواحدة، التي يضحي الجميع من أجلها، وتشيع بينهم الانسجام الفكري الذي يجعل التعاون الوثيق بيهم سائداً.

لقد كانت انتصارات المسلمين الأولين انتصارات عقيدة بلا مراء، وكان النصر من أول ثمرات هذه العقيدة على النطاق الجماعي.

أما على النطاق الفردي، فقد رأيت كيف طوت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فراش النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيها أبي سفيان، وقد جاء من سفر قاصد بعد غياب طويل ذلك لأنها رغبت به عن مشرك نجس، ولو كان هذا المشرك أباها الحبيب.

وعندما جاء أبو سفيان مع العباس ليواجه النبي صلى الله عليه وسلم، رآه عمر بن الخطاب، فغادر خيمته واشتد نحو خيمة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وصل إليها قال: يا رسول الله! دعني اضرب عنقه. قال العباس: يا رسول الله! إني قد أجرته، فلما أكثر عمر قال العباس: مهلاً يا عمر، ما تصنع هذا إلا لأنه من بني عبد مناف، ولو كان من بني عدي ما قلت هذه المقالة، فقال عمر: مهلا يا عباس، فوالله إسلامك يوم أسلمت كان أحب لي من إسلام الخطاب لو أسلم. لقد كان يمثل عقيدة المسلمين الأولين، بينما كان العباس حديث عهد بالإسلام.

وكيف نعلل إقدام المهاجرين على المشاركة في غزوة الفتح، التي لم يكن من المستبعد أن تصطرع فيها قوات المسلمين وقوات قريش؟

إن عقيدة المسلمين لا تخضع للمصالح الشخصية، بل هي رهن المصالح العامة وحدها، وقد انتصر المسلمون بالعقيدة الراسخة، وهي اليوم غائبة عنهم فذلوا وهزموا، فما أحراهم أن يعودوا إلى عقيدتهم ليستعيدوا مكانتهم بين الأمم، ولينتصروا على أعدائهم، فقد غاب عنهم النصر منذ غاب عنهم الإسلام.

4. المعنويات:

لم تكن معنويات المسلمين في وقت من الأوقات أعلى وأقوى مما كانت عليه أيام فتح مكة، البلد المقدس عند المسلمين الذين يتوجهون إليه في صلاتهم كل يوم، ويحجون بيته كل سنة. وكانت أهمية مكة للمهاجرين أكثر من أنها بلد مقدس، فهي بلدهم الذي هاجروا منه فراراً بدينهم وخلفوا فيها أموالهم وذويهم وكل عزيز عليهم.

لذلك لم يتخلف أحد من المسلمين عن هذه الغزوة إلا القليل من ذوي الأعذار القاهرة الصعبة.

أما معنويات قريش، فقد كانت متردية للغاية، فقد أثرت فيهم عمرة القضاء، كما أثر فيهم انتشار الإسلام في كل بيت من بيوت مكة تقريباً، وبذلك فقدت مكة روح المقاومة وروح القتال. ومما زاد في انهيار معنويات قريش، ما اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم من إيقاد عشرة آلاف نار في ليلة الفتح، ومرور الجيش كله بأبي سفيان قائد قريش أو أكبر قادتها، ودخول أرتال المسلمين في كل جوانب مكة.

لقد كانت غزوة الفتح معركة معنويات بالدرجة الأولى، ما أحرانا أن نتعلمها لحاضرنا ومستقبلنا.

5. السلم:

حرص النبي صلى الله عليه وسلم من خروجه لفتح مكة على نياته السلمية، ليؤلف بذلك قلوب المشركين، ويجعلها تقبل على الإسلام.

وقد عهد عليه الصلاة والسلام إلى قادته حين أمرهم أن يدخلوا مكة ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم. وبقي النبي صلى الله عليه وسلم مصراً على نياته السلمية بعد الفتح أيضاً، فقد أصدر العفو العام عن قريش قائلاً:» اذهبوا فأنتم الطلقاء «.

وكما حرص النبي صلى الله عليه وسلم الجماعي، حرص كذلك على السلم الفردي، فمنع القتل حتى لفرد واحد من المشركين، مهما تكن الأسباب والأعذار.

فقد قتلت خزاعة حلفاء المسلمين رجلاً من هذيل غداة يوم الفتح لثأر سابق لها عنده، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم أشد الغضب، وقام في الناس خطيباً، ومما قاله:» يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل فقد كثر إن نفع، لقد قتلتم قتيلاً لأدينه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاؤوا قدم قاتله، وإن شاؤوا فعقله «، أي ديته، ثم ودي بعد ذلك الرجل الذي قتلت خزاعة.

بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل رجلاً من المشركين أراد اغتياله شخصياً وهو يطوف في البيت، بل تلطف معه. فقد اقترب فضالة بن عمير يريد أن يجد له فرصة ليقتله، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم نظرة عرف بها طويته، فاستدعاه وسأله:» ماذا كنت تحدث به نفسك؟ «قال: لا شيء، كنتُ أذكر الله! فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وتلطف معه ووضع يده على صدره، فانصرف الرجل وهو يقول: ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه.

ورأى علي بن أبي طالب رضي الله عنه مفتاح الكعبة بيد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية، فقال عليه الصلاة والسلام:» أين عثمان بن طلحة؟ «فلما جاء عثمان قال له:» يا ابن طلحة، هاكَ مفتاحك، اليوم يوم بر ووفاء «.

وقد رأى المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح يتواضع لله، حتى رأوه يوم ذلك ورأسه قد انحنى على رحله، وبدا عليه التواضع الجم، حتى كادت لحيته تمس واسطة راحلته خشوعاً، وترقرقت في عينيه الدموع تواضعاً لله وشكراً.

تلك هي سمات الخلُق الإسلامي الرفيع في السلم والوفاء والتواضع، ولكنه سلم الأقوياء لا سلم الضعفاء، ووفاء القادرين لا وفاء العاجزين، وتواضع العزة لا تواضع الذلة.

إن سلم الأقوياء القادرين هو السلام الذي يأمر به الإسلام، أما سلم الضعفاء العاجزين فهو الاستسلام الذي ينهى عنه الإسلام.

ذلك ما ينبغي أن نتعلمه من فتح مكة، لحاضر المسلمين ومستقبلهم، لحاضر أفضل ومستقبل أحس، وهي عبر لمن يعتبر.